مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الاساسية جلد 3

اشارة

نام كتاب: مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية

موضوع: قواعد فقهي

نويسنده: مازندراني، علي اكبر سيفي

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 3

تاريخ نشر: ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

تقديم:

اشارة

الحمد لِلّهِ ربّ العالمين. أَحمَدُه استتماماً لنعمته، و استسلاماً لعزّته، و استعصاماً من معصيته. و أَستعينه فاقةً إلي كفايته.

و الصَّلٰاة عليٰ محمّدٍ عبده و رسوله المصطفيٰ، أرسله بالهديٰ و دين الحق، و جعله بلاغاً لرسالته، و كرامةً لأُمَّته، و أنزل عليه القرآن نوراً لا تطفَأُ مصابيحهُ، و بحراً لا يُدرَك قعره، و منهاجاً لا يضلّ نهجه، و فرقاناً لا يخمد برهانه.

و السَّلام عليٰ آله المعصومين المكرَّمين الذين هم معادن الايمان و بحبوحاتُه، و ينابيع العلم، و أساس الدين، و عماد اليقين.

و نسألُ اللّٰهَ سبحانه أن يُوَفّقنا لمعرفتهم و طاعتهم، و نشر علومهم و معارفهم، و يرزقنا شفاعتهم يوم نأتيه فرداً.

أما بعد فينبغي قبل الورود في البحث عن القواعد العامة- المبحوث عنها في هذا الجزءِ من «مباني الفقه الفعّال» - تمهيد مقدّمة، و هي تحقيق في تبيين ماهية الحكم الوضعي و أقسامه و الفرق بينه و بين الحكم التكليفي و إعطاء الضابطة في ذلك؛ نظراً إلي شدّة مساس كثير من المسائل الآتية و ارتباطها بذلك.

و إنّا و إن بحثنا عن ذلك في الجزء الأوّل من كتابنا «بدائع البحوث»، و لكن مع ذلك لا يزال زوايا من هذا المبحث بحاجة إلي تحقيق و توضيح أكثر مما بيّناه هناك. و من هنا رأينا الأنسب أن نبحث عن ذلك في طليعة هذا الكتاب بعنوان المقدمة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 3

تحقيق في الحكم الوضعي و أقسامه

اشارة

1- إعطاء الضابطة في تعريف العناوين المصطلحة.

2- تحرير كلام المحقق الخراساني.

3- تعريف الشهيد الأوّل و نقده.

4- كلام المحقق النائيني في تعريف الحكم الوضعي و نقده.

5- تعريف الشهيد الصدر و نقده.

6- كلام السيد الامام قدس سره نقده.

7- مقتضي التحقيق في تعريف الحكم الوضعي.

إعطاء الضابطة في تعريف العناوين المصطلحة

ينبغي قبل الورود في تحقيق المقام التنبيه علي أمرٍ، و هو أنّ تعريف أيّ عنوان مصطلح اصولي أو فقهي يبتني علي ما جري عليه اصطلاح القوم و ما هو المتداول بينهم في إطلاق ذلك العنوان علي موارده. فينبغي ملاحظة خصوصيات مجموع موارد إطلاق ذلك العنوان في اصطلاح الاصول و الفقه، ثمّ أخذ الجامع المشترك بين تلك الموارد، ثمّ تعريف ذلك العنوان مع ملاحظة ذلك الجامع المشترك.

و عليه ففي تعريف الحكم الوضعي لا بدّ من ملاحظة الخصوصية الجامعة المشتركة بين موارد إطلاق الحكم الوضعي في تعابير الفقهاء و الاصوليون؛

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 4

ليكون جامعاً شاملًا لأنحاء الحكم الوضعي، و لئلّا يدخل في التعريف ما لم يعدّه القوم من الحكم- فضلًا عن الحكم الوضعي- و أن لا يدخل فيه الحكم التكليفي.

و يمكن استفادة هذه الضابطة في خصوص المقام من كلام المحقق الخراساني؛ حيث إنّه جعل المعيار في تعريف الحكم الوضعي و صدقه، إطلاق لفظ الحكم عليه في تعابير الفقهاء و الاصوليين.

فانه بعد نفي النزاع في صحة تقسيم الحكم إلي الوضعي و التكليفي، استشهد لذلك باطلاق الحكم علي الوضعي في كلمات القوم؛ حيث قال: «و يشهد به كثرةُ إطلاق الحكم عليه في كلماتهم. و الالتزام بالتجوّز فيه كما تري» «1». و لأجل ذلك لم ير وقعاً للنزاع في كون الحكم الوضعي محصوراً أو غير محصور و لا وجهاً للاختلاف في تعداد

الحكم الوضعي. و لا يخفي أنّه لا يستفاد من كلامه تعريف جامع للحكم الوضعي.

تحرير كلام المحقق الخراساني

و ينبغي لتحقيق مرام المحقق الخراساني و بيان لبّ مراده و حاصل مقصوده، تلخيص كلامه «2» في عدّة نكات.

1- لا ينبغي النزاع في صحة تقسيم الحكم إلي التكليفي و الوضعي؛ نظراً إلي صحة إطلاق الحكم علي الوضعي بملاحظة بعض معاني الحكم، و لكثرة إطلاق لفظ الحكم عليه في كلمات الأصحاب.

و من هنا لا وقع للنزاع في تعداده و أنّه محصور أو غير محصور، بعد تبيُّن الملاك في صدقه.

______________________________

(1) كفاية الاصول: ج 2، ص 302.

(2) المصدر: ص 308- 301.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 5

و إنّما ينبغي النزاع في كون الحكم الوضعي مجعولًا تشريعياً مستقلًا باستفادته من الخطاب الشرعي؟ أو لا، بل مجعول تبعيّ بانتزاعه من الحكم التكليفي.

2- ينقسم الحكم الوضعي إلي ثلاثة أقسام:

أحدها: ما ليس مجعولًا بالجعل التشريعي أصلًا- لا تبعاً و لا مستقلًا-، بل مجعول بالجعل التكويني عَرَضاً بايجاد معروضه، كالسببية و الشرطية و المانعية الثابتة لذوات السبب و الشرط و المانع قبل التكليف بها.

ثانيها: ما كان مجعولًا شرعياً بتبع التكليف بمناشئ انتزاعه، كالجزئية و الشرطية و المانعية و القاطعية للمأمور به بعد تعلق التكليف بمناشئ انتزاعه.

ثالثها: ما كان مجعولًا مستقلًا باستفادته من الخطاب الشرعي المتضمّن لانشائه و جعله، و يكون التكليف من آثاره و أحكامه، كالحجية و القضاوة و الولاية و النيابة و الحرية و الرقية و الزوجية و الملكية و غير ذلك؛ حيث لا يتوقف اعتبارها علي ملاحظة التكليف المستفاد من الخطاب، و إن أمكن انتزاعها من التكليف.

3- وهم و دفعٌ:

أما الوهم، فحاصله: أنّ الملكية ليس بحذائها شي ء في الخارج، بل هي من مقولة الجدة

التي هي الحالة الطارئة علي الانسان كالتعمّم و التقمّص و التنعُّل، و ليس حصولها بسبب إنشاء عقد، فكيف يمكن جعلها و اعتبارها مستقلًا بمجرد إنشائه؟

أما الدفع، فتحريره: أنّ لفظ الملك مشترك بين المعني المذكور و بين اختصاص شي ءٍ بشي ءٍ؛ إما لاستناد وجوده إلي الشي ءِ المتخصّص كالعالم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 6

للباري تعالي، و إما لاختصاص استعماله و تصرّفه فيه كالفرس و الثوب لزيد مثلًا، و إمّا لانشاء اختصاصه به بعقد من العقود. و هذا المعني الأخير يكون مجعولًا شرعياً مستقلًا بانشائه في الخطاب، و لا إشكال في وجود ما بحذاءٍ للملكية بهذا المعني في الخارج.

و أنت تري أنّ صاحب الكفاية لم يَنفِ مطلقاً كون الشرطية و المانعية و نحوها مجعولًا شرعياً، بل إنّما نفي ذلك عن ذات الشرط و المانع و القاطع قبل جعل التكليف، و أما بعد التكليف، فقد صرّح بكونها مجعولات شرعية بتبع التكليف بمناشئ انتزاعها.

و من هنا لا يرد عليه بعض ما اورد عليه من الاشكالات. و سيتضح ذلك في خلال المطالب الآتية.

و يمكن أن يستفاد من الفقرة الاولي من كلامه أنّ ما صحّ إطلاق الحكم عليه و لم يكن حكماً تكليفياً، فهو حكم وضعي. و هذا التحديد للحكم الوضعي إنّما يستفاد من هذه الفقرة من كلامه تلويحاً، و إلّا ليست جملة في خلال كلامه في المقام تدل علي تعريف الحكم الوضعي بالمطابقة، كما سيأتي من بعض الأعلام.

إذا عرفت ذلك فنقول:

قد عُرِّف الحكم الوضعي بتعاريف، أهمّها أربعة:

تعريف الشهيد الأوّل و نقده

أحدها: تعريف الشهيد الأوّل بقوله: «و الوضع هو الحكم علي الشي ءِ بكونه سبباً أو شرطاً أو مانعاً» «1».

______________________________

(1) القواعد و الفوائد: ج 1، ص 39.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية،

ج 3، ص: 7

و فيه: أنّ هذا التعريف غير جامع؛ ضرورة عدم شموله لكثير من الوضعيات التي عدّها القوم من الأحكام الوضعية، كالزوجية و الملكية و الطهارة و النجاسة و الصحة و البطلان و … فانّهم أطلقوا لفظ الحكم علي هذه العناوين و نحوها كثيراً.

كلام المحقق النائيني في تعريف الحكم الوضعي و نقده

ثانيها: ما عرّفه المحقق النائيني بقوله:

«و أما الأحكام الوضعية: فهي من المجعولات الشرعية التي لا تتضمّن البعث و الزجر و لا تتعلّق بالأفعال ابتداءً أوّلًا و بالذات، و إن كان لها نحو تعلّق به و لو باعتبار ما يستتبعها من الأحكام التكليفية، سواء تعلّق الجعل الشرعي بها ابتداءً تأسيساً أو إمضاءً، أو تعلّق الجعل الشرعي بمنشإ انتزاعها» «1».

و هذا التعريف يفيد أخذ عدّة عناصر في تعريف الحكم الوضعي و تعيين ماهيته.

1- كونه من المجعولات الشرعية، سواءٌ تعلّق الجعل به تأسيساً أو إمضاءً، و سواءٌ تعلق الجعل به مستقلًاّ أو بجعل منشأ انتزاعه.

______________________________

(1) فوائد الاصول: ج 4، ص 384.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 8

2- عدم كونه متضمّناً للبعث و الزّجر.

3- عدم تعلّقه بأفعال المكلّفين ابتداءً و أوّلًا و بالذات.

4- تعلّقه بالأفعال ثانياً و بالعرض، باعتبار ما يستتبعها من الأحكام التكليفية.

و لكن يرد عليه: أنّ الحكم الوضعي لا يختص بالمجعولات الشرعية؛ لارتكازه و اعتباره بين العقلاء أيضاً؛ فانّ الشرطية و الملكية و الزوجية و السببية مما يعتبره العقلاءُ فيما بينهم و يرتبون عليها آثارها المترقبة مع قطع النظر عن الشرع.

تعريف الشهيد الصدر و نقده

ثالثها: ما عرّفه الشهيد الصدر بأنّه: «كل حكم يشرّع وضعاً معيّناً يكون له تأثير غير مباشر علي سلوك الانسان … » «1».

و يرد عليه: أنّ هذا التعريف إنّما ينطبق علي مثل الزوجية و الملكية و السببية و الشرطية في المعاملات و الجزائيات مما له ارتباط بسلوك الانسان في المجتمع. و لا ينطبق علي الشرطية و المانعية و نحوها ممّا لا تأثير ملموس له في سلوك الانسان، إلّا بضرب من التأويل، كالجزئية و الشرطية و المانعية في أجزاء و شرائط و موانع العبادات التوقيفية،

كالتطهير من الحدث، و الصوم، و الصلاة و نحو ذلك مما لا مساس له بسلوك الانسان و تعامله مع المجتمع. و عليه فالتعريف المزبور ليس بجامع لجميع أقسام الحكم الوضعي و أفراده.

هذا مضافاً إلي أنّه لا ريب في تأثير بعض الأحكام الستر و النظر و حجاب المرأة و أحكام التقية و لا سيما المداراتية منها.

و من هنا تري عدّةً من الدُّوَل الكافرة قد منعوا الحجاب و أخرجوا النساء المسلمات من الدوائر الحكومية و مراكزهم الثقافية و السياسية و ضيّقوا عليهنّ، و ليس ذلك إلّا لأجل تأثير أحكام الحجاب التكليفية في سلوكهن مع المجتمع الذي يَعِشْنَ فيه. كما تشاهدون أنّ العمل بالأحكام التكليفية المشروعة

______________________________

(1) المجموعة الكاملة: ج 3، ص 105- 106.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 9

في التقية، أيّ تأثير عظيم في إطفاءِ نار الفتنة و الاختلاف بين المسلمين.

و عليه فليس التعريف المزبور مانعاً.

مضافاً إلي عدم كون هذا التعريف مانعاً عن الحكم التكليفي المتضمّن للبعث و الزجر، المتعلّق بالأفعال، إلّا بقوله: «وضعاً معيناً». و هذا أشبه بمصادرة المطلوب؛ حيث اخذ لفظ المعرَّف في التعريف.

هذا كله إذا كان مقصوده سلوك المكلّف مع الآخرين، من ساير أفراد المجتمع.

و إلّا فلو كان مراده السلوك بالمعني العام الشامل للسلوك الفردي و الأعمّ من التأثير المادّي و المعنوي، لا فرق بين الحكم الوضعي و التكليفي كما تري. و تقييد التأثير في كلامه بغير مباشر لا ينفع في الفرق.

كلام السيد الامام قدس سره

رابعها: ما جاءَ في كلام السيد الامام الراحل «1». و ينبغي تنقيح كلامه؛ لما فيه من نكات نافعة في بيان ماهية الحكم الوضعي و أقسامه و سعة نطاق الوضعيات. و ستعرف أنّ صدر كلامه يوهم إدخال مطلق الوضعيات في الحكم

الوضعي، رغماً لما جاء في ذيل كلامه.

و حاصله: يتلخّص في امورٍ:

1- إنّه يشترك الحكم التكليفي و الوضعي بالاشتراك المعنوي؛ نظراً إلي وجود الجامع بينهما، و هو أصل الحكم و ماهيته.

و عرّف الحكم بكلّ مقرَّر و قانون عرفي أو شرعي نافذ في المجتمع ممّن له

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 114- 121.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 10

أهلية التقنين، تكليفاً كان أو وضعاً؛ حيث قال: «كلّ مقرَّر و قانون من مقنِّن نافذٍ في المجتمع يطلق عليه الحكم- إلي أن قال- و بالجملة: كلُّ مقرر و قانون عرفي أو شرعي ممن له أهلية التقرير و التقنين حكم؛ تكليفاً كان أو وضعاً، و لا يخرج المقررات الشرعية أو العرفية من واحد منهما و لا ثالث لهما» «1».

2- تعريف الحكم صادق علي الرسالة و الخلافة و الامامة و الحكومة و الامارة و القضاوة؛ نظراً إلي تعلّق الوضع و الجعل بهذه العناوين، كما دلّ عليه قوله تعالي: «وَ كُلًّا جَعَلْنٰا نَبِيًّا» «2» و «إِنِّي جٰاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» «3» و «إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً» «4» و قوله تعالي: «وَ جَعَلْنٰا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ» «5» و قوله عليه السلام:

فانّي قد جعلته عليكم حاكماً» «6».

3- يصدق تعريف الحكم علي الماهيات المخترعة بعد ما تعلّق الجعل بها، فلا وجه لاستيحاش المحقق النائيني عن صدق الحكم عليها مع اعترافه بكون العناوين المخترعة انتزاعية. و ذلك لصدق أنّها من المقرّرات الشرعية.

ثمّ قال السيد الامام في ختام هذه الفقرة من كلامه ما لفظه:

«و كذا لا مانع من جعل الماهيات الاختراعية من الأحكام الوضعية؛ أي من المقررات الشرعية و الوضعيات الالهية. نعم إطلاق الحكم عليها- كإطلاقه علي كثير من الوضعيات- يحتاج إلي التأويل.

______________________________

(1) الرسائل: ج

1، ص 114.

(2) مريم: 49.

(3) سورة البقرة: الآية 28.

(4) البقرة: الآية 118.

(5) الحديد: 26 و العنكبوت: 27.

(6) وسائل الشيعة: ب 11، من أبواب صفات القاضي، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 11

نعم نفس الصلاة و الصوم، كنفس الفاتحة و الركوع و السجود، مع قطع النظر عن تعلّق الأمر بهما و صيرورتهما من المقررات الشرعية، لا تُعدّان من الأحكام الوضعية و لا من الماهيات المخترعة.

فالتحقيق: أنّ جميع المقررات الشرعية تنقسم إلي الوضع و التكليف و لا ثالث لهما، نعم صدق الحكم علي بعضها أوضح من صدقه علي الآخر، بل في بعضها غير صادق، لكن كلامنا ليس في صدق الحكم و عدمه، بل في مطلق الوضعيات، صدق عليها أولًا» «1».

4- الامور الانتزاعية كالجزئية و الشرطية و المانعية و السببية قابلة للجعل مستقلًا، من دون تبعية لجعل مناشئ انتزاعها بالايجاد التكويني، كما يظهر من المحقق النائيني. و ذلك لشهادة الوجدان بامكان ذلك في الاعتباريات، فلا يقاس بالتكوينيات، كما التبس الأمر علي هذا العَلَم.

5- تعريف الحكم الوضعي بكل مقرّر شرعي ما عدا الحكم التكليفي، حتي أنّ الاباحة لو كان لها جعلُ، تكون من الوضعيات.

6- تقسيم الحكم الوضعي إلي:

الف- ما كان منتزعاً من نفس التكليف، كالجزئية و الشرطية و المانعية المنتزعة من التكليف بالصلاة التامة.

«ب» - ما كان مجعولًا شرعياً بتبع اشتراط التكليف به، كالاستطاعة المشروط بها وجوب الحج.

«ج» - ما كان مجعولًا ابتداءً، بلا واسطة تكوينية أو تشريعية، كالنبوّة و الخلافة و الامامة و السببية و الشرطية و المانعية و القاطعية.

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 115.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 12

«د» - ما كان مجعولًا عقيب شي ءٍ اعتباري أو تكويني، كضمان

اليد و الاتلاف المترتب علي الاستيلاءِ العدواني علي مال الغير و إتلافه و حق السبق و التحجير المترتب علي نفس فعل السبق و التحجير. و الملكية المترتبة علي الاحياء و الحيازة و الحدود الشرعية و أحكام القصاص و الديات.

و لا يخفي أنّ هذه الأمثلة كلّها من قبيل الحكم الوضعي المجعول عقيب الأمر التكويني.

و أما المجعول منه عقيب الأمر الاعتباري، فيمكن التمثيل له بصحة البيع المجعولة عقيب ملكية المبيع للمالك، كما يستفاد من قوله: «لا بيع إلّا في الملك»، أو صحة تصرّفات الصبي عقيب بلوغه الشرعي.

«ه» - ما كان مجعولًا عقيب أمر تشريعي من الأسباب الشرعية المعاملية، كالضمان و شغل الذمة عقيب عقد الضمان، و من ذلك الضمان المعاملي الحادث عقيب العقود و الايقاعات.

7- ما لا يقبل الجعل خارج عن الأحكام الوضعية.

فانّه قدس سره قال في ردّ المحقق الخراساني:

«فانه مع تسليم عدم تطرق الجعل التشريعي مطلقاً إلي شي ءٍ لا وجه لعده من الأحكام الوضعية، فان الاحكام الوضعية أي الأحكام الجعلية و المقررات الشرعية، فلا معني لعدّ ما لا يتطرّق إليه الجعل منها» «1».

8- عدم كون الحجية و الطريقية و الكاشفية من الوضعيات، فليست من الأحكام الوضعية؛ حيث قال قدس سره:

«كما أنّ عدّ بعضهم الكاشفية و الطريقة و الحجية و أمثال ذلك من

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 120.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 13

الوضعيات في غير محلّه، فان الحجية سواء كانت بمعني منجزية التكليف أو بمعني قاطعية العذر ليست من المجعولات، كما أنّ الطريقية و الكاشفية للكاشف و الطريق ليستا بمجعولتين، كما مر ذكره في محلّه» «1».

نقد كلام

السيد الامام قدس سره

و لكن يرد علي السيد الامام قدس سره:

أولًا: أنّ مثل النبوة و الخلافة و

الامامة و الإمارة ليس من قبيل الحكم، بل من قبيل المنصب. و الشاهد لذلك انسباق معني المنصب إلي الذهن من إطلاق هذه العناوين، دون الحكم. نعم القضاوة بمعناها المصدري بنفسها حكم إنشائي، لكن لا ربط له بالمقام.

إن قلت: هذا بحسب العرف العام، لا بحسب العرف الخاص، الذي يدور مداره تعيين المعني الاصطلاحي، فالمعيار جريان اصطلاح الفقهاء عليه.

قلت: إطلاق لفظ الحكم علي مثل هذه العناوين لم يُعهد من الفقهاء أيضاً. و مجرد تعلق الجعل لا يدل علي كون المجعول من الأحكام، فان المناصب كلها مجعولات، و لكنها لم تُعرف بأحكام في اصطلاح الفقهاء. بل إنّما يتفرّع الحكم علي المنصب، كما دلّ عليه قوله تعالي: «يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ» «2»؛ حيث يستفاد من هذه الآية تفريع جواز الحكم بين الناس و نفوذه علي جعل منصب الخلافة.

هذا مع أنّ الحكم الوضعي يعتبر فيه كونه خصوصية انتزاعية مأخوذة في متعلّق حكم تكليفي أو موضوعه، أو يُعتبر سبباً و منشأً لترتب الآثار و

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 121.

(2) ص: 26.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 14

الأحكام عليه. و ليست العناوين المزبورة من هذا القبيل، بل إنّما هي عناوين مستقلّة لنفس المنصب، من دون أن تؤخذ في موضوع أو متعلّق حكم تكليفي أو سبباً له.

اللهم إلّا أن يقال: إنّها أيضاً اخذت موضوعاً أو منشأ لوجوب الطاعة و ترتّب آثار الحكم الانشائي و الفتوائي، و عليه فالفقاهة أيضاً تكون من الأحكام الوضعية؛ لأخذها موضوعاً لوجوب التقليد، كما دلّ عليه قوله: «و أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه … فللعوام أن يقلّدوه … » «1».

و لكن مع ذلك كله كون

هذه العناوين من قبيل الأحكام بعيد عن الارتكاز الفقهي و غير معهود بين الفقهاء، بل هي من قبيل المناصب، و لم يُطلق عليها الحكم إلّا بضرب من التأويل، كما بيّناه.

و ثانياً: إنّ العبادات المخترعة بذواتها لم يُعهد في اصطلاح الفقهاء كونها أحكاماً، بل هي عناوين لنفس العبادات و ذوات متعلّقات الأحكام التكليفية. و سيأتي بيان وجه عدم كونها من قبيل الأحكام الوضعية.

و ثالثاً: يوجد تهافت بين صدر كلام السيد الامام و ذيله؛ حيث عقد البحث لتعميم الحكم إلي كل مقرّر و مجعول، و حاول إدخال الماهيات المخترعة في الحكم الوضعي بلحاظ كونها من المقررات الشرعية. و لكن اعترف في ذيل كلامه- في الفقرة الثالثة حَسب ترتيبنا- بعدم صدق الحكم علي الماهيات المخترعة، بل علي غيرها من بعض الوضعيات في الجملة، بل صرّح بنفي كون كلّ مجعول و مقرّر حكماً.

فهل هذا إلّا الاعتراف بعدم كون كلّ مقرّر عرفي أو شرعي من قبيل

______________________________

(1) الاحتجاج: ج 2، ص 511.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 15

الحكم؟!.

فكيف صرّح في صدر كلامه بأنّ كلَّ مقرَّر و مجعول حكمٌ؟!.

و حاصل كلامه: أنّ كلّ حكم مجعولٌ، و ليس كل مجعول حكماً. و من هنا صرّح في كلامه بأنّ ما ليس بمجعول لا يصح إطلاق الحكم عليه، كما عرفت من خلال كلامه.

و لعلّ من هذا القبيل، الأجر؛ حيث إنّ الأجر كما ليس من قبيل الحكم قطعاً؛ لعدم معهودية كونه حكماً في اصطلاح الفقهاء، كذلك ليس بمجعول؛ لوضوح أنّ الأجر مما يؤتيٰ و يُعطي، لا مما يُجعل و يوضع، كما يشهد لذلك قوله: «يُؤْتِكُمُ اللّٰهُ أَجْراً حَسَناً» و قوله: «فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» «1». فلا تري في آية من القرآن استعمال لفظ الجعل

في مورد الأجر. و هذا شاهد علي عدم تعلق الجعل بالأجر.

و السرّ فيه أنّ الأجر من الواقعيات الخارجية، لا من الاعتباريات. نعم مقدار الأجر الموعود علي كثير من الفرائض و المندوبات مجعول، لكنه خارج عن حدّ الحكم و تعريفه، كما هو واضحٌ.

و رابعاً: إنّ تعريفه الحكم الوضعي بكل مقرّر شرعي ما عدا الحكم التكليفي ليس مانعاً؛ نظراً إلي نقضه بموارد عديدة كالمناصب الشرعية و الماهيات المخترعة و الاجور المقدّرة بما لها من المقادير الموعودة علي الفرائض و المندوبات، و غيرها، فانّها من المجعولات الشرعية لكن لم يُعهد في اصطلاح الفقهاء كونها من قبيل الأحكام.

و خامساً: إنّ الاباحة و إن ليست من قبيل التكليف، لكنها لمّا تتعلّق- علي أيّ حال- بفعل المكلّف، و لو علي نحو الترخيص في الفعل و الترك، الحقت

______________________________

(1) الفتح: 10 و 16.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 16

بالأحكام التكليفية؛ نظراً إلي اشتراكها مع ساير الأحكام التكليفية في تعلّقها بالفعل ابتداءً و أولًا و بالذات. و لأنّه لا يفيد الحكم الوضعي بعثاً أو زجراً و لا رخصةً في الفعل و الترك.

و سادساً: إنّه قدس سره جَمعَ بين كون الشرطية و المانعية مجعولًا تبعياً انتزاعياً و بين جعلهما مستقلًا، بل ابتداءً بلا واسطة تكوينية و لا تشريعية و هذا تهافت. «1» اللّهم إلّا أن يكون مقصوده أنّ المجعول التبعي هو الشرطية و المانعية للمأمور به و لكن المجعول الاستقلالي هو اعتبار هذه العناوين لذات الشرط و المانع قبل التكليف لكنه قدس سره لم يبين مراده منه.

و سابعاً: إنّ الحدود- علي فرض كونها من قبيل الأحكام الوضعية- إنّما هي منتزعة من الوجوب المستفاد من الأمر بمناشئ انتزاعها. فان قوله:

«السارق و السارقة فاقطعوا

أيديهما» كما يفيد وجوب قطع اليد بدلالة الأمر المتعلّق به، كذلك يفيد منه كون قطع اليد- بما له من الخصوصيات و القيود- عقاباً و جزاءً خاصاً معيناً محدوداً بحدٍّ و خصوصية، فانتُزِع من هذا الجزاءِ المعين المحدود عنوان الحد.

و عليه فالحد عقوبة و مجازاة معيّنة محدودة منتزعة من الأمر التكليفي باتيان منشأ انتزاعه بسبب معصية و جناية خاصّة. و لا يخفي أنّ سببية الجناية لوجوب الحد أيضاً حكمٌ وضعي آخر غير نفس الحد.

و حاصل الكلام: أنّ فعل القطع و الجلد و الرجم بنفسه ليس من الحدود، بل الذي اعتبر حدّاً إنّما هو عقوبة مخصوصة معيّنة منتزعة من متعلق الأمر، الذي هو نفس الفعل الخارجي و منشأ انتزاعه.

______________________________

(1) راجع إلي حرف «الف» و «ب» من الرقم السادس من فقرات مخلّص كلامه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 17

و ثامناً: إنّ الحجية الثابتة للأمارات لا ريب في أنّها معتبرة باعتبار الشارع.

فان الظنون بما لها من الكشف الناقض عن الواقع وجداناً، ما دام لم يعتبرها الشارع حجة و لم يجعلها دليلًا علي الحكم الواقعي، لا تكون منجّزةً و لا معذّرةً، كما هو واضحٌ. و كذا طريقيّتها التامة تكون مجعولة بهذا المنوال. و هذا هو المراد من تتميم الكشف؛ بمعني أنّ الشارع قد حكم بكونها طريقاً تامّاً تعبّداً بعد ما كانت لها طريقية ناقصة وجداناً. فلا يصح ما جاءَ في الفقرة الأخيرة من كلام السيد الامام الراحل من عدم كون الحجية و الطريقية و الكاشفية من المجعولات.

نعم، الحجية للقطع ليست بمجعولة؛ لأنّها ذاتية للقطع، كما أنّ كاشفيته و طريقيته إلي الواقع أيضاً من ذاتياته و لا تنالهما يد الجعل، كما أنّ الكاشفية و الطريقية الناقصة لذات الظن

الثابتة له وجداناً غير قابلة للجعل، و لكن تتميم كاشفيته بجعله منزلة الكاشف التام- و هو القطع- تعبّداً و جعله حجّة، بمكان من الامكان. و من هنا قلنا إنّ الحجية للظنون من المجعولات. و من أجل ذلك اشتهر التعبير عن الأمارات بالظنون المعتبرة؛ أي التي اعتبر الشارع لها الحجية و قرَّرها أدلّة علي الأحكام. نعم لا ريب أنّها ليست من قبيل الأحكام، إلّا أنّها من المجعولات الشرعية.

مقتضي التحقيق في تعريف الحكم الوضعي

و الذي يقتضيه التأمل و التحقيق فيما جري عليه اصطلاح القوم أنّ الحكم الوضعي كلُّ قانون مقرَّرٍ عرفي أو شرعي منتزع من قيد مأخوذ في متعلّق حكم تكليفي أو موضوعه، أو في الأسباب الشرعية للنقل من عناوين المعاملات باعتبار سببٍ أو شرطٍ أو مانع، و نحو ذلك مما له دخلٌ في ثبوت الحكم و ترتيب الآثار الشرعية عليه،

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 18

تأسيساً أو إمضاءً. و لا يفيد بنفسه بعثاً أو زجراً و لا رخصةً في الفعل أو الترك.

و لا يتعلّق بأفعال المكلّفين أوّلًا و بالذات، و إن يفيد ذلك ثانياً و بالعرض بواسطة ما يستتبعه من الأحكام التكليفية. كالشرطية و المانعية و الضمانات و الصحة و الفساد و الملكية و الزوجية و الطهارة و النجاسة و نحوها.

و يتفرّع علي هذا التعريف:

أوّلًا: أنّ الوضعيات المجعولة التي لم تُعتبر قانوناً و لا تُعدّ من المقررات خارجةٌ عن تعريف الحكم، فضلًا عن كونها من الأحكام الوضعية، كالنبوّة و الخلافة و الامامة و القضاوة و الحكومة و الفقاهة، فانّ مثل هذه العناوين لم يعتبرها الفقهاء، بل العرف من القوانين و المقرّرات، بل إنّما اعتُبرت من المناصب، بخلاف مثل الملكية و الزوجية و الشرطية و المانعية، بل الجزئية

و السببية الاعتبارية. نعم الشرطية و المانعية و الجزئية و السببية التكوينية ليست من القوانين و المقرّرات الشرعية و العقلائية، و إن تكون من القوانين التكوينية، لكنها خارجة عن محل الكلام.

فالفرق بين المناصب و بين مثل الملكية و الزوجية، أنّ الملكيّة و الزوجية تُعتبر من القوانين و المقرّرات، بخلاف المناصب؛ فانّها لا تُعتبر من القوانين المقرّرة للعمل، و إن يمكن أن يقال بأخذها موضوعاً للحكم التكليفي، و هو وجوب الطاعة؛ حيث يجب طاعة النبي صلي الله عليه و آله و الامام عليه السلام. فالنبوة و الامامة مأخوذتان في موضوع وجوب الطاعة.

و من المظنون قويّاً أنّ هذا الفارق الأساسي هو السرّ في عدم إطلاق الحكم علي المناصب في تعابير الفقهاء.

بيان ذلك: أنّ الحكم إنّما وصف بالوضعي بلحاظ تضمّنه وضعاً معيّناً

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 19

لمتعلّق الحكم التكليفي أو موضوعه أو وضع الامتثال أو الأسباب الشرعية المعاملية.

و ذلك إمّا بوقوعه وصفاً لمتعلّق التكليف أو للاسباب الشرعية المعاملية بلحاظ آثارها، كالصحة و البطلان، لأنّهما وصفان للمأمور به- من الوضوء و الغسل و الصلاة،- بلحاظ الآثار، و كذا صحة البيع و الاجارة و نحو ذلك من الأسباب الناقلة الشرعية المعاملية.

و إمّا بوقوعه وصفاً لموضوع الحكم التكليفي كالطهارة و النجاسة، فانّهما وصفان و حالتان للماء الذي هو من متعلّقات متعلّق الحكم؛ حيث يُتوضّأ و يُغتسل بالماء. و كالملكية التي هي وضعٌ معينٌ بين المالك و ماله منتزعةً من كيفية تعامله و تصرفه في ذلك المال.

و إمّا بوقوعه وصفاً للأمارات و الحجج الشرعية، كالحجية و الطريقية و الكاشفية، فانّ هذه الاوصاف المذكورة أحكام وضعية تقع أوصافاً للحجج و الأمارات الشرعية.

و إمّا بوقوعه قيداً لمتعلّق التكليف أو للأسباب

الناقلة الشرعية، كالشرطية و السببية و المانعية و الجزئية التي هي تعيّن وضعاً معيّناً للصلاة و غيرها من المأمور به المركّب الشرعي. و كذا القيود المأخوذة في الأسباب الشرعية الناقلة.

و هذا بخلاف الحكم التكليفي، فانّه إنّما يتضمّن التكليف، من البعث و الزجر الالزاميين و غيرهما.

هذا هو وجه التقسيم بالوضعي و التكليفي، إلّا أنّ خصوصية الوضعية لا تثبت كون المتصف بها حكماً؛ لأنّ للحكم ملاكاً آخر غير ما هو معيار الوضع.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 20

و هو كون المجعول من القوانين و المقرّرات المدوّنة للعمل أو المتضمّنة لما يعتبر في التكليف أو في موضوعه أو متعلّقه.

و المناصب و إن كانت من الوضعيات المجعولة- عرفاً أو شرعاً-؛ حيث إنّ النبوة تحدّد وضع موضوع وجوب الطاعة- و هو النبي صلي الله عليه و آله-، و كذا الامامة في الامام، إلّا أنّها ليست من القوانين و المقرّرات، و من هنا لا تكون من قبيل الأحكام.

و ثانياً: ما لا تأثير و لا دخل له في ترتب الأحكام التكليفية و الآثار المتوقّعة من الخصوصيات و العناوين الانتزاعية أو الاعتبارية، خارجة عن التعريف المزبور.

و ثالثاً: العناوين الذاتية المنطبقة علي الذوات الخارجية، و كذا العناوين الطبيعية المنطبقة علي أفعال المكلّفين- مما ليس من قبيل الخصوصية أو الحالة أو الصفة المنتزعة من الفعل- لا تدخل في الحكم الوضعي في اصطلاح الفقهاء، و إن كانت مجعولة، كما في الماهيات و العناوين المخترعة، كالصلاة و الصوم و الحج، بل إنّها من قبيل موضوعات الأحكام و متعلقاتها. و لا بأس بكون متعلقات الأحكام من قبيل الماهيات المخترعة.

و من هذا القبيل الأجر الموعود علي كثير من المندوبات و الفرائض و ما عُيِّن في النصوص؛

لعدم كون أصل الأجر من المجعولات، بل من المعطيات، و علي فرض كونه من المجعولات بلحاظ مقداره المقرّر لم يؤخذ في متعلّق أو موضوع حكم تكليفي، و لا سبباً أو شرطاً أو مانعاً.

و رابعاً: ما يفيد الرخصة في الفعل و الترك كالاباحة لا يكون من الأحكام الوضعية، و إن كانت الاباحة مجعولةً غير مفيدةٍ للتكليف بالدعوة أو المنع و

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 21

الزجر.

و عليه فالحكم الوضعي إنّما يصدق علي ما كان من القوانين و المقرّرات، و من قبيل عناوين مأخوذة في موضوع الحكم أو متعلّقه، لا علي عناوين الأفعال و ذواتها، و لو كانت مجعولة، كما في الماهيات المخترعة. و من هنا لم يعدّ أحدٌ من الفقهاء الصلاة و الصوم و الحج بنفسها و ذواتها من قبيل الحكم الوضعي، إلّا بضرب من التأويل. و ذلك بلحاظ اشتمالها علي الجزئية و الشرطية و المانعية، كما أشار إليه المحقق النائيني بقوله:

«بل قيل: إنّ الماهيات المخترعة الشرعية كلّها من الأحكام الوضعية، كالصوم و الصلاة و الحج و نحو ذلك.

و قد شُنّع علي القائل بذلك بأنّ الصوم و الصلاة و الحج ليست من مقولة الحكم، فكيف تكون من الأحكام الوضعية؟. و لكن يمكن توجيهه بأنّ عدّ الماهيات المخترعة الشرعية من الأحكام الوضعية إنّما هو باعتبار كونها مركّبة من الأجزاء و الشرائط و الموانع، و حيث كانت الجزئية و الشرطية و المانعية من الأحكام الوضعية فيصحّ عدّ جملة المركّب من الأحكام الوضعية؛ و ليس مراد القائل بأنّ الماهيّات المخترعة من الأحكام الوضعية كون الصلاة مثلًا بما هي هي حكماً وضعياً، فانّ ذلك واضح الفساد، لا يرضيٰ المنصف أن ينسبه إلي من كان من أهل العلم»

«1».

و لعلّ هذا مقصود السيد الامام من تقييد كون عناوين العبادات المخترعة من قبيل الأحكام الوضعية بما بعد الوضع و الجعل، لا قبله. و لكن للمناقشة في كلامه هذا مجالًا واسعاً؛ حيث إنّ ظاهره كون العبادات المخترعة- بعد جعلها-

______________________________

(1) فوائد الاصول: ج 4، ص 385.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 22

بذواتها من قبيل الحكم الوضعي، من غير التأويل المذكور في كلام المحقق النائيني.

و السر في ما قلناه: أنّ فعل المكلّف حدث تكويني خارجي صادر من المكلّف و معلول إرادته تكويناً، و له وجود جزئي؛ لأنّ الوجود الخارجي مساوق الجزئية. و أما طبيعيه الكلي، فانّما ينطبق علي مصاديقه الجزئية و أفراده الخارجية بما أنّها أفعال. و من هنا لا يكون قابلًا للاعتبار بعنوان الحكم الوضعي، إلّا أن ينتزع منه خصوصية أو حالة، فتنسلخ من منشأ انتزاعها، ثمّ تُلاحظ بصورة قانون كلي فيعبّر عنه بالحكم الوضعي، كالخصوصية المنتزعة من فعل الرجم أو الجلد أو القطع؛ حيث تعتبر- بعد انسلاخها عن منشأ انتزاعها- بعنوان عقوبة معينة و مجازاة خاصة لجرم و جناية مخصوصة فتقرّر بصورة قانون كلي. فيعبّر عنه بالحكم الوضعي.

و قد اتضح بهذا البيان أنّ طبيعي فعل الرجم أو الجلد ليس حكماً وضعياً، بل إنّما الحكم الوضعي هو العنوان الانتزاعي الذي اعتُبر عقوبة خاصّة و محدوداً بالخصوصية المعيّنة، و هذا هو المقصود من الحدّ.

و لا يخفي أنّ التفكيك بين هاتين الجهتين و إن كان مشكلًا، و لكن ليس المراد قطعاً من كون الحدّ حكماً وضعياً، كون طبيعي فعل الرجم و الجلد و القتل و نحوه بنفسه حكماً وضعياً كما هو واضح؛ لعدم كونه مجعول الشارع، بل منتزعاً من فعل المكلّف.

و قد تبيّن ممّا بيّناه

أيضاً أنّ كل ما تعلق به الجعل من غير التكليفيات ليس من قبيل الحكم الوضعي، كالأجر المقدّر و الثواب المعيّن الموعود علي المندوبات و الفرائض؛ لعدم أخذه في موضوع أو متعلق حكم تكليفي، و لا سبباً أو شرطاً أو مانعاً.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 23

و مما لا ينبغي أن يُغفل عنه في المقام، أنّ السببية الشرعية مجعولة بالجعل التشريعي؛ بأن يعتبر الشارع شيئاً علامة و معرّفاً علي حكم؛ لأنّ علل الشرع معرّفات. و ليس المقصود هنا السببية التكوينية المؤثرة في وجود المسبّب و المعلول واقعاً.

فتبيّن بذلك دفع مناقشة المحقق النائيني في ذلك «1» فالسببية من الأحكام الوضعية بالمعني المزبور.

و ينبغي في الختام التنبيه علي نكتة و بيان وجه تقسيم الحكم الوضعي بالتأسيسي و الامضائي. و ضرورة التنبيه علي ذلك شبهة: أنّ الحكم الوضعي يكون دائماً منتزعاً من مناشئ انتزاعه فلا يتعلق به الجعل مستقلّاً، فان مثل الصحة و الفساد و الشرطية و الجزئية و المانعية و نحوها عناوين منتزعة من اعتبار مناشئ انتزاعها، من الصحيح و الفاسد و الشرط و الجزء و المانع، فلا جعل من الشارع لنفس هذه العناوين- المعبّر عنها بالأحكام الوضعية-، و مع ذلك فكيف تكون هذه الأحكام تأسيسية؟!.

و الجواب: أنّ الحكم الوضعي إنّما يعبّر عنه بالوضعي التأسيسي فيما إذا كان مناشئ انتزاعها من الماهيات المخترعة، كالاستقبال في الصلاة و التذكية و الطهارة و البلوغ الشرعي و نحو ذلك من القيود المعتبرة التوقيفية في العبادات و المعاملات.

هذا تمام الكلام و مقتضي التحقيق في تعريف الحكم الوضعي و بيان ماهيته و أقسامه.

______________________________

(1) فوائد الاصول: ج 4، ص 394.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 24

«قاعدة» «الاشتراك»

اشارة

منصّة القاعدة

و أهميتها

مفاد القاعدة

مدرك القاعدة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 25

يظهر من بعض المحققين إدراج اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل تحت قاعدة الاشتراك المبحوث عنها في المقام. و لكن الأدلّة المستدلّ بها لهذه القاعدة لا ترتبط باشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل. و من هنا ينبغي البحث عن اشترك الأحكام بين العالم و الجاهل علي حدة، كما عقدوا عنواناً مستقلّاً للبحث عن اشتراك الأحكام بين المسلمين و الكفار.

فيقع الكلام هاهنا في ثلاث قواعد.

اشارة

القاعدة الاولي: قاعدة الاشتراك علي الاطلاق كما ستعرف مفادها.

الثانية: قاعدة اشتراك الكفار مع المسلمين.

الثالثة: قاعدة اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل.

1- ضرورة البحث عن هذه القاعدة.

2- منصّة القاعدة و أهميتها.

3- هذه القاعدة اصولية لا فقهية و لا كلامية.

[القاعدة الاولي: قاعدة الاشتراك علي الاطلاق]

ضرورة البحث عن هذه القاعدة

اليوم يُلقي بعض المتنوّرين شبهة التبعيض الطبقاتي و الصنفي و الجنسي و التفرقة العنصرية ضدّ الشريعة الاسلامية في محاضراتهم و خطاباتهم، و يعترضون علي الاسلام في مقالاتهم بأنّ أحكامه ليست بمتساوية بين طبقات الناس و أصنافهم و القبائل و أنّ فيها تبعيضاً بين الرجال و النساء.

و من جانب آخر يدافع بعض المتنوّرين عن نظرية الهرمنيوطيقا و يستشكلون علي خلود الاسلام و دوام أحكامه و شمولها لجميع الأعصار،

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 26

بالقاءِ شبهات واهية. و ذلك مثل دعوي مثل أنّ أحكام الاسلام و قوانينه إنّما شُرِّعت بتناسب اقتضاء الأوضاع الثقافية و الاجتماعية المختصة بمجتمع عصر نزول الوحي، و أنّ النبي صلي الله عليه و آله إنّما تلقّي الوحي و فسّره علي أساس ارتكاز ذهنه المناسب لمقتضيات أهل عصره. و أنّ في العالم العصري بعد مضي أربعة عشر قرناً من ذلك الزمان ليست تلك القوانين و الأحكام- المجعولة علي أساس ذلك الارتكاز- متناسبة لمقتضيات المجتمع العصري.

و هذه القاعدة تتكفّل للاجابة عن مثل هذه الشبهات بتأسيس أصل اشتراك أحكام الاسلام بين جميع المكلّفين من بداية حدوث الشريعة إلي يوم القيامة. و تعني لاثبات عدم اختصاص الأحكام بالمشافهين و المعاصرين للنّبي و الأئمة المعصومين عليهم السلام، و لا بجنس أو صنف أو طبقة خاصة من الناس، بل هي عامة مشتركة بين الجميع.

منصّة القاعدة و أهميّتها

قاعدة الاشتراك تعني إثبات التكليف لعموم المكلّفين رجالًا كانوا أو نساءً، عرباً أو عجماً، بدوياً أو مدنياً في جميع الأعصار إلي يوم القيامة. بل تتكفّل لاثبات عموم الأحكام الوضعية في حق الجميع.

و من هنا تعرف منصّة هذه القاعدة بعدم اختصاصها ببعض الأبواب الفقهية، و جريانها في جميع أبواب الفقه و مختلف فروعها

و مسائلها و بعمومها للأحكام الوضعية و عدم اختصاصها بالأحكام التكليفية.

كما تتبيّن بذلك أهمية هذه القاعدة؛ حيث إنّها بعموميتها و سعة نطاقها تنفي التبعيض بين الرجال و النساء و الحُرّ و العبد و الأقوام و الشعوب و

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 27

القبائل المختلفة في جعل القوانين الالهية و تشريع الأحكام الشرعية.

و مما يؤكّد أهمية هذه القاعدة و عظم خطرها أنّ كثيراً من الخطابات الشرعية إنّما وردت في قضايا شخصية و وقائع خاصّة دعت الحاجة الرواة و ساير المكلّفين إلي السؤال عن أحكام تلك الوقائع الشخصية التي كانوا يبتلون بها في امورهم.

و علي ضوءِ هذه القاعدة يتمكّن الفقيه من تعميم الحكم- الذي بيّنه الامام عليه السلام في جواب السائلين عن تلك الوقائع الشخصية- إلي ساير المكلّفين.

فإنّ الفقيه بعد القطع بعدم الخصوصية لشخص السائل و الواقعة، يعمّم الحكم و يحكم بثبوته لسائر المكلّفين بدليل هذه القاعدة. كما أنّ الرواة السائلين كانوا من جنس الرجال المعاصرين لزمن الأئمة، و لكن الفقيه بدليل هذه القاعدة يحكم بثبوت ذلك الحكم المسئول عنه لجميع المكلّفين من الرجال و النساء من جميع الطوائف و الأقوام في جميع الأعصار إلي يوم القيامة.

و قد أشار إلي هذه النكتة الفقيه المحقق السيد الحسيني المراغي، و ناقش في كفاية عموم الخطابات الشرعية الواردة علي سبيل القضايا الحقيقية لتعميم جميع الأحكام الشرعية؛ حيث قال: «إذ معظم الأدلّة لم يرد بعنوان قضيّة كليّة حتي تشمل الأحوال و الأزمان و الأشخاص، بل وردت في وقائع خاصّة دعت الحاجة المكلّفين إلي السؤال عنها، فلا عموم فيها. و لا ينفع في ذلك القول بعموم الخطابات الشفاهيّة- كما ذهب إليه جملة من المحدّثين-؛ لأنّه أخصّ من المدّعي؛ إذ

في الخطابات ما ورد مختصّاً بالنبي صلي الله عليه و آله، و ما ورد مختصّاً بأهل البيت عليهم السلام، و ما ورد مختصاً بالمؤمنين أو بالمسلمين أو بالرجال دون الاناث، و ما ورد مختصّاً بشخصٍ واحد في ظاهر اللفظ، كلفظ «افعل و افعلي» ممّا يختصّ بواحدٍ كما لا يخفي علي المتتبّع في الروايات. بل الخطابات العامة- التي يُدّعي شمولها

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 28

للكلّ- أقلّ قليلٍ في الباب بالنسبة إلي غيرها. مع أنّ الحق عدم العموم في الخطابات الشفاهيّة، علي ما قرّر في الاصول. بل القائل بالعموم خارج عن محل النزاع، كما يظهر للمتأمّل» «1».

ظاهر كلامه اختصاص الخطابات الشفاهية الصادرة عن النبي و الأئمة المعصومين عليهم السلام بالمشافهين، لكنّه خلاف مقتضي التحقيق.

و قد بيّنا في علم الاصول «2» أنّ الخطابات الشرعية كلَّها علي سبيل القضايا الحقيقية؛ إمّا بظاهرها من غير تأويل، و إمّا مؤوَّلةً، و هي ما ورد منها بصورة القضية الشخصية لكنّها من باب «إيّاك أعني و اسمعي يا جاره»، و كلّها مؤوّلة إلي القضايا الكلية الحقيقية.

و ذلك لاستقرار دأب الشارع علي السيرة العقلائية التقنينية في تشريع الأحكام. و جريان سيرة العقلاء في تقنيناتهم علي وضع القوانين بنحو الكبري الكلية و علي سبيل القضايا الحقيقة. و الشارع أيضاً كذلك؛ لأنّه في مقام التشريع و التقنين، و هذا المقام قرينة حالية مقامية مكتنفة بها الخطابات الشرعية دائماً و تعطيها ظهوراً في الشمول بجميع المكلّفين و توجب انقلاب الخطابات الشفاهية الشخصية إلي القضايا الحقيقية.

و سيأتي تفصيل هذا البيان في تقريب السيرة العقلائية.

______________________________

(1) العناوين: ج 1، ص 20- 21.

(2) راجع كتابنا «بدائع البحوث: ج 1، ص 231- 235».

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية

الأساسية، ج 3، ص: 29

هذه القاعدة أصولية لا فقهية و لا كلامية

ثمّ إنّ هذه القاعدة اصولية، لا فقهية؛ نظراً إلي وقوع نتيجتها في تحصيل الحجة علي الحكم الشرعي الكلّي. و ليست هي حكم شرعي كلّي منطبق علي أحكام فرعية تحته.

و ذلك لأنّ نتيجة البحث عن هذه القاعدة، اشتراك التكاليف الشرعية العملية بين المكلّفين؛ بمعني عموميتها لهم. و ليست العمومية و الاشتراك من قبيل الأحكام، و إن كان موضوعها- و هي التكاليف من قبيل الأحكام التكليفية العملية، فلا تدخل في القواعد الفقهية. و من هنا تخرج هذه القاعدة عن مسائل علم الكلام؛ لعدم كون موضوع علم الكلام الأحكام التكليفية العملية.

بل إنّما تكون نتيجة هذه القاعدة من قبيل الحجة علي الحكم الكلي الشرعي.

و ذلك أنّه إذا قام عند الفقيه خبر دلّ علي تعيين التكليف لشخصٍ من الرواة السائلين عن حكمه و تكليفه، يمكن للفقيه أن يُعمّم ذلك الحكم و يُفتي بثبوته لسائر المكلّفين؛ مستدلًا بقاعدة الاشتراك أو بأدلّة هذه القاعدة، كما يُتراءي في كلمات الفقهاء، و ستأتي مواردها في تطبيقات هذه القاعدة.

و لكن إنّما بحثنا عن هذه القاعدة، تبعاً للقوم، حيث بحث عنه جماعة من المحققين في ضمن القواعد الفقهية، و لعدم تنقيحها في علم الاصول مستقلًا بعنوان قاعدة مستقلّة، بل و لم يستوفوا البحث عنها في ضمن ساير القواعد الاصولية، نعم تعرّض لها بعضهم في علم الاصول لتوجيه اشتراك الحكم بين العالم و الجاهل باشارة و تلقّاه بعنوان الاصول الموضوعة المسلّمة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 30

مفاد القاعدة
1- ضابطة جريان القاعدة.

المقصود من الاشتراك في نصّ هذه القاعدة، اشتراك المسلمين في الأحكام الشرعية التكليفية و الوضعية و لا نظر لها إلي الاشتراك في العقائد الدينية. بيان ذلك: أنّ الاشتراك يكون أيضاً في العقائد الدينية غير الفقهية مثل ما

يرجع إلي التوحيد و النبوة و المعاد و البرزخ و الصراط و الميزان و الجنة و النار و نحو ذلك من الامور الاعتقادية المشتركة بين المسلمين، و كذا الامور الاعتقادية المشتركة بين الامامية الاثني عشرية.

و لكن لا ينبغي الغفلة عن خروج الاشتراك بهذا المعني عن مصبّ القاعدة المبحوث عنها في المقام؛ لأنّ الاشتراك بهذا المعني يكون من المسائل الكلامية، و قاعدة الاشتراك المبحوث عنها في المقام من القواعد الاصولية، فلا ينبغي الخلط بينهما. من دون اختصاص بصنف أو جماعة أو قبيلة خاصّة. فانّها تفيد اشتراك جميع المكلّفين من المسلمين في أصل التكليف و تعمّ الحاضرين و الغائبين و الرجال و النساء و جميع القبائل و الطوائف منهم إلي يوم القيامة.

توضيح ذلك: أنّ في كثير من الخطابات الشرعية و النصوص الواردة عن النبي صلي الله عليه و آله و الأئمة المعصومين عليهم السلام توجّه الخطاب إلي شخص الراوي. و هذا النوع من الخطابات بمدلولها اللفظي الوضعي المطابقي لا يشمل غير ذلك الشخص. و لكنّنا- مع ذلك- نري الفقهاء متسالمين علي تعميم الحكم إلي جميع المكلّفين، و لا يفتي أحدٌ منهم باختصاص الحكم بذلك الشخص السائل المبتلي بالواقعة التي سأل عن حكمها.

و من هنا نقطع أنّ هذا التعميم لا بدّ أن يكون لأجل قاعدة مسلّمة أو عموم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 31

من الكتاب و السنة؛ لكي يكون دليلًا صالحاً للاعتماد عليه في هذا التعميم و التسرية.

و ذلك الدليل المعمّم قد عُبّر عنه بقاعدة الاشتراك. و هذه القاعدة مصطادة من عدّة عمومات و إطلاقات و أدلّة شرعية، كما سيأتي بيانها في تحقيق مدرك القاعدة.

و لاثبات ذلك و توضيحه نمثّل بأمثلة:

«الف»: إنّ حمّاد بن عثمان

وقع له الشك في إتيانه بالركوع حين السجدة و سأل الامام عليه السلام عن تكليف نفسه و أمره الامام بالمُضي، كما روي شيخ الطائفة باسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن حمّاد بن عثمان، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أشكُ و أنا ساجد، فلا أدري، ركعت أم لا؟ قال عليه السلام: امض» «1».

فإنّ مورد السؤال كان واقعة شخصية ابتلي بها حمّاد. و ظاهر قوله عليه السلام:

«امض» توجُّه الأمر إلي حماد بشخصه.

و لكن الفقهاء استنبطوا من أمر الامام وجوب مضي الصلاة علي كلّ من شك في الركوع حين السجدة علي نحو القضية الكلية الحقيقة. و استدلّوا بهذه الصحيحة و مثلها لحجية قاعدة التجاوز، و حكموا بثبوت حكم وجوب المضيّ- في مفروض السؤال- في حق جميع المكلّفين. و إنّ ممّا اعتمد عليه الفقهاءُ في تعميم هذا الحكم إلي جميع المكلّفين، قاعدة الاشتراك.

«ب»: إنّ إسحاق ابن عمّار كان حينما يأكل السحر في ليلة رمضان، يعرض له الشك في طلوع الفجر، فلم يكن يدر أ يجوز له استمرار الأكل أم لا؟ فسأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن تكليف نفسه، فأجابه الامام عليه السلام ببيان تكليفه في تلك الواقعة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ب 13، من أبواب الركوع، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 32

كما ورد في موثقة إسحاق، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام آكل في شهر رمضان بالليل حتي أشكُ؟ قال عليه السلام: كُل حتي لا تشك» «1».

«ج» مرض الوليد بن صبيح بالمدينة في شهر رمضان- و هو صائم-، فهيّأ له أبو عبد اللّٰه عليه السلام الغذاءَ و أمره بالأكل، كما ورد في الصحيح عن الوليد بن صبيح، قال: «حممت بالمدينة

يوماً من شهر رمضان، فبعث إليَّ أبو عبد اللّه عليه السلام بقصعة فيها خلّ و زيت، و قال أفطر و صلِّ و أنت قاعد» «2».

فإنّ في هذه النصوص لم يبيّن الامام حكماً كلياً، و لم تدل بالدلالة اللفظية علي كبري كلية، بل إنّما دلّت علي حكم جزئي متعلّق بشخص السائل في الواقعة التي ابتلي بها. و لكن مع ذلك قد أفتي الفقهاء بثبوت ذلك الحكم في حق جميع المكلّفين.

بل في أكثر النصوص الواردة في مختلف الأبواب الفقهية يكون مورد السؤال رجلًا مفروضاً في كلام السائل بمثل قوله: «سألته عن رجل». و ذلك الرجل المسئول عنه شخص واحد يدور حوله سؤال السائل و جواب الامام و يتعلّق الحكم- الذي بيّنه الامام عليه السلام في الجواب- بشخص ذلك الرجل المسئول عنه حسب القواعد اللفظية. فما هو الوجه في تعميم الحكم إلي غيره من ساير المكلّفين في جميع الأعصار؟ نقول: ذلك الوجه هو قاعدة الاشتراك.

نعم في كثير من النصوص يكون موضوع السؤال و الجواب طبيعي الرجل و المرأة، أو طبيعي فعل أو شي ءٍ، ففي مثل هذه النصوص قد يقال: إنّه لا

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ب 49، من أبواب ما يمسك عنه الصائم: ح 1.

(2) الوسائل: ب 18، من أبواب من يصح منه الصوم، ح 2. قوله: «بقصعة» إناءٌ وسيع غير عميق مصنوعٌ من الخشب (سيني چوبي بزرگ).

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 33

حاجة لتعميم الحكم إلي قاعدة الاشتراك. و لكن تصلح هذه النصوص بسياقها و كيفية إلقائها للدليلية علي هذه القاعدة، كما سيأتي تقريب ذلك.

و علي أيّ حال لا إشكال في ابتناء تعميم الحكم المستفاد من كثير من النصوص الشرعية بل أكثرها علي قاعدة الاشتراك.

ضابطة جريان

القاعدة

و

لا يخفي أنّ الضابطة في جريان هذه القاعدة تبتني علي تعيين المعني المقصود من الاشتراك. و المراد من الاشتراك في نصّ القاعدة أنّ الحكم الثابت لشخص بما له من الجنسية و الخصوصيات الدخيلة في ثبوت الحكم له، ثابت في حق ساير المكلّفين المجانسين له الواجدين لتلك الخصوصيات الدخيلة في الحكم.

و ليس المراد منه أنّ كل حكم ثبت لشخص ثابتٌ لسائر المكلّفين و لو لم يكونوا متّصفين بخصوصيات و أوصاف دخيلة في موضوع الحكم. و ذلك لوضوح اختلاف الأحكام باختلاف جنس المكلّفين و حالاتهم و خصوصياتهم الدخيلة في موضوع الحكم؛ حيث لا ريب في دخل كثير من القيود و الخصوصيات الراجعة إلي أشخاص المكلّفين في ثبوت التكليف.

مثل الذكورة و الانوثة، و العسر و اليسر و السفر و الحضر و المريض و السالم و الضرر و الحرج و الاضطرار و الاكراه و عدمها و الجنابة و الحيض و الاستحاضة.

فلا محالة تختلف التكاليف باختلاف المكلّفين في الأوصاف و الخصوصيات و الحالات الدخيلة في التكليف. و إلّا يلزم اتحاد جميع المكلّفين في التكليف في جميع الحالات. و هذا خلاف الضرورة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 34

و عليه فالمعيار في الاشتراك- المأخوذ في نصّ القاعدة- اتحاد العنوان المأخوذ في موضوع الحكم حسب ما يستفاد من النصوص و ساير أدلّة ذلك الحكم. فما اخذ في ذلك العنوان- من الجنسية و الحالات و الأوصاف و الخصوصيات الدخيلة في الحكم حسب دلالة الدليل و الضرورة الفقهية- هو الميزان في اشتراك ذلك الحكم بين جميع من اتصف بذلك العنوان.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 35

مدرك القاعدة
اشارة

1- الضرورة و الانفاق.

2- الاستدلال بالكتاب و السنة.

3- السيرة العقلائية التقنينية.

4- الاحتجاج بالاستصحاب.

5-

المناقشة في بعض الوجوه الاخري.

و قد استدل لهذه القاعدة بوجوه عديدة لا يخلو بعضها من المناقشة. و نكتفي بذكر بعض هذه الوجوه؛ نظراً إلي تماميتها و كفايتها عن ساير الوجوه.

الضرورة و الاتفاق

من أهمّ الوجوه المستدلّ بها لاعتبار هذه القاعدة، ضرورة الشرع و تسالم الفقهاء، بل اتفاق المسلمين عليها؛ فالاجماع عليه حاصل، بلا حاجة إلي تحصيل. و لكن الاجماع في المقام لا يكون دليلًا مستقلًا؛ لعدم كونه كاشفاً تعبّدياً عن رأي المعصوم، بعد وجود الأدلّة الصالحة للاستدلال و احتمال استناد الأصحاب. إليها، بل المظنون، بل المقطوع كما ستعرف. مع أنّه لا حاجة إلي الاجماع، بعد كون مفاد هذه القاعدة من الاصول المسلّمة الضرورية المتّفق عليها بين المسلمين.

بل إنّ اشتراك التكاليف بين المسلمين قاطبةً بالمعني الذي بيّناه آنفاً من ضروريات الدين و مما اتّفق عليه المسلمون؛ حيث لم يقل أحد منهم باختصاص الأحكام بزمان الشارع أو بشخص خاص إلّا بعض أحكام معدودة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 36

مجعولة لشخص النبي صلي الله عليه و آله.

و الوجه في كونها من ضروريات الدين أنّ ملاك ضروري الدين؛ إما نص الكتاب المجيد و صراحته بالحكم، أو صراحة السنة القطعية المتواترة بين الفريقين، أو إجماع الفريقين و اتفاق جميع المسلمين عليه. و اشتراك الأحكام بين جميع المكلّفين في جميع الأعصار- بالمعني الذي بيّناه- مما اتّفق عليه الفريقان و جميع المسلمين.

و عليه فمنكر الاشتراك مع المعرفة و الالتفات إلي لازمه مرتدٌّ بلا إشكال، كيف و لو أنكر مسلم بقاءَ حكم من الأحكام الشرعية- كحرمة الخمر مثلًا-؛ بأنّ أنكر ثبوت حرمة الخمر- مثلًا في زماننا و ادّعي اختصاصها بزمان الشارع يصير مرتدّاً مع المعرفة و الالتفات بلازمه، فضلًا عن دعوي ذلك

في جميع أحكام الشريعة، فكما أنّ أصل ثبوت الأحكام الشرعية المهمة الأساسية من ضروريات الدين، فكذلك دوامها و بقائها إلي يوم القيامة مما اتفق عليه قاطبة المسلمين.

و من هنا لم تر أحداً من الفقهاء يُفتي باختصاص الحكم- الذي أجاب به الامام عليه السلام سؤال السائل عن تكليف شخصه في الواقعة التي ابتلي بها- المستفاد من الخطابات الشخصية بشخص السائل. و جعلوا مثل هذه الخطابات من قبيل «إيّاك أعني و اسمعي يا جارة» و أوّلوها إلي القضايا الحقيقة المبنيّة عليها الخطابات الشرعية. و من هنا تري الفقهاءَ لا يزالون يستدلّون بالخطابات الشخصية الصادرة عن أهل البيت عليهم السلام لفتاواهم، كما ذكرنا آنفاً بعض هذه الخطابات في الأمثلة المذكورة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 37

و قد بيّنا في محلّه من علم الاصول «1» أنّ الخطابات الشرعية كلّها مؤوّلة إلي قضايا حقيقية. و هذا مما لا خلاف فيه بين الفقهاء.

و عليه فهذه القاعدة من المسلّمات الثابتة بضرورة الشرع.

فلا تحتاج في إثباتها إلي الاستدلال بوجوه اخري، و لكن مع ذلك نذكر أهمّ هذه الوجوه؛ تقويةً لدليل هذه القاعدة و تشييداً لأركانها.

الاستدلال بالكتاب و السنّة
أما الكتاب:

فيمكن الاستدلال لهذه القاعدة بما دلّ من الآيات القرآنية علي تعلق التكليف بعموم المؤمنين في كثيرٍ من أبواب الفقه. و هذا الدليل من قبيل الاستقراء التام في آيات الأحكام القرآنية.

ففي أبواب العبادات مثل قوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ … »، «2» و قوله: «إِنَّ الصَّلٰاةَ كٰانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً» «3». و قوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» «4». و:

______________________________

(1) راجع إلي كتابنا بدائع البحوث في علم الاصول: ج 1،

ص 231- 235.

(2) المائدة: 6.

(3) النساء 103.

(4) البقرة: 183.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 38

«يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ» «1».

و في أبواب المعاملات: كقوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «2» و قوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ» «3» و قوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعٰافاً مُضٰاعَفَةً» «4».

و في الجزائيات: كقوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصٰاصُ فِي الْقَتْليٰ» «5».

إلي غير ذلك من الآيات الدالة بعمومها علي اشتراك التكاليف و الأحكام الشرعية التكليفية و الوضعية بين جميع المؤمنين في جميع الأعصار؛ لأنّه مقتضي العموم اللفظي المستفاد من صيغة الجمع، بعد البناء علي عدم اختصاصها بالمشافهين، كما هو مقتضي التحقيق، و عليه قاطبة العلماء المحققين. و لا خلاف في شمول مثل هذه الخطابات للنساء و أنّ الخطاب للذين آمنوا بالتذكير إنّما هو لتغليب جانب الذكور.

هذا مع تعلق الحكم في كثير من الآيات بطبيعي الموضوع الشامل للافراد و المصاديق المندرجة تحته إلي يوم القيامة، و ليست نزول هذه الآيات علي نحو المخاطبة كالطائفة الاولي حتي تأتي شبهة الاختصاص بالمشافهين، كالمستطيع في قوله: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» «6».

و الزّانية و الزاني في قوله: «الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ» «7».

و قوله: «و الزّٰانِي لٰا يَنْكِحُ إِلّٰا زٰانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزّٰانِيَةُ لٰا يَنْكِحُهٰا إِلّٰا زٰانٍ أَوْ

______________________________

(1) المائدة: 95.

(2) المائدة: 1.

(3) النساء: 29.

(4) آل عمران: 130.

(5) البقرة: 178.

(6) آل عمران: 97.

(7) النور: 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 39

مُشْرِكٌ» «1».

و السارق

و السارقة في قوله: «وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا» «2».

فانّ الحكم في هذه الطائفة من الآيات قد تعلّق بطبيعي الموضوع المقدّر وجود مصاديقه في الخارج علي نحو القضية الحقيقية. فكلّ ما إذا تحقق موضوعه في الخارج- طيّ القرون و تمادي الأعصار إلي يوم القيامة- يشمله الخطاب الشرعي و يصير الحكم فعلياً.

و من الآيات الدالّة علي مفاد هذه القاعدة بوضوح قوله تعالي: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلّٰا كَافَّةً لِلنّٰاسِ» «3»؛ فإنّ هذه الآية تدل علي عدم اختصاص ما جاءَ به النبي صلي الله عليه و آله من الأحكام و التكاليف بشخص أو قوم خاصٍّ. و مثله قوله تعالي: «وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ» «4».

و كذا إطلاقات كثير من آيات الأحكام و خطاباتها تدلّ علي اشتراك الأحكام بين المكلّفين. و بذلك نستطيع أن نقول مقتضي إطلاقات الكتاب و عموماته اشتراك التكليف بين المكلّفين، و التخصيص و التقييد بحاجة إلي المخصّص و المقيّد.

و أما السنة:

فمنها ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن بكر بن صالح عن القاسم بن بريد عن أبي عمر و الزبيدي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث طويل قال: «فمن كان قد تمّت فيه شرائط اللّٰه (عزّ و جلّ)- التي وُصِف بها أهلُها من أصحاب النبي صلي الله عليه و آله- و هو مظلوم، فقد أُذِن له في الجهاد، كما اذن لهم؛ لأنّ حكم اللّٰه

______________________________

(1) النور: 3.

(2) المائدة: 38.

(3) سبأ: 28.

(4) الأنعام: 19.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 40

(عزّ و جلّ) في الأوّلين و الآخرين و فرائضه عليهم سواءٌ، إلّا من علّةٍ أو حادث يكون. و الأوّلون و الآخرون أيضاً في منع الحوادث

شركاءٌ. و الفرائض عليهم واحدة، يُسأل الآخرون عن أداء الفرائض عما يُسأل عنه الأوّلون و يُحاسبون عمّا به يحاسبون». «1»

و دلّ علي عدم تغيير الأحكام إلي يوم القيامة صحيح زرارة، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحلال و الحرام. فقال عليه السلام: حلال محمد حلال إلي يوم القيامة و حرامه حرام إلي يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجي ءُ غيره». «2»

و ما رواه جعفر بن محمد الفزاري معنعناً عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال عليه السلام: «و كيف لا يكون لرسول اللّٰه صلي الله عليه و آله من الأمر شي ءٌ و قد فوّض إليه؟! فما أحلّ كان حلالًا إلي يوم القيامة، و ما حرَّم كان حراماً إلي يوم القيامة». «3»

و موثقة سماعة بن مهران قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل. فقال عليه السلام: نوح و ابراهيم و موسي و عيسي عليهم السلام و محمد صلي الله عليه و آله. إلي أن قال: فكلُّ نبيٍّ جاءَ بعد المسيح أخذ بشريعته و منهاجه حتي جاءَ محمد صلي الله عليه و آله بالقرآن و بشريعته و منهاجه، فحلاله حلال إلي يوم القيامة و حرامه حرام إلي يوم القيامة … ». «4»

قال العلامة المجلسي: «و الاجماع علي عدم اختصاص الأحكام بزمانه … مع أنّ الأخبار المتواترة تدل علي عدم اختصاص أحكام القرآن و السنّة بزمان دون زمان، و أنّ حلال محمد صلي الله عليه و آله حلال إلي يوم القيامة، و حرامه حرام إلي يوم القيامة». «5»

و قد روي الصدوق في العيون عن الرضا عن أبيه عليهما السلام: «أنّ رجلًا سأل أبا

______________________________

(1) فروع الكافي:

ج 5، ص 18، ح 1 و وسائل الشيعة: ب 9، من أبواب الجهاد العدوّ، ح 1.

(2) اصول الكافي: ج 1، ص 58، ح 19.

(3) بحار الأنوار: ج 36، ص 132، ح 85.

(4) اصول الكافي: ج 2، ص 17، ح 2.

(5) بحار الأنوار: ج 82، ص 149.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 41

عبد اللّه عليه السلام، ما بال القرآن لا يزداد علي النشر و الدرس إلّا غضاضة؟ فقال عليه السلام: لأن اللّٰه (تبارك و تعالي) لم يجعله لزمان دون زمان و لا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد و عند كل قوم غضّ إلي يوم القيامة». «1»

قوله: غضٌّ: أي طريٌّ، نَضِرٌ. و الغضاضة: هي النضارة و الطراوة.

و روي الكليني باسناده عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام في حديث قال: «لو كانت إذا نزلت آيةٌ علي رجل ثمّ مات ذلك الرجل ماتت الآية، مات الكتاب و السنة و لكنّه يجري فيمن بقي كما جري فيمن مضيٰ». «2»

و في صحيحة فضيل بن يسار: «قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية، ما من القرآن آية إلّا و لها ظهرٌ و بطنٌ فقال عليه السلام: ظهره تنزيله و بطنه تأويله، منه ما قد مضي و منه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس و القمر، كلما جاء تأويل شي ءٍ منه يكون علي الأموات كما يكون علي الأحياء … ». «3»

فانّ هذه النصوص صريحة في اشتراك التكاليف و الأحكام بين جميع المكلّفين إلي يوم القيامة.

و نظيرها ما رواه العياشي في تفسيره عن الفضيل بن يسار، إلّا أنّ في ذيله: « … منه ما مضي و منه ما لم يكن بَعْدُ. يجري كما

تجري الشمس و القمر. كلّ ما جاءَ منه شي ءٌ وقع … ». «4»

و روي في غيبة النعماني باسناده عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه-

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17، ص 213، ح 18 و ج 85: ص 15، ح 8 و ج 2: ص 280، ح 44.

(2) بحار الأنوار: ج 2، ص 279، ح 43.

(3) بصائر الدرجات، ص 196/ بحار الأنوار: ج 89، ص 98، ح 64. و رواها بسند صحيح آخر في بصائر الدرجات ص 55، نقله في البحار ج 23، ص 197.

(4) بحار الأنوار: ج 89، ص 94، ح 47.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 42

في حديث-: «للقرآن تأويل يجري كما يجري الليل و النهار و كما تجري الشمس و القمر. فاذا جاءَ تأويل شي ءٍ منه، وقع، فمنه ما قد جاءَ و منه ما لم يجي ءُ». «1»

فإنّ هذه النصوص و إن ورد في القرآن، إلّا أنّ الضرورة قاضية بعدم الفرق بين القرآن و السنة و الكتاب و العترة من جهة اشتراك الأحكام المستفاد منهما بين جميع المكلّفين و عدم اختصاصها بقوم دون قوم.

و منها ما روي عن النبي صلي الله عليه و آله: «حكمي علي الواحد حكمي علي الجماعة» «2».

هذا مضافاً إلي اطلاقات النصوص المتعلّق فيها الحكم بطبيعي الموضوع مثل: من صام في شهر رمضان، و من يصلي و يحجّ، أو يجنب، أو يغتسل، أو يبيع، أو ما لاقي نجساً، أو ما ذكر اسم اللّٰه عليه، أو ما اكل لحمه من الحيوان، أو ما اشتُري من اللحم في سوق المسلمين، و نحو ذلك مما لا يُحصي من العناوين المتعلّقة بطبائعها للحكم التكليفي أو الوضعي. و نحو ذلك خطاباتٌ عُبِّر

فيها عن الموضوع بالموصول الشامل للرجال و النساء و جميع المكلّفين علي نحو القضية الحقيقية. و غير ذلك من أنحاء الخطابات الكلية المتضمّنة للكبريات الكلية الملقاة علي نحو القضايا الحقيقية.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 23، ص 79، ح 13.

(2) بحار الانوار: ج 2، ص 272.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 43

السيرة العقلائية التقنينية

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بالسيرة العقلائية؛ نظراً إلي أنّ الخطابات الشرعية إنّما صدرت من الشارع في مقام التشريع و التقنين. و قد علمنا أنّ دأب الشارع و منهجه في تشريع الأحكام إنّما استقرّ علي ما استقرّت عليه سيرة العقلاء في تقنين القوانين من حيث وضعها علي سبيل القضايا الحقيقية، و إن كان هناك فرقٌ بين سيرة العقلاء و بين دأب الشارع في وضع القوانين؛ نظراً إلي أنّ القانون العقلائي ربما يكون محدوداً بمنطقة و قبيلة و طائفة و مملكة خاصة، بخلاف الأحكام الشرعية. و لكن ضرب القانون في سيرة العقلاء دائماً يكون علي النحو الكلي و علي سبيل القضية الحقيقية، لا علي نحو القضية الجزئية الشخصية، و إلّا لا يكون من قبيل التقنين. كذلك الشارع قد استقرّ دأبه في تشريع الأحكام علي سبيل القضايا الحقيقية؛ لأنّه في مقام التقنين. فانّ لمنهجه جذراً في السيرة العقلائية في باب التقنين.

فكما أنّ كلية القانون في سيرة العقلاء لا تنافي اختصاصه بصنف خاص أو مكان أو زمان خاص، كما يضعون لرئيس القوم قوانين كلية من كيفية ملبسه و نظافته و ضيافته، بل و ساعات خروجه من البيت و دخوله و ساير شئونه الشخصية بما أنّه رئيس، و يضعون قوانين خاصة للعبور من مفترق الطرق و مقاطعها، و لبعض الأيام، بل لبعض ساعات الليل و النهار باقتضاء

بعض المناسبات قوانين خاصة.

كذلك وضع الأحكام الشرعية علي سبيل القضايا الحقيقية، لا ينافي أخذ الشارع بعض القيود و الخصوصيات في المكلّف الواقع موضوعاً للحكم، بل أيضاً قد يُتراءي من الشارع وضع بعض أحكام شخصية، كوضعه بعض

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 44

أحكام خاصة للنبي صلي الله عليه و آله. و ذلك مثل وجوب صلاة الليل و جواز نكاح أكثر من أربع نساء و حرمة النكاح معهنّ للمؤمنين بعد وفاته صلي الله عليه و آله، و اختصاص الصفايا و قطائع الملوك و سهم النبي صلي الله عليه و آله و الامام عليه السلام بهما، و نحو ذلك من الأحكام المختصّة بالنبي صلي الله عليه و آله و الامام عليهم السلام، إلّا أنّ هذه الأحكام في موارد خاصة معلومة بالاجماع و الضرورة في مواردها و لا ترتبط بسائر المكلّفين. و موضوع هذه القاعدة ما وضعه الشارع من الأحكام علي المكلّفين. فانّ هذه الأحكام إنّما يضعها الشارع علي نحو القضايا الحقيقية.

و قد اتضح علي ضوءِ هذا البيان أنّه لا فرق بين منهج الشارع في تشريع الأحكام و بين سيرة العقلاء، من هذه الجهة؛ أي جعل القوانين علي نحو القضايا الحقيقية.

و أما تلك الموارد الشخصية فانّما يجعلها العقلاء في سيرتهم التقنينية من قبيل التبصرة، فكذلك يمكن ملاحظة نظير ذلك- من الأحكام الشرعية المختصّة بالنبي و الامام عليهم السلام- بعنوان التبصرة.

نكتة

دقيقة مهمّة

و لكن هاهنا نكتةٌ دقيقة لا ينبغي الغفلة عنها؛ لأنّها توجب سقوط السيرة العقلائية عن حيّز الاستدلال بها لاثبات اشتراك الأحكام بين السابقين و اللاحقين إلي يوم القيامة.

و هي أنّ العقلاء في تقنيناتهم لا يلاحظون الأعصار المتأخّرة و الأجيال اللاحقة الحادثة بعد مضيّ قرون متمادية؛ لعلمهم

بتغيُّر مقتضيات كل عصر و تطلُّب قوانين جديدة مناسبة لذلك العصر. و إنّما يضعون القوانين لأهل عصرهم و الأجيال المتقاربة لعصرهم.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 45

و عليه فلم تستقرّ سيرة العقلاء علي وضع القوانين لجميع الأعصار اللاحقة عن عصرهم. فلا تصلح للدليلية علي اشتراك الأحكام بين السابقين المعاصرين لزمان الشارع و بين اللاحقين عنهم إلي يوم القيامة.

نعم تصلح لاثبات الاشتراك بين المكلّفين المعاصرين لزمان الشارع و من قاربهم علي النحو الذي بيّناه.

و بعبارة اخري تصلح لاثبات اشتراك الأحكام بين المكلّفين عرضاً، لا طولًا في عمود الزمان و خلال الأعصار و طيّ القرون إلي يوم القيامة.

الاحتجاج بالاستصحاب

و من الوجوه التي استدلّ بها لهذه القاعدة، استصحاب الحكم- الثابت للجميع في عهد المعصومين عليهم السلام يقيناً- إلي زماننا هذا. و يؤيّد عدم القول بالفصل بين المكلّفين في عصر الشارع و بين المكلّفين في زماننا.

و لا يخفي أنّ الاستصحاب و إن لا تصل النوبة إليه مع حصول اتفاق المسلمين و توفّر نصوص الكتاب و السنة و تمامية دلالتها علي المطلوب؛ لعدم وجود شك في اشتراك الأحكام بعد وجود الأدلّة القطعية حتي يجري الاستصحاب.

إلّا أنّ أهمية الاستصحاب بلحاظ أنّه- بناءً علي ابتناءِ حجيته علي بناءِ العقلاء و عدم توقف إثبات اعتباره علي الروايات- يمكن التعويل عليه في الاحتجاج به علي الملحدين و المتنوّرين- غير المنتحلين إلي الاسلام- لاثبات اشتراك الأحكام بين المعاصرين لزمان الشارع و بين اللاحقين إلي زماننا هذا.

فانّه يصح للاستدلال به علي المطلوب، مع قطع النظر عن الأدلّة الشرعية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 46

و لكن الذي يقتضيه الارتكاز العقلائي و يساعده الاعتبار المحكَّم عند أهل المحاورة، أن يُستند في مثل

المقام إلي أدلّة و أمارات واصلة من جانب الشارع؛ لانّه كما يؤخذ منه أصل الشريعة و أحكامها، كذلك لا بدّ أن يؤخذ منه أمد أحكام دينه و استمرار القوانين الشرعية التي جعلها؛ نظراً إلي ارتباط ذلك بكيفية الجعل و التشريع.

و لكن الاشكال في اختلال أركان الاستصحاب؛ نظراً إلي عدم وحدة القضية المتيقّنة و المشكوكة؛ حيث إنّ موضوع القضية المتيقنة هو المؤمنون المعاصرون و موضوع القضية المشكوكة هم الغائبون في عصر الشارع الموجودون بعده.

و اجيب: بأنّ الأحكام كانت ثابتةً لجميع المكلّفين علي النحو الكلي و سبيل القضية الحقيقية. فهي كانت ثابتة للجميع في عصر الشارع يقيناً، و إنّما الشك في بقائها إلي عصرنا. و دعوي تغيُّر الموضوع و تبدّله مما لا أساس لها، بعد وضع الأحكام علي الذين آمنوا في عصر الشارع بما أنّهم مؤمنون، و من هنا لو كان اللاحقون المعدومون موجودين في عصر الشارع لشملهم الخطاب. و إنّما الشك لقصور الأدلّة عن شمولها للّاحقين الغائبين عند من يري أو يحتمل اختصاصها بالمشافهين المخاطبين للشارع. و ليس موضوع الأحكام في لسان الأدلّة مقيداً بالحضور في عصر الشارع حتي يتبدّل الموضوع بموتهم و انقراضهم. فانّ قصور الأدلّة لشمول الغائبين غير كون موضوعها مقيداً بالحضور.

و يظهر هذا الجواب في دفع الاشكال المزبور من كلام الشيخ الأعظم؛ حيث قال: «إنّه لا فرق في المستصحَب بين أن يكون حكماً ثابتاً في هذه الشريعة أم حكماً من أحكام الشريعة السابقة؛ إذ المقتضي موجود- و هو جريان دليل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 47

الاستصحاب- و عدم ما يصلح مانعاً، عدا امور:

و فيه: إنّ وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة شرط في جريان الاستصحاب و هي لم تُحرز، و إلّا

لشملته العمومات و اطلاقات الأدلّة الاولية من غير حاجة إلي الاستصحاب.

نعم لو كان تعدد القضيتين من قبيل المانع- من غير اشتراط وحدتهما- لتمّ ما ذكره؛ إذ المفروض قصور الخطابات القرآنية عن شمولها لغير المشافهين؛ لاحتمال كون عنوان «يا ايّها الذين آمنوا» و نحو عنواناً مشيراً إلي الأفراد الخارجية، من غير احراز تقيّد موضوع الخطابات بالمشافهين.

فحينئذٍ لو كان تعددهما مانعاً فحيث لم يثبت المانع- لعدم احراز تقيد موضوع الخطابات بالمشافهين، بل المفروض احتماله-، يمكن القول بجريان الاستصحاب و لكن الوحدة شرط لجريانه، لا كون التعدد مانعاً.

منها: ما ذكره بعض المعاصرين، من أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعةٍ لا يمكن استصحابه في حقّ آخرين؛ لتغاير الموضوع … و حلّه: أنّ المستصحَب هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة علي وجهٍ لا مدخل لأشخاصهم فيه؛ إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق عمّهم الحكمُ قطعاً» «1».

المناقشة في بعض الوجوه الاخري

و قد ذكرت هناك وجوه اخري: كارتكاز عامة المسلمين علي اشتراك الأحكام الشرعية بين الجميع، و تنقيح الملاك القطعي؛ للقطع بعدم دخل الخصوصية الشخصية في ثبوت الحكم، إلي غير ذلك من الوجوه المذكورة في المقام.

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 3، ص 225، 226.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 48

و لكن لا حاجة إلي ذكرها بعد وضوح اعتبار القاعدة و ثبوت حجيتها بضرورة الدين و اتفاق المسلمين، و ساير الأدلّة القطعية.

و أما ما قيل- من أنّ اللّٰه عالم في الأزل بوجود المصلحة في الفعل الفلاني الصادر من شخص متصف بكذا. و هذا العلم علة لجعل الحكم المتعلّق بذلك الحكم. فالحكم مجعول في الأزل علي آحاد أشخاص المكلّفين، و مع ذلك لا حاجة إلي قاعدة الاشتراك. بل الأحكام ثابتة لآحاد المكلّفين من الأزل-، فهو

مما لا أساس له.

و ذلك أوّلًا: لأنّ علمه تعالي ليس علّة للتشريع، و لا لصدور ساير الامور من اللّٰه، بل تابع لإرادته، كما قال: «و أمره إذا أراد شيئاً يقول له: كن فيكون». و من هنا نعتقد أنّ دين الاسلام إنّما شُرّع بعد ساير الأديان السالفة فهو حادث، مع كون علم اللّٰه أزلياً.

و ثانياً: أنّه قد قرّرنا في محلّه أنّ الاحكام تتعلّق بالطبائع، لا بالأشخاص و المصاديق، كما يلوح ذلك من كلام هذا العَلَم.

و ثالثاً: أنّ المصالح الشخصية تتبع الخصوصيات المختصّة بالأشخاص و دائماً تكون في معرض التغيير. و من هنا لا تُلاحظ في مقام ضرب القانون، بل إنّما تلاحظ المصالح النوعية الغالبية.

و أما تطبيقات هذه القاعدة

فغنيّة عن الاحصاء و البيان. و ذلك لأنّك تستطيع أن تستخرجها من أوّل الطهارة إلي آخر الديات بعد ما سردناه لك من المعيار و الضابطة. و هي كل فرع سأل فيه الراوي الامام عن تكليف شخصه، و الامام أجابه كذلك ببيان تكليفه بأمره أو نهيه أو بيان تكليفه بمخاطبة شخصه.

و موارد ذلك كثيرة خارجة عن حد الإحصاء، و ذكرنا نماذج منها في مفاد القاعدة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 49

[القاعدة الثانية] «قاعدة اشتراك الكفار» «مع المسلمين في التكليف»

اشارة

أهمية هذه القاعدة

مفاد القاعدة و ماهيتها

مدرك القاعدة

التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 50

1- أهمية هذه القاعدة.

2- هذه القاعدة اصولية، لا فقهية.

3- كيفية وقوعها في قياس الاستنباط.

4- مفاد القاعدة و ماهيتها.

5- ليس الكفار غافلين عن أصل التكليف.

6- المناقشة في تعليل عدم تكليف الكفار بغفلتهم.

7- ردّ التعليل باشتراط الاسلام في صحة الفروع.

أهمية هذه القاعدة
اشارة

إنّ لهذه القاعدة أهمية وافرة من الجهتين.

إحداهما: بلحاظ ما يترتب عليها من الآثار- بناءً علي القول باشتراك الكفار مع المسلمين في التكليف-؛ حيث لا بد حينئذٍ من جريان جميع آثار التكليف بالفروع في حقهم، من وجوب تعلّم الأحكام، و وجوب إجراء الحدود و التعزيرات عليهم، بل القضاءُ و الكفارات، إلّا ما ارتفع منه بعد إسلامهم بقاعدة الجبّ.

و هذا اللازم يشكل الالتزام به علي النحو المطلق، و قد وقع الكلام و النقض و الابرام في ترتب الآثار المزبورة، و سوف نتعرّض إلي البحث عن ذلك في خلال مباحث هذه القاعدة، إن شاء اللّٰه.

ثانيتهما: عويصة شبهة الاجبار في الاسلام و الاكراه علي قبول الدين و العمل بأحكامه، حتي الكفار و المشركين الذين لم يعتقدوا أصل الاسلام و لم ينقادوا أحكامه. و كيف يمكن إجبار من لم يعتقد ديناً و لم يلتزم بأحكامه علي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 51

العمل بأحكامه و العقوبة علي ترك العمل بقوانينه؟! و لم يُعهد ذلك بين العقلاء في طول تاريخ تمدُّن البشر. و هذه العويصة و الشبهة الاعتقادية إنّما تنشأ من القول بحجية هذه القاعدة و لا بدّ من حلّها و الاجابة عنها ببيان منطقي برهاني.

و نحن في راحة من هذه العويصة؛ لما اخترناه و سلكناه من عدم حجية هذه القاعدة، رغماً لما يستفاد من

ذهاب المشهور إلي أنّ الكفار معاقبون علي الفروع كما هم يعاقبون علي الاصول.

و التحقيق في الجواب: عدم دليل علي ثبوت التكليف الفعلي في حقّ الكفار، بحيث تنفذ في حقّهم الأحكام الجزائية و ساير آثار الأحكام التكليفية؛ لعدم دليل علي القاعدة المبحوث عنها بهذا المعني. بل إنّما نلتزم بها بالمعني الذي سنفسّره و نبيّنه.

هذه القاعدة

اصولية، لا فقهية

قد سبق منّا في المجلّد الأوّل من كتابنا «بدائع البحوث» في تعريف القاعدة الاصولية و الفرق بينها و بين القاعدة الفقهية، أنّ القاعدة الاصولية كبري واقعة في الحدّ الأوسط من قياس الاستنباط، و نتيجتها تحصيل الحجّة علي الحكم الفرعي الكلي.

و ليس بنفسها حكماً كلياً، بل من قبيل القضايا الكلية الحقيقية المتضمّنة لجعل الحجج و الأمارات الصالحة للاحتجاج بها علي الأحكام الفرعية الكلية الشرعية.

و هذا بخلاف القاعدة الفقهية؛ حيث إنّها و إن كانت أيضاً كبري كلّية صالحة للاحتجاج بها علي الحكم الفرعي الشرعي الكلّي، إلّا أنّها بنفسها أحكامٌ كلية شاملة لمصاديقها و أفرادها التي هي أيضاً أحكام كلية نطاقها أصغر من

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 52

القاعدة. و إنّما يُستدلّ بالقاعدة الفقهية علي الأحكام الفرعية من باب الاحتجاج بالكلي علي مصاديقه و أفراده. و من هنا يكون الحكم المستدلّ له دائماً من أفراده و مصاديق القاعدة الفقهية، بخلاف الاصولية.

إذا عرفت ذلك تستطيع أن تعرف أنّ القاعدة المبحوث عنها في المقام من قبيل القواعد الاصولية؛ نظراً إلي عدم كون الاشتراك في الأحكام نفسه حكماً شرعياً، بل كبري كلية علي سبيل القضية الحقيقة صالحة للاحتجاج بها علي ثبوت الحكم الفرعي الشرعي فيحق الكفار بالتقريب السابق آنفاً.

و لا فرق في ذلك بين الاشتراك في الاعتقادات و بين الاشتراك في الأحكام؛ إذ

متعلق الاشتراك في كليهما الوجوب الشرعي؛ نظراً إلي إفادتها الاشتراك في وجوب تحصيل اليقين، و هو حكم شرعي، و لو لاستقلال العقل، و لا منافاة؛ لأنّ العقل من مدارك الأحكام الشرعية.

نعم قد يقال بكون هذه القاعدة كلامية بلحاظ اشتراك الكفار و المسلمين في التكليف بتحصيل العلم في المسائل الاعتقادية، كما سبق في قاعدة الاشتراك المطلق. و عليه فهذه القاعدة تندرج في المسائل الكلامية؛ بلحاظ جريانها في المسائل الاعتقادية، و وجوب الالتزام و الايمان باصول الاعتقادات، و تدخل في القواعد الاصولية بلحاظ جريانها في الأحكام الكلية الفرعية.

و لا بأس باندراج قاعدةٍ في مسائل علمين؛ نظراً إلي مالها من الدخل في غرض تدوين كل واحدٍ منهما، كما أشار إلي ذلك في الكفاية في تعريف مسائل العلم، بقوله: «و المسائل عبارةٌ عن جملة من قضايا متشتّة جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دوِّن هذا العلم فلذا قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل مما كان له دخل في مهمّين لأجل كلّ منها دون علم علي حدة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 53

فيصير من مسائل العلمين» «1».

هذا مع عدم دخول الاشتراك في الاعتقادات في القاعدة المبحوث عنها في المقام؛ إذ الكلام في الاشتراك في الأحكام الشرعية التكليفية و الوضعية، دون الاعتقادات.

و لكن مقتضي التحقيق- كما عرفت- أنّها قاعدة اصولية؛ لما بيّناه من ضابطة الفرق بين القاعدة الاصولية و بين القاعدة الفقهية و انطباق معيار القاعدة الاصولية علي القاعدة المبحوث عنها في المقام.

كيفية وقوعها في قياس الاستنباط

أما كيفية وقوع هذه القاعدة في قياس استنباط الأحكام الكلية الفرعية، فبيانها:

أنّ الفقيه يستدلّ بهذه القاعدة علي تكليف الكفار- حال كفرهم- بآحاد الواجبات و المحرّمات. و يترتّب عليه جميع الحدود و التعزيرات،

إلّا ما خرج بالدليل. فيؤلّف قياس الاستنباط و يستدل بقوله: «المسلمون مكلّفون بالفروع في جميع الأقطار و الأعصار» و «كل حكم ثبت تكليف المسلمين به يشترك معهم الكفار فيه» فيستنتج من هاتين المقدمتين أنّ الكفار مكلّفون بالفروع. و هكذا في آحاد الفروع. فيقول- مثلًا-: الكافر مكلّف بالخمس و الزكاة و الصلاة و الصوم و … لقاعدة اشتراكهم مع المسلمين في الفروع. و يحرم عليهم شرب الخمر و الزنا و اللواط و السرقة بدليل قاعدة اشتراكهم مع المسلمين في الفروع. فيستحقون بذلك الحدود و التعزيرات و يجب عليهم الكفارات و ساير آثار التكليف بالفروع.

______________________________

(1) كفاية الاصول: ج 1، ص 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 54

مفاد القاعدة و ماهيتها
اشارة

مفاد هذه القاعدة اشتراك الكفار مع المسلمين في التكليف بالوظائف العملية المقرّرة في شريعة الاسلام، فلا تشمل الأحكام الوضعية، إلّا بلحاظ ما تستتبعه من الأحكام التكليفية.

و لا يخفي أنّه بعد الالتزام بتوجه التكليف بالفروع إلي الكفار، لا مناص من الالتزام بأنّهم معاقبون عليها كما أنّهم معاقبون علي الاصول، كما اشتهر بين فقهائنا: أنّ الكفار معاقبون علي الفروع، كما أنّهم معاقبون علي الاصول. و عليه فتنقيح المعني المقصود من هذه الكبري المعروفة دخيلٌ في فهم مفاد القاعدة المبحوث عنها في المقام.

و التأمّل يقضي أنّه ينبغي أن يكون المعني المقصود: أنّهم معاقبون علي تركهم العمل بالفروع بسبب عدم اعتقادهم و إيمانهم بالاصول، فيعاقبون يوم القيامة. بأنّهم هلا آمنوا بالاصول حتي يعملوا بالفروع. كما أنّهم يعاقبون علي عدم إيمانهم بالاصول- بطريق السؤال عن أهل العلم و التعقّل و التفكر-، لأجل عنادهم و لجاجهم، أو لما يرون الايمان مزاحماً و مانعاً عن التلذّذ بشهواتهم.

فيعاقبون بعذاب شديد أليم، لجهتين: إحداهما: عدم إيمانهم

بالاصول. ثانيتهما:

عدم علمهم بالفروع.

فالسبب الأصلي لابتلائهم بالعذاب الخالد و العقاب الأليم الشديد، كفرهم و عدم ايمانهم بالاصول؛ لأنه المانع عن عملهم بالفروع. و لا يلزم من ذلك فعلية التكاليف الشرعية و تنجّزها في حقّهم، كما قد يلوح من الكبري المزبورة.

و بذلك يمكن الالتيام بين المشهور و بين ما اخترناه من التفصيل. و إلّا فلو قلنا بأنّ المقصود عقاب الكفار علي ترك العمل بالفروع علي حدة- مضافاً إلي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 55

عقابهم علي عدم إيمانهم بالاصول- لا يمكن التلاؤم المزبور.

و علي ضوءِ هذا البيان تستطيع أن تعرف نقطة التلاؤم بين ما اخترناه في المقام و بين مسلك المشهور. و سيأتي توضيح ذلك.

ليس الكفار غافلين عن أصل التكليف

و الحاصل أنّ تكليف الكفار بالفروع إنّما هو في طول التكليف بالاصول. فانّهم مكلّفون بالفروع بهذا المعني الطولي، لا علي حدة في عرض التكليف بالاصول، كما قد تُوهِمه الكبري المزبورة؛ حيث شُبِّه بالتكليف بالاصول و جُعل علي وزانة بلفظ «كما» في نصّ الكبري. فكيف أنّ التكليف بالاصول فعلي في حق الكفار، كذلك التكليف بالفروع.

و السرّ في عدم كون هذا المعني مرادهم من القاعدة المبحوث عنها في المقام، عدم إمكان انبعاث من لا يعتقد بالاسلام؛ حيث لا يري أوامره و نواهيه من أمر اللّٰه و نهيه؛ لانه فرع اعتقاده بحقانية الاسلام و نبوّة نبيّنا صلي الله عليه و آله و كون القرآن من الكتب السماوية النازلة من جانب اللّٰه تعالي، بل إنّما يمكن انبعاثه و بعثه بالامر و النهي الشرعي الاسلامي في صورة اعتقاده بذلك. و من الواضح أنّ الأمر و النهي و البعث و الزجر في حق من لا يمكن انبعاثه و انزجاره لغوٌ قبيح لا يصدر من الحكيم،

إلّا في طول الايمان بالاصول؛ نظراً إلي امكان انبعاثه بهذا المنوال.

و بناءً علي طولية التكليف بالفروع لا يتصور الغفلة عن أصل التكليف؛ لما له جذرٌ في حكم العقل المستقل.

بيان ذلك: أنّ المنتحل بأيّ دين إلهي- لم يُنبئ نبيُّه بالخاتمية كنبينا-؛ لمّا

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 56

يحتمل- بعد مجي ءِ دين جديد- حقّانية الدين اللاحق و نسخ الدين السابق به-؛ نظراً إلي تشريعهما من مشرّع واحد، و هو اللّٰه تعالي. و مع فرض كون كل منهما عالميّاً، من دون اختصاص بقوم أو قبيلة خاصة-، يجب عليه بحكم العقل الفحص عن الدين اللاحق؛ لعدم دافع لاحتمال تشريع الدين اللاحق و نسخه الشريعة السابقة، إلّا بالتثبيت و الفحص.

المناقشة في تعليل عدم تكليف الكفار بغفلتهم

و عليه فلا يُصغي إلي مقالة من «1» علّل عدم كون الكفار معاقبين علي الفروع بتوقف تنجّز تكليف الكفار علي العلم و الالتفات و عدم الغفلة، و بأنّ هذا الشرط غير حاصل فيهم؛ لاعتقادهم بدينهم و علمهم ببطلان الاسلام و عدم احتمالهم التكليف بغير ما شُرّع في دينهم.

و الوجه في ذلك: أنّه بعد كون مشرّع الدين السابق و اللاحق واحداً- و هو اللّٰه تعالي- و كون كلِّ واحد منهما ديناً عالمياً من غير اختصاص بقوم أو قبيلة، لا محالة يكون الدين السابق منسوخاً في مواضع اختلافه مع الدين اللاحق، و هذا أمرٌ مسلّم يقتضيه حكم العقل باستحالة التناقض و التضاد في أحكام المقنّن الحكيم.

فيجب بحكم العقل علي كل ذي دين إذا قرع سمعه مجي ءُ دين جديد من جانب اللّٰه تعالي، أن يفحص عن إثباته بطلب البرهان و الحجة عليه، حتي يزيل الشك الطاري علي بقاءِ الدين السابق بسماعه خبر مجي ء الدين اللاحق؛ لاستقلال الفعل بالاستيقان بطاعة اللّٰه

و تحصيل المؤمن.

______________________________

(1) راجع القواعد الفقهية/ للشيخ المحقق محمد الفاضل اللنكراني: ج 1، ص 325.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 57

نعم من لم يقرع سمعَه تشريع دين جديد بحيث لا يحتمل ذلك، فهو معذور.

و كبري «توقف التكليف علي الالتفات و عدم الغفلة» إنّما تصدق علي هذه الصورة، لا صورة سماع خبر مجي ء دين جديد، كما أنّهم بعد انتحالهم إلي الاسلام سواءٌ مع المسلمين في جريان القاعدة. فلا ينبغي الخلط في ذلك، كما صدر من المحقق المزبور.

هذا مع أنّ العلم و الالتفات شرط تنجّز التكليف، لا أصل ثبوته، و لا سيّما في طول الايمان بالاصول. فالغفلة علي فرض قبول تحققها في الكفار إنّما تمنع عن تنجّز التكليف كما في المسلمين الغافلين، لا عن أصل ثبوت التكليف. نعم يصلح هذا الوجه دليلًا لردّ القول بثبوت التكليف الفعلي في حق الكفار علي حدة في عرض التكليف بالاصول. و إلّا فلو كان صالحاً للمنع عن ثبوت أصل التكليف في حقّهم، لكان يصلح للمنع عن ثبوت التكليف بالاصول أيضاً، و ليس كذلك، بل لا غفلة هناك عن الاصول؛ لما له من الجذر في الفطرة و العقل، إلّا في المستضعفين القاصرين.

و ليس الكلام في تنجيز التكليف علي الكفار؛ لوضوح كونه فرع العلم و الالتفات، كما أنّ الأمر كذلك في حق المسلمين. و إنّما الكلام في ثبوت أصل التكليف بالعمل بفروع الدين في الجملة.

ردّ التعليل باشتراط الاسلام في صحة الفروع

و أما اشتراط الاسلام في صحة الواجبات التكليفية و الوضعية، فلا يمنع من تكليف الكفار بالفروع بزعم بطلان جميع طاعاتهم و واجباتهم- المشترط فيها الاسلام-، فلا أثر لتكليفهم بالفروع. و ذلك لعدم المنافاة، غاية الأمر يجب عليهم أوّلًا الاسلام؛ تحصيلًا لشرط الواجب. و لا ينافي

ذلك كون الاسلام و الايمان بالاصول واجباً

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 58

مستقلّاً، مع ماله من المقدّمية للعمل بالفروع.

و أمّا بناءً علي القول بعدم كون الكفار معاقبين علي الفروع- كما هو رأي المخالفين للمشهور و نحن قوّيناه في محلّه «1» - لا مناص من القول بعدم اشتراك الكفار مع المؤمنين في التكاليف و الأحكام العملية الفرعية، كما هو المختار.

______________________________

(1) راجع كتاب الخمس من دليل تحرير الوسيلة: ص 96.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 59

مدرك القاعدة
اشارة

1- تأسيس الأصل في المقام.

2- ساير أدلّة هذه القاعدة.

3- الاستدلال لعدم تكليف الكفار بالفروع.

4- إقامة الحدود علي الكفار ليس لتكليفهم بالفروع.

5- النصوص الدالة وجوب إقامة مطلق الحدود علي الكفار.

6- النصوص الدالة علي إقامة الحدّ علي الكافر المتجاهر بشرب الخمر.

7- النصوص الدالة علي وجوب اقامة حد الزنا علي الكفار.

8- نظرة إلي كلام صاحب الجواهر.

9- الاستدلال باطلاق الفتاوي و ردُّه.

تأسيس الأصل في المقام

قبل الورود في تحرير أدلّة هذه القاعدة، ينبغي تنقيح مقتضي الأصل في المقام.

هل الأصل عدم تكليف الكفار بالفروع أو يقتضي العكس؟

و هل الأصل في المقام عقلي أو شرعي؟

مقتضي التحقيق أنّه لا أصل عقلي و شرعي في المقام يقتضي تكليف الكفار علي الفروع، لو لم يكن علي خلافه، إلّا بالمعني الذي فسرناه و حملنا رأي المشهور عليه. بمعني التكليف بالايمان بأصل الدين ثمّ العمل بأحكامه.

أما الأصل العقلي: فلأنّه يبتني علي حكم العقل. و لا حكم للعقل بتكليف

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 60

الكفار علي الفروع. و ذلك لابتناء حكمه بذلك علي استقلال العقل بلزوم طاعة اللّٰه تعالي؛ شكراً لنعمائه أو تحصيلًا للمؤمن من العقاب الأليم الخالد و دفعاً للضرر العظيم الاخري. و هذا الحكم منه إنّما يستقل به العقل علي فرض إحراز موضوعه من جانب المولي و هو ثبوت الأمر و النهي الالزاميين منه. و لا يُحرِز العقل ذلك، إلّا بعد اعتقاده باصول الدين و إيمانه بنبوّة نبيّنا محمد صلي الله عليه و آله و كون القرآن وحياً نازلًا من جانب اللّٰه تعالي.

فلا أصل عقلي لهذه القاعدة، بل الأصل العقلي علي خلافها، كما عرفت آنفاً و ستعرف توضيحه.

و أما الأصل الشرعي، فقد يقال: إنّ مقتضي عمومات الآيات- المتوجه فيها التكليف بالعبادات و الواجبات و الاجتناب

عن المحرّمات إلي النّاس- تكليف الكفار بالفروع؛ لأنّهم من الناس.

كقوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ» «1»؛ حيث إنّ العبادة هي العمل بالأحكام و طاعة الأوامر و الاتيان بالواجبات و ترك المحرّمات. و لفظ الناس يشمل المؤمنين و الكافرين علي حدٍّ سواءٍ و بهذا التقريب تدل هذه الآية علي تكليف الكفار بالفروع.

و قوله: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ … » * «2»؛ حيث إنّ اتقاءَ الرب إنّما هو بالاجتناب عن موجبات غضبه و عذابه. و يتوقف ذلك علي طاعة أوامره و نواهيه و الاجتناب عن معصيته.

______________________________

(1) البقرة: 21.

(2) الحج: 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 61

و قوله تعالي: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلّٰا كَافَّةً لِلنّٰاسِ» «1»؛ حيث إنّ إرسال النبي كان لتشريع الدين و التكاليف. و لفظ «الناس» شاملٌ للكفار. و عليه فارسال النبي لكافّة الناس يقتضي 000 توجّه التكليف بالاسلام إلي جميع الناس، بلا فرق بين المسلمين و الكفار. فيثبت بذلك اشتراكهم في التكاليف الفرعية، كما في تكليفهم بأصل الاسلام.

و من ذلك ما كان من الأحكام موضوعه طبيعي العنوان، كقوله: «إذا التقي الختانان، فقد وجب الغسل»؛ حيث يشمل المؤمن و الكافر. و قوله: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» «2»، و: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» «3» و قوله: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا» «4»، و قوله: «لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ» «5» و قوله: «يُوصِيكُمُ اللّٰهُ فِي أَوْلٰادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» «6».

و يرد علي الاستدلال بهذه الآيات و مثلها: أنّ القرينة العقلية تشهد بقبح تكليف الكفار بالفروع قبل التزامهم و اعتقادهم بالاصول؛ لعدم امكان انبعاثهم و انزجارهم و انقيادهم، بالأوامر و

النواهي، فلا تكون الأحكام الفرعية فعلية

______________________________

(1) سبأ: 28.

(2) المطفّفين: 1.

(3) لُمزة: 1.

(4) النساء: 93.

(5) النساء: 7.

(6) النساء: 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 62

منجّزة في حقّهم ما داموا كافرين غير معتقدين و لا مؤمنين باصول الدين، و إن كانوا عالمين بالأحكام الفرعية لأغراض علمية دنيوية.

و لا يخفي أنّه لا ينافي ذلك عقابهم علي الفروع لأجل تركهم تحصيل مقدماتها الاختيارية و هي العلم و الاعتقاد بالاصول بطريق التعقّل و التفكّر، كما قال تعالي: «أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ، أَ فَلٰا تَعْقِلُونَ» «1»، كما دلّ عليه صحيح زرارة و غيرها، و سيأتي ذكر هذه النصوص.

و أما قوله تعالي: «ما أرسلناك إلّا كافّةً للناس»؛ فمعناه هداية جميع الناس و فلاحهم و سعادتهم و نجاتهم من النار و إنقاذهم من ورطة الهلاكة و الطغيان و الفساد و حيرة الضلالة. و ذلك لا يلازم تكليف الكفار بالفروع قبل أن يؤمنوا بالاصول؛ لامكان تكليفهم بالفروع بطريق التكليف بالاصول في الرتبة السابقة.

و أما قوله: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اعْبُدُوا … » «2»، فهو إرشادٌ إلي حكم العقل بوجوب طاعة الربّ و عبادته؛ قضاءً لحق العبودية و المولوية و شكراً لنعمائه، كما يشعر بذلك ذيله «ربّكم الذي خلقكم … »، فانه في قوّة التعليل الذي يستند إليه العقل في حكمه بوجوب طاعة اللّٰه و عبادته بملاك الربوبية و الخالقية.

و أما قوله: «يا أيها الناس اتقوا ربّكم»، فهو تحذير من الكفر باللّٰه الموجب للخلود في النار الحريق؛ أيّ اتقوا من عذاب ربّكم و الخلود في نار جهنّم بالايمان باللّٰه و الاجتناب عن الكفر الموجب للخلود في النار. و هذا أيضاً إرشادٌ إلي حكم العقل بلزوم دفع العقاب الاليم الخاسر

الاخروي و تحصيل المؤمّن من خوف الضرر العظيم و الخطر الكبير.

فلا نظر لهذه الآيات إلي التكليف بالفروع.

إن قلت: إطلاق هاتين الآيتين و ما شابههما من الآيات يقتضي وجوب

______________________________

(1) الاسراء: 23.

(2) البقرة: 21.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 63

العبادة و الطاعة و الاجتناب عن المعصية مطلقاً، باتيان جميع الواجبات و ترك جميع المعاصي، بلا فرق بين الاصول و الفروع.

و بهذا التقريب تتمّ دلالة هذه الآيات علي اشتراك الكفار مع المسلمين في التكاليف.

قلت: الأمر بعبادة اللّٰه و اتقاءِ عذابه و إن يقتضي باطلاقه ثبوت التكليف بذلك علي الكافرين و المسلمين جميعاً؛ لدخولهم في عنوان الناس، إلّا أنّ توجّه التكليف بهذا الأمر القرآني فرع الايمان باللّٰه و برسالة خاتم النبييّن صلي الله عليه و آله، و بنزول القرآن من جانب اللّٰه و كون الأمر المزبور حكم اللّٰه.

فما داموا لم يؤمنوا باللّٰه و نبيّه و كتابه، لا يعقل تكليفهم بأوامر القرآن و نواهيه. و هذا الاشكال مشترك الورود علي الاستدلال بجميع الآيات القرآنية لاثبات القاعدة المبحوث عنها في المقام.

هذا، مضافاً إلي ما يرد من الاشكال خصوصاً علي ساير الآيات المستدل بها في المقام.

أما تحذير المطفّفين و الهمّازين و اللمّازين، فليس من مختصّات الاسلام.

و موضوع هذه القاعدة إنّما هو اشتراك الكفار و المسلمين في تشريعات الاسلام. و كذلك عقاب قاتل النفس المحترمة من غير حق؛ لأنّه من أظهر مصاديق الظلم و الجناية في نظر العقل و جميع الملل و النحل.

و أما قوله: «للرجال نصيب … » و «للذكر مثل حظّ الانثيين» منصرف عن الكفار، بل النظر فيهما إلي جهة الرجولية و الانوثية، بقرينة ما فيهما من المقابلة، فلا نظر لهما إلي جهة الكفر و الايمان.

و أما قوله:

«إذا التقي الختانان … » فهو منصرف عن الكافر؛ لأنّ له نجاسة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 64

ذاتية؛ نظراً إلي كون الكفر من أعظم النجاسات، فليس قابلًا للتطهير بالغسل حتي يشمله إيجاب الغُسل.

هذا مع احتفاف جميع هذه الخطابات و نظائرها بالقرينة العقلية الصارفة لها إلي المسلمين، كما أشرن إليه آنفاً.

و عليه يشكل تأسيس الأصل المقتضي لتكليف الكفار بالفروع تكليفاً فعلياً منجّزاً، و إن علموا الاحكام الفرعية الشرعية بالتعلّم لأغراض دنيوية. بل الأصل العقلي يقتضي عدم تكليف الكفّار بالفروع؛ نظراً إلي القرينة العقلية، السابق توضيحها، مضافاً إلي ما سيأتي من بعض الوجوه الآخر.

و أما الأصل العملي، فلا يجري بعد حكم العقل بقبح تكليف من لم يؤمن بالاصول، بل الأصل العقلي يقتضي نفي تكليف الكفار بالفروع حال كفرهم و قبل إيمانهم بالاصول؛ لعدم إمكان انبعاثهم.

ساير أدلّة هذه القاعدة
اشارة

ثمّ إنّه قد استُدل لهذه القاعدة بوجوه:

1- الشهرة الفتوائية بين فقهائنا

، بل استُظهِر من كلمات كثيرٍ من الأصحاب إجماعهم علي ذلك، بل ادُّعي كون ذلك من ضروريات المذهب، كما صرّح بذلك السيد المراغي؛ حيث إنّه- بعد عنوان القاعدة- قال:

«وفاقاً للمشهور من أصحابنا المتقدّمين و المتأخّرين، بل الظاهر من عبارة كثير من الأصحاب الاجماع علي ذلك، بل كونه من ضروريات مذهب الامامية، فانّهم يعبّرون عنه بلفظ عندنا أو عند علمائنا و نحو ذلك. نعم، ربّما يستفاد من بعض المحدّثين من المتأخّرين- كالقاساني و الأمين الأسترابادي و صاحب

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 65

الحدائق علي ما حكي- خلاف ذلك، وفاقاً لمن سبقهم علي ذلك». «1»

و لكن هذا الوجه غير وجيه؛ إذ الشهرة الفتوائية لا حجية له، كما حُقّق في محلّها من علم الاصول.

2- الاجماع و الضرورة.

و دعوي الضرورة كما تري؛ لأنّ الاجماع غير حاصل؛ نظراً إلي مخالفة جماعة من الأصحاب لذلك، كما أشار السيد المراغي إلي بعضهم.

و ممن قال بعد تكليف الكفار بالفروع، صاحب الحدائق، و قد توقف فيه الشهيد. و قد مال إليه في الرياض؛ حيث إنّه قال: «ظاهر شيخنا الشهيد في المسالك و الروضة التوقف في المسألة و لا يخلو عن وجه، مع أنّه أحوط في الفتوي، بلا شبهة» «2».

فلا اجماع علي هذه القاعدة بين الأصحاب. هذا، مع أنّ دعوي الاشتراك معلّلة في كلمات الأصحاب بوجوه، فلا بدّ من ملاحظة تلك الوجوه.

3- تمكن الكفار من تحصيل العلم.

و قد علّل الشيخ هذه القاعدة بتمكّن الكفار من تحصيل العلم بالشرائع و الأحكام؛ حيث إنّه- بعد بيان اشتراط العلم بالتكليف في تنجّزه و الثواب و العقاب عليه- قال: «و لذلك قلنا إنّ الكفار مكلّفون للشرائع؛ لتمكّنهم من العلم بها بالنظر في معجزات الأنبياء» «3».

______________________________

(1) العناوين الفقهية: ج 2، ص 714.

(2) الرياض: ج 2، ص 297/ طبع قديم.

(3) الاقتصاد/ للشيخ الطوسي: ص 68.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 66

و لا يخفي أنّ تعليله بتمكنهم من تحصيل العلم بالنظر في معجزات الأنبياء مشعر بأنّ التكليف بالفروع في عرض الايمان بالاصول، و لكن الايمان بالاصول في عين حال التكليف به مستقلًا مقدمة اختيارية للتكليف بالفروع.

و لكن بناءً علي هذا التوجيه ينبغي أنّ يكون مراده من الشرائع أصلها، كما يشهد له النظر في معجزات الأنبياء؛ إذ لا دخل لذلك في تعلّم الأحكام الفرعية.

و علي أيّ حال فان كان مراده من الشرائع الأحكام الفرعية و تعليل التكليف بها بالعلم بها، فيرد علي هذا التعليل أنّ مجرّد العلم بالشرائع و الأحكام لا ينفع في تنجّز التكليف و العقاب

عليه، ما دام لم يكن فعلياً بتحصيل الاعتقاد بأصل الشريعة، بل إنّ الكافر موظّف- بحكم العقل- أوّلًا بالفحص عن حقانية أصل الشريعة و الاعتقاد باصولها، ثمّ يتوجه إليه خطاب وجوب تحصيل العلم بالأحكام.

و لو كان مراد الشيخ حقانية أصل الشرائع، ففيه أنّ مجرد العلم بذلك لا يوجب تنجيز آحاد الأحكام و الفروع ما دام لم يحصل العلم بها.

و لكن الأظهر أنّ مراده من الشرائع و اصول الأديان و مقصوده من العلم، الاعتقاد بها بطريق النظر في المعجزات.

و هذه النكتة المهمة- أعني بها توقف التكليف بالفروع علي الاعتقاد و الاقرار باصول الدين- قد عُلّل به لنفي التكليف عن الكفار بالفروع في النصوص المعتبرة.

و قد اتَّكل علي هذه النكتة في الحدائق لنفي تكليف الكفار بالفروع و جعله الوجه الثاني من وجوه ذلك؛ حيث قال: «الثاني الأخبار الدالة علي توقف التكليف علي الاقرار و التصديق بالشهادتين … فانه متي لم تجب معرفة الامام قبل الايمان باللّٰه و رسوله فبطريق الأولي معرفة سائر الفروع التي هي متلقاة من

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 67

الامام عليه السلام. و الحديث صحيح السند باصطلاحهم صريح الدلالة، فلا وجه لرده و طرحه و العمل بخلافه إلّا مع الغفلة عن الوقوف عليه … و يظهر ذلك أيضاً من المحدث الامين الاسترآبادي عطّر اللّٰه مرقده في كتاب الفوائد المدنية، حيث صرح فيه بأنّ حكمة اللّٰه تعالي اقتضت أن يكون تعلق التكاليف بالناس علي التدريج، بأنّ يُكلَّفوا أوّلًا بالاقرار بالشهادتين، ثمّ- بعد صدور الاقرار عنهم- يكلفون بسائر ما جاءَ به النبي صلي الله عليه و آله» «1». و سيأتي البحث عن ذلك في تقرير وجوه مخالفة المشهور في المقام.

4- الاستدلال بالكتاب:

فقد استدلّ- مضافاً إلي

ما سبق من الآيات في تأسيس الأصل- بما دلّ من الآيات بظاهرها علي كون الكفّار مكلّفين بالفروع، كقوله تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» «2»، و قوله تعالي- حكايةً عن الكفار حالكونهم في جهنّم-: «قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَ كُنّٰا نَخُوضُ مَعَ الْخٰائِضِينَ وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ» «3»، و قوله: «فَلٰا صَدَّقَ وَ لٰا صَلّٰي» «4»، و قوله تعالي: «وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لٰا يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ». و يؤيّده ما رواه في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل الآية.

وجه الدلالة أنّ الكفار لو لم يكونوا مكلّفين بالصلاة و الزكاة، لم يكن وجهاً لكون تركهما سبباً لدخولهم في النار.

و لكن يمكن الجواب- مضافاً إلي ما سبق آنفاً- عن الآية الاولي و الثانية

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 3، ص 39- 40.

(2) آل عمران: 98.

(3) المدثّر: 43- 46.

(4) القيامة: 31.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 68

بامكان إرادة المؤمنين من الناس فكأنّ الكفار و المشركين لم يحسبهم اللّٰه من الناس في هاتين الآيتين. هذا مع أنّ الاولي في خصوص الحج، فهي أخص من المدّعي. و قد حمل في الحدائق هذه الآية علي المؤمنين مستدلًا بقاعدة حمل المطلق علي المقيد و العام علي الخاص؛ حيث قال: «و ورود يا أيها الناس، في بعض و هو الأقل، يُحمل علي المؤمنين حمل المطلق علي المقيد و العام علي الخاص، كما هو القاعدة المسلّمة بينهم» «1». و لكن ما سبق منّا آنفاً في توجيه هذه الآيات أشبه بمقتضي الصناعة.

و أما باقي الآيات، فيمكن كون اللوم و العتاب و استحقاق العقاب و السلوك في سقر بسبب

كفرهم و عنادهم و لجاجهم المانع من العمل بالأحكام، فأوجدوا سبب حرمانهم من بركات فعل الصلاة و الزكاة بكفرهم، فلم يصلّوا و لم يزكّوا لأجل كفرهم و امتناعهم من قبول عدم الاسلام، كما يشهد لذلك احتفاف ترك الصلاة بتكذيب القيامة و ترك تصديق ما جاءَ به النبي صلي الله عليه و آله كما في قوله تعالي:

«وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ»، و قوله تعالي: «فَلٰا صَدَّقَ وَ لٰا صَلّٰي، وَ لٰكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّٰي» «2».

و معناه أنّ الكافر لو كان يصدّق باللّٰه و لم يكذّب يوم الدين و النبي صلي الله عليه و آله لصلّي، فكان عدم صلاته لأجل كفره باللّٰه و تكذيبه لما جاءَ به النبي صلي الله عليه و آله. و عليه فاستحقاقه العقاب إنّما هو بسبب كفره. و إنّما عوتب و ليمَ علي ترك الصلاة و الزكاة ظاهراً في لفظ الخطاب.

5- قاعدة الجبّ

المستفادة من قوله صلي الله عليه و آله: «الاسلام يجبّ ما قبله» «3»، و غيره من النصوص. و هي من أهمّ الوجوه المستدلّ بها للقاعدة المبحوث عنها في

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 3، ص 43.

(2) القيامة: 31.

(3) عوالي اللئالي: ج 2، ص 54.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 69

المقام.

بتقريب: أنّ مفاده هذه القاعدة ارتفاع ما علي الكافر من التكاليف و الحدود الشرعية حال كفره، بسبب الاسلام بعد ما أسلم.

و لازم ذلك كون الكافر حال كفره مكلّفاً بالتكاليف و الحدود و الأحكام المقرّرة في الاسلام، و إلّا لا معني لارتفاع آثارها، من القضاء و الكفارة و الحدود. فيثبت بهذه القاعدة كون الكفار مكلّفين بالفروع- حال كفرهم- كالمسلمين.

و لكن يمكن الجواب: بأنّه يمكن أن يراد من الجبِّ دفع الآثار و الأحكام المترتبة

علي كفرهم و عدم إسلامهم؛ حيث كانوا أوّلًا مكلّفين بالاصول ثمّ بالفروع.

بيان ذلك: أنّه يمكن أخذ الكفار بترك الفروع- حال كفرهم- لأجل كفرهم و عدم قبول الاسلام عناداً، لا لأجل تكليفهم بالفروع مستقلًا مع قطع النظر عن تكليفهم بالاصول و بناءً علي هذا الأساس يكون مفاد قاعدة الجبّ أن تشرّفهم بالاسلام يرفع عنهم آثار ما كان عليهم من التكاليف الفرعية المترتبة علي الايمان بالاصول؛ بمعني أنّهم لا يؤاخذون بها- بعد إسلامهم- لأجل كفرهم المانع- قبل الانتحال- من إيمانهم بالاصول و بالمآل من عملهم بالفروع.

و لا سيما أنّ جملة من نصوص هذه القاعدة ناظرة إلي ما صدر منهم قبل مجي ء الاسلام في عصر الجاهلية، و لم يكن أحدٌ في ذلك الزمان مكلّفاً باصول الاسلام، فضلًا عن فروعه.

و حاصل الكلام: أنّ قاعدة الجب بصدد بيان قطع التكاليف الفرعية المتوقّعة من الكفار بسبب تكليفهم بالاسلام في مقابل التائب المسلم؛ حيث إنّه

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 70

بعد التوبة يجب عليه تدارك ما فاته من العبادات، من القضاء و الكفارة؛ نظراً إلي ثبوت التكاليف عليه قبل التوبة بسبب قبوله الاسلام. فإنّ الكافر و إن لم يكن مكلّفاً بالفروع مستقلًا في قبال تكليفه بالاصول- بناءً علي المبني المختار المقابل للمشهور- إلّا أنّه كان مكلّفاً بها بتبع تكليفه بالاصول. و من هنا فقد فوَّت الكفار علي أنفسهم الواجبات و التكاليف الدينية بكفرهم. فمقتضي القاعدة الأوّلية أن يتداركوا بعد الاسلام ما فوّتوه من الفرائض بسوءِ اختيارهم. و قاعدة الجب إنّما تفيد قطع هذا الثبوت التبعي الممتنع بالاختيار؛ لأنّه لا ينافي الاختيار؛ لأنّ الايمان بالاصول كان اختيارياً له.

إن قلت: وجوب القضاء فرع الفوت، و الفوت فرع ثبوت التكليف بالفائت.

قلت: نعم

وجوب القضاء علي المسلم فرع فوت الواجب، و ذلك فرع ثبوت التكليف و فعليته. و لكن لا ينافي ذلك صحة إيجاب القضاء علي الكافر أيضاً بعد اسلامه بلحاظ ما فوّته علي نفسه من الواجبات و الفرائض و ما أتلفه و استولي عليه من الحقوق و الأموال الواجب عليه دفعها و ردّها إلي أربابها بحكم الاسلام. فكان قابلًا للتكليف بتداركها؛ نظراً إلي كون تفويتها بلجاجه و عناده و إنكاره و كفره الاختياري له.

و نقول: إنّ حديث الجبّ- علي فرض صحة سنده- بنفسه دليل ثبوت التكليف الطولي بالفروع علي الكفار و صحة إيجاب تدارك ما فات عنهم من التكاليف الفرعية بسبب سوءِ اختيارهم. و لكن حديث الجبّ دلّ علي إغماض الشارع عن تكليفهم بتدارك ذلك رأفةً بهم لإسلامهم و امتناناً عليهم لانتحالهم إلي الاسلام و ترغيباً لهم إلي الرجوع عن الكفر إلي الاسلام و تشويقاً لهم إلي الدخول في الشريعة السمحاء السهلة.

فاتّضح علي ضوء ما بيّناه عدم صلاحية حديث الجبّ للاستدلال به علي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 71

تكليف الكفار بالفروع تكليفاً فعلياً في عرض الايمان بالاصول، بل غاية ما يستفاد منه بالملازمة، إنّما هي ثبوت التكليف الشأني بالفروع في طول التكليف بالاصول. و القرينة العقلية شاهدةٌ لنفي المعني الأوّل و إثبات المعني الثاني من تكليف الكفار بالفروع، كما أنّه نقطة التلاؤم بين المشهور و بين مخالفيهم من الفقهاء و المحدّثين و الاصوليين.

6- بعض الروايات المستدلّ بها علي اشتراك الكفار مع المؤمنين في التكاليف الفرعية،

كرواية سليمان بن خالد، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أخبرني عن الفرائض التي افترض اللّٰه علي العباد ما هي؟ فقال عليه السلام: شهادة أن لا إله إلّا اللّٰه و أنّ محمداً رسول اللّٰه، و إقام الصلاة الخمس و إيتاءُ

الزكاة و حِجُّ البيت و صيام شهر رمضان و الولاية. فمن أقامهن و سدّد و قارب و اجتنب كلّ مسكر دخل الجنة» «1».

قوله: «قارب» لعلّ المقصود قاربهنّ أيّ جمعهنّ من دون أن يترك بعضهنّ.

قوله: «سدّد»؛ أي أحسن فعلهنّ بالاخلاص و نية القربة. و لعل المراد من «قارب» قصد التقرّب بهنّ إلي اللّٰه.

وجه الدلالة كون مورد السؤال ما افترض اللّٰه علي عموم العباد الشامل للكفار و المسلمين، و أنّ ابتناء جواب الامام عليه يقتضي اشتراك التكليف بين الكفّار و المؤمنين.

و يمكن الجواب عن الاستدلال بهذه الرواية بما أجبنا آنفاً عن عموم بعض الآيات من إرادة خصوص المؤمنين و عدم حساب الكفار من الناس، فضلًا عن كونهم عباداً. هذا، مع أنّ التعبير بالعباد إنّما جاءَ في كلام السائل، دون الامام.

و لكن الأصح في الجواب: أنّ التعبير المزبور، و إن جاءَ في النصوص

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، من مقدّمة العبادات من كتاب الطهارة، ح 17.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 72

المتواترة «1»، إلّا أنّه إمّا بلحاظ ما قلناه من كون جميع الناس مكلّفين بالفروع في طول تكليفهم بالاصول، أو بلحاظ ما قال بعض المحققين من عدم عدّ الكفّار من العباد فانّ اولئك كالأنعام، بل هم أضلّ.

و قد يُستدلّ بحديث: «بُنِيَ الاسلام علي الخَمس» «2» بلحاظ كون الكفار مكلّفين بالاسلام، فيكلَّفون بالخَمس المذكور المبني عليه الاسلام بالتبع. لكنّه كما تري؛ حيث لا ريب في كون دين الاسلام مجموع التكاليف و الأحكام الفرعية، و لكن الكلام في كون الكفّار مكلّفين بالتكاليف الفرعية مستقلًا عن الاصول، لا بتبعها، كما بيّناه.

و أما الاستشهاد بحديث قبالة الأرض «3» لمن يري له ذلك الامام و الوالي، فلا يرتبط بالمقام؛ لأنّ الكلام في

التكليف الأوّلي، لا الثانوي الحكومي الثابت بحكم الامام أو الحاكم و الوالي. و قد بيّنا الفرق بينهما في كتابنا «بدائع البحوث في علم الاصول» «4».

7- لا ريب في كون الكفار مكلّفين بالايمان،

و قد ورد في الأخبار أنّ الايمان عمل بالأركان التي هي التكاليف الفرعية. فلا محالة يكون الكفّار مكلّفين بالتكاليف و الأحكام الفرعية.

و فيه: أنّ الايمان فعل الجوانح و إتيان التكاليف الفرعية فعل الجوارح، و

______________________________

(1) كقوله: فرض اللّٰه علي العباد، الكافي: ج 1، ص 290، و ج 2، ص 22، و ج 3، ص 273، و ج 6، ص 190، ح 1، و ج 7، ص 170، ح 1، كامل الزيارات: ص 449. و قوله: إنّ اللّٰه عزّ و جلّ فرض فرائض موجبات علي العباد المروي في الكافي: ج 2، ص 383، ح 1.

(2) الوسائل: ب 1، من كتاب الطهارة، ح 1.

(3) الوسائل: ب 72، من جهاد العدوّ، ح 2.

(4) بدائع البحوث في علم الاصول: ج 1، ص 255.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 73

إنّهما متغايران في ماهيتهما؛ و ذلك لأنّ الايمان خضوع باطني و خشوع قلبي لما اعتقده الانسان من العقائد الدينية، نعم يمكن أن يقال: إنّ العمل بالتكاليف الفرعية علامة علي إيمان العامل بها، كما ورد في النصوص أنّ: «الايمان ما وقر في القلوب و صدّقته الاعمال» «1» و ورد في أكثر الطرق: «الايمان ما وقر في القلب و صدّقه العمل» «2». و يشهد لذلك قوله تعالي: «الذين آمنوا و عملوا الصالحات» في كثير من الآيات القرآنية؛ لظهور العطف في مغايرتهما. فاطلاق الايمان علي العمل ادعائيٌ، و المقصود كاشفية عدم العمل بالاركان عن عدم الايمان.

فتحصّل أنّه لا ملازمة بين التكليف بالايمان بالاصول و بين التكليف بالعمل

بالفروع.

8- و قد يستدلّ لتكليف الكفار بالفروع بأنّهم لو لم يكونوا مكلّفين بالفروع، لَيلزم تساوي الكفار الذين ارتكبوا معاصي و ذنوب كثيرة شنيعة، مع الكفار الذين لم يرتكبوها في العقاب.

مع أنّا نعلم بالضرورة كونهم متساوين في العقاب.

و هذا الاستدلال لا أساس له؛ لوضوح عدم كون أكثر ما يرتكبون من الجنايات و القبائح و الفواجر من مختصّات الاسلام، بل ممنوعة بحكم العقل و جميع الأديان فلا يبعد تفاوت درجات عقابهم باختلاف معاصيهم و جناياتهم؛ كثرةً و قلّةً، و من حيث عِظَمها و صغرها. مع أنّهم متساوون في ارتكاب أعظم الذنوب و هو الشرك باللّٰه العظيم.

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 50، ص 208.

(2) الكافي: ج 2، ص 26، ح 3/ عوالي اللئالي: ج 1، ص 248/ بحار الانوار: ج 46، ص 176.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 74

و قد تشبَّث بعض المحققين «1» للمشهور بوجوه اخري ضعفها واضح، فلا حاجة إلي إطناب الكلام بذكرها.

الاستدلال لعدم تكليف الكفار بالفروع
اشارة

و يمكن الاستدلال لعدم تكليف الكفار بالفروع بوجوه ثلاثة:

1- إنّ إثبات تكليف الكفار بالفروع و اشتراكهم مع المؤمنين في التكاليف الفرعية- مضافاً إلي تكليفهم بالاصول- يحتاج إلي دليل شرعي،

و هو غير ثابت؛ إذ الخطاب في جُلّ الآيات القرآنية و جميع الروايات في تشريع الأحكام و التكاليف الفرعية بالمؤمنين، إلّا في بعضها؛ حيث خوطب فيه الناس و العباد، و قد عرفت توجيهه. و أما الاجماع فهو غير حاصل؛ لمخالفة جماعة من الأصحاب. و كذا ساير ما استُدلّ به من الوجوه؛ حيث قد عرفت ضعفها بأجمعها و عدم صلاحيتها لاثبات رأي المشهور. فلا دليل علي تكليفهم بالفروع علي حدة. و هو يكفي لاثبات المطلوب.

و قد يتوهم أنّ كبري: «عدم الدليل دليل علي العدم» لا صغري لها في المقام؛ نظراً إلي حكم العقل العملي بوجوب شكر المنعم بطاعة أوامره. و عليه فوجوب طاعة حكم اللّٰه و اتّباع دينه ثابت بحكم العقل. و هذا أدلّ دليل علي تكليف

______________________________

(1) العناوين الفقهية/ للسيد المراغي: ج 2، ص 714- 721/ القواعد الفقهية للشيخ محمد الفاضل: ج 1، ص 315.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 75

الكفار بالفروع؛ إذ الفروع ليست إلّا أحكام اللّٰه.

و لكنه لا أساس له. و ذلك لأنّ العقل بعد حكمه المزبور، يحكم أيضاً بلزوم تعلّم أوامر اللّٰه من أنبيائه، و لا سبيل و لا حكم للعقل في تعيين أحكام اللّٰه و شرائعه؛ لأنّها توقيفية لا تثبت إلّا بالنقل و السمع.

و حينئذٍ نقول: لا بد لاثبات أحكام اللّٰه و شرائعه من دليل. و ما دام لم تثبت بحجّة لا حكم للعقل بطاعته؛ إذ موضوع حكمه بطاعة اللّٰه، صدور أمره و حكمه.

و عليه فعدم دليل و حجّة شرعية علي إثبات حكم اللّٰه و أمره، دليل علي عدم صدور الأمر و الحكم منه تعالي. و هذا مقصودنا من احتياج

تكليف الكفار بالفروع إلي الدليل. و قد فرغنا عن عدم صلاحية الوجوه المزبورة للدليلية علي ذلك؛ نظراً إلي القرينة العقلية المانعة من توجّه التكليف إليهم حال كفرهم قبل إيمانهم بالاصول.

2- حكم العقل

بأنّ من لم يؤمن بالاصول لا يمكن تكليفه بالفروع؛ ضرورة كون التكليف بالأحكام الفرعية فرع الالتزام بأصل الشريعة و أصولها. اللّهم إلّا أن يكلّف بالفروع تبعاً لتكليفه بالاصول- كما بيّناه- لا مستقلًا، كما هو محل الكلام.

و ليس وجه الاستحالة جهل الكفار بالفروع و غفلتهم عن التكاليف الفرعية لكفرهم، كما زعم الشيخ الأعظم؛ حيث قال: - في الجواب عن نصوص المقام- «إنّا لا نقول بكون الكفار مخاطبين بالفروع تفصيلًا، كيف؟ و هم جاهلون بها غافلون عنها؟!» «1».

بل الوجه في استحالة تكليفهم بالأحكام الفرعية، إنكارهم للرسالة و عدم اعتقادهم بالاسلام؛ فإنّ تكليفهم بالفروع قبيح لأجل ذلك، لا لأجل جهلهم بالأحكام و عدم التفاتهم بها، و إلّا لسري الإشكال في كثير من المؤمنين الجاهلين بالأحكام الفرعية الغافلين عنها، مع أنّ الفقهاء تسالموا علي اشتراك

______________________________

(1) كتاب الطهارة: ج 2، ص 569.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 76

الأحكام بين العالم و الجاهل، بل عُدّ ذلك من الضروريات التي لم يخالف فيه أحدٌ.

و قد اعترف الشيخ الأعظم بذلك؛ حيث قال: «و علي تقدير الالتفات، فيستهجن، بل يقبح خطاب من أنكر الرسول بالايمان بخليفته و المعرفة بحقه و أخذ الأحكام منه» «1».

3- ما دلّ من النصوص علي عدم تكليف الكفار بالفروع مستقلًاّ عن الاصول.

و قد استدل المحدث البحراني بهذه النصوص و خالف بها المشهور.

فمن هذه النصوص: صحيح زرارة قال: «قلت لابي جعفر عليه السلام: أخبرني عن معرفة الامام منكم واجبة علي جميع الخلق؟ فقال عليه السلام: إنّ اللّٰه عزّ و جلّ بعث محمداً صلي الله عليه و آله إلي الناس أجمعين رسولًا و حجة للّٰه علي جميع خلقه في أرضه، فمن آمن باللّٰه و بمحمد رسول اللّٰه و اتّبعه و صدّقه، فانّ معرفة الامام منّا واجبة عليه؛ و من لم

يؤمن باللّٰه و رسوله و لم يتّبعه و لم يصدّقه و يعرف حقّهما، فكيف يجب عليه معرفة الامام و هو لا يؤمن باللّٰه و رسوله و يعرف حقّهما؟!» «2».

قال في الحدائق- بعد ذكر هذه الصحيحة-: «و هو كما تري صريح الدلالة علي خلاف ما ذكروه، فانه متي لم تجب معرفة الامام قبل الايمان باللّٰه و رسوله، فبطريق الأولي معرفة سائر الفروع التي هي متلقاة من الامام. و الحديث صحيح السند باصطلاحهم، صريح الدلالة، فلا وجه لردّه و طرحه و العمل بخلافه إلّا مع الغفلة عن الوقوف عليه.

و إلي العمل بالخبر المذكور ذهب المحدث الكاشاني؛ حيث قال في كتاب

______________________________

(1) كتاب الطهارة: ج 2، ص 569.

(2) الكافي: ج 1، ص 180، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 77

الوافي بعد نقله ما صورته: و في هذا الحديث دلالة علي أنّ الكفار ليسوا مكلّفين بشرائع الاسلام كما هو الحق؛ خلافاً لما اشتهر بين متأخّري أصحابنا، انتهي.

و يظهر ذلك أيضاً من المحدث الأمين الاسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية؛ حيث صرح فيه بأنّ حكمة اللّٰه تعالي اقتضت أن يكون تعلق التكاليف بالناس علي التدريج؛ بأنّ يكلفوا أوّلًا بالاقرار بالشهادتين، ثمّ بعد صدور الاقرار عنهم يكلفون بسائر ما جاء به النبي صلي الله عليه و آله. قال: و من الأحاديث الدالة علي ذلك صحيحة زرارة المذكورة في الكافي، ثمّ ساق الرواية بتمامها» «1».

منها: ما رواه في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام: في حديث الزنديق الذي جاءَ إليه بأنّ: «أوّل ما قيّدهم به: الاقرار بالوحدانية و الربوبية و الشهادة بأن لا اله إلّا اللّٰه. فلما أقرّوا بذلك، تلاه بالاقرار لنبيه صلي الله عليه و آله بالنبوة و الشهادة

له بالرسالة.

فلما انقادوا لذلك، فرض عليهم الصلاة، ثمّ الصوم، ثمّ الصلاة، ثمّ الحجّ … » «2».

و منها ما رواه علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالي: «وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لٰا يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ» «3» عن الصادق عليه السلام، قال: «أ تري أنّ اللّٰه عزّ و جلّ طلب من المشركين زكاة أموالهم و هم يشركون به؟!، حيث يقول: و ويل للمشركين … و إنّما دعي اللّٰه العباد للايمان به، فاذا آمنوا باللّٰه و رسوله افترض عليهم الفرائض» «4».

و منها: ما ورد في صحيح بريد بن معاوية عن الباقر عليه السلام في تفسير قوله

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 3، ص 39- 40.

(2) الاحتجاج: ج 1، ص 379.

(3) فُصّلت: 5 و 6.

(4) تفسير القمي: ج 2، ص 262.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 78

تعالي: «و أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «1» قال عليه السلام: «كيف يأمر بطاعتهم و يرخّص في منازعتهم؟ إنّما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ*» «2».

و إنّ دلالة هذه النصوص علي المطلوب واضحة غنية عن البيان و التوضيح و ما اورد عليها من المناقشات غير وارد.

و أما الاشكال باعراض المشهور عن هذه النصوص؛ نظراً إلي افتائهم بكون الكفّار مكلّفين بالفروع، فلا أساس له.

و ذلك أوّلًا: لأنّ كبري «وهن سند الخبر باعراض المشهور» لا نسلّمها. و قد فصّلنا البحث عن هذه الكبري في كتابنا «مقياس الرواية» و ناقشنا فيها.

فراجع «3».

و ثانياً: لأنّ هذه القاعدة مشهورة بين متأخري أصحابنا، كما نقله في الحدائق عن المحدّث الكاشاني أنّه- بعد الاستشهاد بصحيح زرارة- قال: «و في هذا الحديث دلالة علي أنّ الكفّار ليسوا

مكلّفين بشرائع الاسلام، كما هو الحق؛ خلافاً لما اشتهر بين متأخّري أصحابنا» «4»

و ثالثاً: لأنّ اعراض المشهور إنّما يوهن سند الخبر إذا دلّ علي حكم توقيفي تعبّدي، دون ما إذا كان إرشاداً إلي حكم العقل، كما في المقام؛ نظراً إلي

______________________________

(1) النساء: 62.

(2) الكافي: ج 8، ص 184- 185، ح 212.

(3) مقياس الرواية في علم الدراية، ص 149- 163.

(4) الحدائق الناضرة: ج 3، ص 39- 40.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 79

حكم العقل بقبح خطاب الكافر و تكليفه بالفروع ما دام لم يعتقد و لم يؤمن بالاصول، كما هو مفاد النصوص المزبورة.

و علي أيّ حال يمكن الجمع بين ما ذهب إليه المشهور و بين من خالفهم بما بيّناه، من القول بالتكليف التبعي بالفروع، لا مستقلًا، لكنه لا يلائم استدلال الفقهاء بهذه القاعدة لوجوب الزكاة و قضاء العبادات.

إلّا أنّ الذي يسهّل الخطب أنّ في غالب الموارد التي تمسك الفقهاء بهذه القاعدة يوجد دليل علي المسألة بخصوصها؛ إمّا إجماع أو دليل لفظي، فلم يُرز استنادهم إلي هذه القاعدة وحدها في الموارد المشار إليها، كما سيتضح ذلك في التطبيقات الفقهية.

و في هذا المقدار من البحث في مدرك القاعدة كفايةٌ.

و فتحصّل أنّ الأقوي عدم تكليف الكفار بالفروع مستقلّاً عن الاصول، بل إنّهم مكلّفون بها تبعاً للايمان بالاصول بالمعني الذي بيّناه و هو محل التلاؤم مع المشهور.

إقامة الحدود علي الكفار
اشارة

ليس لتكليفهم بالفروع

لا إشكال في وجوب إقامة الحدود علي الكفار في الجملة. و قد يستدل بذلك لتكليف الكفّار بالفروع، لزعم منافاة ذلك مع عدم تكليفهم بالفروع. و علي أيّ حال يمكن الاستناد لاقامة الحدود علي الكفار بوجوه:

1- إطلاق الآيات:

يستفاد من إطلاق آيات الحدود و الديات و القصاص عدم اختصاصها بالمسلمين و تعلقها بمطلق من ارتكب الجنايات و المحرّمات الموجبة لها، حتي المشركين و المنافقين. و ذلك لتعلّق الحكم في هذه الآيات بطبيعي المتلبّس بالجناية و مرتكب بعض المعاصي. و ذلك مثل قوله تعالي: «السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 80

فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا» «1»، و قوله: «الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ» «2»، و قوله: «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً» «3»، فيشمل الكافر إذا قذف مؤمنةً محصنةً. و كذلك آيات الديات و القصاص.

و فيه: أنّ هذه الآيات لا تثبت التكليف علي كلّ من جني بهذه الجنايات؛ إذ ليست بصدد ذلك.

نعم هي بصد تكليف المؤمنين باقامة الحدود علي كل سارق و سارقة، و زان و زانية، و كلّ من جني؛ لأنّ المؤمنين هم الخاطبون بقوله: «فاقطعوا» و «فاجلدوا»، و ليست بصدد تكليف الجاني.

و لا ملازمة بين تشريع المجازات في حق الجاني و بين ثبوت التكليف عليه. و ذلك لما في تشريع الحدود و الديات و القصاص علي الكفّار من الحِكَم و المصالح التأديبية و السياسية و الاجتماعية، كقلع مادّة الفساد و منع شيوع الفحشاء بين المؤمنين و القيام بالقسط و العدل باحقاق حق المجني عليه المظلوم، و نحو ذلك من موجبات التأديبات و السياسات المقرّرة في شريعة الاسلام. كما يشهد لذلك ما ورد من

النصوص الخاصّة، كما سيأتي ذكرها.

2- الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام:

و إنّ النصوص قد وردت طائفة منها في مطلق الحدود. و وردت طائفةٌ اخري في حدّ شرب الخمر و النبيذ المسكر. و وردت طائفة ثالثة في حد الزنا.

______________________________

(1) المائدة: 38.

(2) النور: 2.

(3) النور: 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 81

النصوص الدالّة وجوب إقامة مطلق الحدود علي الكفار

أما الطائفة الاولي: و هي ما دلّ من النصوص علي وجوب إقامة مطلق الحدود علي الكفار.

فمن هذه النصوص: خبر الكناسي؛ حيث إنّه دلّ علي اشتراط التكليف في تعلّق الحد التام و وجوبه. و لمّا ثبت وجوب إقامة الحدّ علي الكفار، فيثبت كونهم مكلّفين بالفروع.

و هو ما رواه محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيي عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب عن أبي أيّوب الخزاز، عن يزيد الكناسي، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«الجارية إذا بلغت تسع سنين ذهب عنها اليتم و زُوّجت و اقيمت عليه الحدود التامّة لها و عليها. قال: قلت: الغلام إذا زوّجه أبوه و دخل بأهله و هو غير مدرك، أ تقام عليه الحدود علي تلك الحال؟ قال عليه السلام: أما الحدود الكاملة التي يؤخذ بها الرجال فلا، و لكن يجلد في الحدود كلّها علي مبلغ سنّه، و لا تبطل حدود اللّٰه في خلقه، و لا تبطل حقوق المسلمين بينهم» «1».

و أوّل ما يرد علي هذا الوجه، أنّ هذه الرواية ضعيفة لأجل يزيد الكناسي؛ إذ هو يزيد أبو خالد الكناسي، و لم يرد بعنوانه توثيق، إلّا بناءً علي اتحاده مع يزيد أبي خالد القماط، كما هو المحتمل؛ نظراً إلي عدم ذكر الشيخ في رجاله أبا خالد القماط و اكتفائه بذكر أبي خالد الكناسي. و لكن مع ذلك يحتمل التعدّد؛ نظراً إلي ذكر البرقي كليهما بعنوانهما علي حدةٍ في

رجاله. و احتمال التعدد يكفي في ضعف الرواية في فرض كون أحدهما ضعيفة.

أما دلالةً، فقد دلّ الخبر المزبور علي اعتبار البلوغ في تعلّق الحد الكامل و

______________________________

(1) الوسائل: ب 6، من مقدمات الحدود، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 82

وجوبه. و يستفاد منه اشتراط التكليف في تعلّق الحد و وجوب إقامته.

و قوله: «و لا تبطل حدود اللّٰه في خلقه، و لا تبطل حقوق المسلمين بينهم» لا يخلو من إشعار بعدم اشتراط الاسلام و الايمان في تعلق الحدود و وجوب اقامتها. و ذلك لما جاءَ فيه من تعلّق الحدود و وجوب إقامتها بين الخلق كلّهم- مسلمين و غيرهم- ما دام لم يوجب إبطال حق المسلمين. فيدل باطلاقه علي وجوب إقامة الحد بين خلقه مطلقاً حتي الكفار و المشركين.

و يمكن أن يستفاد من هذين المدلولين أنّ اقامة الحدود علي المشركين ليس لتكليفهم بالفروع. و لكن يشهد سياقها علي أنّ المراد عدم مشروعية إبطال حقوق بعض المسلمين بسبب فعل بعض آخر منهم فيما بينهم. إلّا أنّه لا يمنع من إطلاق قوله: «لا تبطل حدود اللّٰه في خلقه»، فانّ كلّ فقرة مستقلّة في اتباع ظهورها، و هذا مرادهم من تبعُّض فقرات حديث واحد في الحجية.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ هذه الفقرة بمنزلة التعليل، فهي ناظرة إلي توجيه لزوم إقامة الحدّ في حق الصبي، و لو ناقصةً و يشترط في انعقاد الاطلاق كون الكلام ناظراً إلي الجهة التي يراد الاطلاق من تلك الجهة.

و قد تبيّن لك مما بيناه أنّه لا نظر للفقرة المزبورة إلي الكفار، بل إنّما نظرها إلي بيان وجه إقامته الحدّ الناقص في حق صبيان المسلمين بأنّ حقّ المجني عليه المسلم لا تضيع ببطلان حدّ

الصبي الجاني، بل لا بد من إحقاقه باقامة الحد، كما يشعر إلي هذه الجهة قوله: «و لا تبطل حقوق المسلمين … » أو بأنّ حدود اللّٰه لا يجوز إبطالها و تعطيلها بين المسلمين، و لو باقامتها ناقصةً. فلا نظر لها إلي الكفّار.

و دعوي دلالة الفقرة المزبورة علي عدم بطلان حدود اللّٰه بين الكفار بطريق

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 83

الفحوي و الأولوية؛ نظراً إلي أولوية الكفار بالعقاب لكفرهم و بُعدهم عن رحمة اللّٰه، و لا سيما البالغين منهم بعد دلالتها علي اقامة الحدود بين صبيان المسلمين، و لو ناقصةً.

مدفوعة: بأنّ صبيان المسلمين لما وُلدوا في بيوت المسلمين و يكون نموّهم و حشرهم و رشدهم بين مجتمع المسلمين يكون للمسلمين حقوق عليهم بمقتضي ذلك، مع أنّهم تابعون لآبائهم في مختلف شئون العيش، و مقتضي ذلك نفوذ قوانين الاسلام و حدوده الجزائية في حقهم بحسب مبلغ سنّهم، و هذا بخلاف الكفار الحربيين الذين لا علقة لهم مع المسلمين و لا حقوق بينهم، بعد فرض عدم تكليفهم بالفروع. و من أجل ما قلناه لا مدفع من احتمال وجود الخصوصية في صبيان المسلمين.

و علي أيّ حال يشكل الاستدلال بهذه الرواية؛ لضعفها سنداً و دلالة؛ لوجود القرينة الحالية السياقية الصارفة إلي المسلمين. و لا أقل من احتماله. و مع احتمال الخلاف ينهدم أساس الاستدلال.

ثمّ إنّه يستفاد من الأخبار المعتبرة تعلّق الحدود بالكفار و المشركين و وجوب إقامتها عليهم إذا ارتكبوا الجناية و المحرّمات في بلاد المسلمين، أو ارتكبوها في غير بلاد المسلمين و لكن رفعوا النزاع إلي حُكّام المسلمين، دون ما إذا ارتكبوها في بلادهم و لم يرفعوا النزاع إلي حكّام المسلمين مطلقاً، سواءٌ رفعوا النزاع إلي

حكّام غير المسلمين أو لم يرفعوا النزاع إلي حاكم أصلًا.

من هذه النصوص: صحيح أبي بصير، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن دية اليهود و النّصاري و المجوس، قال: هم سواء ثمانمائة درهم، قلت: إن اخذوا في بلاد المسلمين و هم يعملون الفاحشة أ يقام عليهم الحدّ؟ قال عليه السلام: نعم يحكم فيهم بأحكام

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 84

المسلمين» «1».

و منها: رواية أبي بصير عن أبي جعفر، قال: «إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة و أهل الانجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه، إن شاء حكم بينهم، و إن شاء تركهم» «2». و يقتضيه قوله تعالي: «فَإِنْ جٰاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» «3». و ظاهر الرواية الحكم بينهم بأحكام المسلمين، كما هو الظاهر الآية الشريفة و صريح صحيح أبي بصير.

النصوص الدالة علي إقامة الحدِّ علي الكافر المتجاهر بشرب الخمر

أما الطائفة الثانية: فهي نصوص دلّت علي وجوب إقامة الحد علي الكافر الذمي المتجاهر بشرب الخمر، بل أيّ مسكر، بل يدل بعض نصوص هذه الطائفة باطلاقه علي إقامته الحدّ علي مطلق الكافر المتجاهر بشرب الخمر، سواءٌ كان ذمّياً أو حربياً.

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من أبواب ديات النفس، ح 8.

(2) الوسائل: ب 27، من أبواب كيفية الحكم، ح 1.

(3) المائدة: 42.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 85

و قد دلّت علي ذلك نصوص صحيحة.

منها: صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه، قال: «كان عليٌّ عليه السلام يجلد الحرَّ و العبد و اليهوديَّ و النصرانيَّ في الخمر ثمانين» «1».

و منها: مضمر أبي بصير قال: «قال حدّ اليهودي و النصراني و المملوك في الخمر و الفرية سواء؛ و إنّما صولح أهل الذمة علي أن يشربوها في بيوتهم» «2». و مضمرة في

حكم الصحيح. و قوله: «الفِرية»؛ أي الافتراء، و المقصود حدّ القذف.

و في موثقه الآخر قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد الحرّ و العبد و اليهودي و النصراني في الخمر و النبيذ ثمانين، قلت: ما بال اليهودي و النصراني؟ فقال: إذا أظهروا ذلك في مصر من الأمصار، لأنّهم ليس لهم أن يظهروا شربها» «3».

و لا يخفي أنّ سؤال الراوي؛ استعجاباً، بقوله: «و ما بال اليهودي»، كاشف عن عدم تكليف الكفّار بالفروع في اعتقاده و ارتكازه، و من أجل ذلك سأل الامام عن وجه إقامة الحدّ عليه. و الامام لم يعلّل في الجواب بكون الكفار مكلّفين بالفروع، بل إنّما وجّه ذلك بمنعهم عن إظهار المعصية حسب عهد الذمة، أو في نفسه سدّاً عن شيوع الفساد و الفحشاءِ و حفظاً لحرمة الاسلام و المسلمين، بل لكلتا الجهتين؛ فانّ كلّاً منهما يصلح لأنّ يكون حكمه تشريع الحدّ علي المتجاهر منهم، و من هنا يشمل الملاك المعلّل به في هذه النصوص للكافر الذمي و الحربي كليهما.

و منها: حسنة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قضي أمير المؤمنين عليه السلام أن يُجلد اليهودي و النصراني في الخمر و النبيذ المسكر ثمانين جلدة إذا أظهروا شربه في مصر من أمصار المسلمين، و كذلك المجوس، و لم يعرِّض لهم إذا شربوها في منازلهم و كنائسهم حتّي يصير بين المسلمين» «4». قوله: «قضي أن يُجلد» أي قرَّر و حكم كلّياً، لا في واقعة، و إلّا لكان الأنسب التعبير بقوله: «قضي بذلك».

______________________________

(1) الوسائل: ب 6، من أبواب حدّ المسكر، ح 4.

(2) المصدر: ح 5.

(3) المصدر: ح 2.

(4) المصدر: ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 86

و مما دلّ

علي ذلك ما رواه عبد اللّه بن جعفر الحميري في قرب الاسناد عن عبد اللّه بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسي بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن يهودي، أو نصراني، أو مجوسي اخذ زانياً، أو شارب خمر، ما عليه؟ قال عليه السلام: يقام عليه حدود المسلمين، إذا فعلوا ذلك في مصرٍ من أمصار المسلمين أو في غير أمصار المسلمين إذا رفعوا إلي حكّام المسلمين» «1».

و لكن هذه الرواية ضعيفة بعبد اللّٰه بن الحسن؛ إذ لم يوثّقه أحدٌ من مشايخ الرجال، بل هو مجهول لم يتعرّض أحدٌ لحاله. و لم يرو الشيخ الحرّ هذه الرواية عن كتاب علي بن جعفر حتي يُصحّح بهذا الطريق. فتحصّل أنّ هذه الرواية ضعيفة سنداً. و لكن الأمر سهل بعد دلالة النصوص المعتبرة علي مضمونها. و أما إذا رفعوا الأمر إلي الحاكم، فقد دلّ علي اقامة حدود الاسلام و أحكام المسلمين عليهم- مضافاً إلي هذه الرواية- رواية أبي بصير و الآية الشريفة السابق ذكرهما آنفاً.

و يُفهم من هذه النصوص أنّ الكفار إنّما يستحقون الحدّ لجهرهم بالمعاصي و تجاهرهم بارتكاب المحرّمات و نقض أحكام الشريعة. و هذا في الحقيقة لأجل نقضهم عهد الذمة؛ لأنّ عدم نقض أحكام الشريعة جهاراً و عدم تجاهرهم بالمعصية كان من موارد عهدهم مع والي المسلمين. فلا دلالة لهذه النصوص علي كونهم مكلّفين بالفروع، بل لها إشعارٌ بعدم تكليفهم بالفروع؛ إذ لو كانوا مكلّفين بالفروع كالمسلمين، لعوقبوا باجهار المعاصي، بل مطلقاً حتي خفاءً، من غير حاجة إلي عهد الذمة و نقضه.

و ذلك أوّلًا: لتعلق النهي في هذه النصوص باظهار المعصية، لا بارتكابها في بيوتهم و كنائسهم بمجرد قيام البيّنة العادلة. فلو كانوا مكلّفين بالفروع،

______________________________

(1)

الوسائل: ب 29، من مقدمات الحدود، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 87

لاستحقوا الحد بمجرّد ذلك، كما هو الثابت بالنص و الفتوي و الاجماع في حق المسلمين.

و ثانياً: لدلالة هذه النصوص علي عدم منع والي المسلمين إيّاهم عن ارتكاب المعصية في بيوتهم و كنائسهم، بل إنّما صالحهم علي ارتكابهم ذلك في بيوتهم و كنائسهم. فلو كانوا مكلّفين بتركها لم يكن يصالحهم علي ذلك. و ليس ذلك لسقوط الحدّ عنهم بالمصالحة بعد ثبوته لكونهم مكلّفين بالفروع، كما يظهر من صاحب الجواهر، «1» بل إنّما كان لما قلناه. و ذلك لعدم مشروعية المصالحة علي دين اللّٰه و حدوده لأحد من خلقه. و قد كان الأنبياء مكلّفين علي إجراء حدود اللّٰه، لا المصالحة مع الناس عليها. هذا كله في حدّ شرب المسكر.

النصوص الدالّة علي وجوب إقامة حد الزنا علي الكفار

و أمّا حدّ الزنا فقد دلّت طائفة من النصوص علي وجوب إقامته علي الكفار. و ظاهرها عدم اختصاص وجوب إقامته عليهم بصورة التجاهر و لا لأجل نقض عهد الذمة، كما يظهر من النص و الفتوي، بل لأجل هتك حرمة الاسلام و المسلمين و الافساد بينهم. و علي أيّ حال لا دلالة لهذه النصوص كون إقامة الحد عليهم لأجل تكليفهم بالفروع لو لم تدلّ علي عدمه.

و قد صرّح في الجواهر بعد دخل عهد الذمة و نقضه في ذلك؛ حيث قال:

«سواءٌ كان بشرائط الذمة أو لا، فان حدّه القتل بلا خلاف أجده، بل الاجماع بقسميه عليه، بل المحكي منهما مستفيض» «2».

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 41، ص 460.

(2) جواهر الكلام: ج 41، ص 313.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 88

فمن هذه النصوص ما دلّ علي إجراء حد الزنا علي الكافر إذا زني

بالمسلمة في بلاد المسلمين، كما دلّ عليه صحيح أبو بصير، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن دية اليهود و النّصاري و المجوس، قال: هم سواء ثمانمائة درهم، قلت: إن اخذوا في بلاد المسلمين و هم يعملون الفاحشة أ يقام عليهم الحدّ؟ قال عليه السلام: نعم، يحكم فيهم بأحكام المسلمين» «1».

و منها: ما ورد في الكافرة الزانية فدلّ علي تسليمها إلي أهل ملّتها، كما يستفاد ذلك من معتبرة السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام: «أنّ محمّد بن أبي بكر كتب إلي علي عليه السلام في الرّجل زني بالمرأة اليهودية و النصرانية، فكتب عليه السلام إليه:

إن كان محصناً فارجمه، و إن كان بكراً فاجلده مائة جلدة ثمّ انْفِه، و أما اليهودية، فابعث بها إلي أهل ملّتها، فليقضوا فيها ما أحبّوا» «2». قوله: انفه؛ أي احكم بنفيه و تبعيده عن بلده.

و في ذيلها دلالة علي عدم كون ما يستفاد من نصوص المقام- من إقامة الحدّ علي الكفّار- لأجل تكليفهم بالفروع، و إلّا لم يجز للحاكم تسليم اليهودية إلي أهل ملّتها، من غير إقامة الحدّ عليها.

و أمّا لو زني الكافر بالمسلمة، فالظاهر من النصوص جريان الحدّ و وجوب إقامته علي الكافر الزاني مطلقاً، كما دلّ عليه موثق حَنان بن سَدير «3» عن الصادق عليه السلام: «أنّه سئل عن يهودي فجر بمسلمة. قال عليه السلام: يقتل» «4». و قد دلّ

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من أبواب ديات النفس، ح 8.

(2) الوسائل: ب 8، من أبواب حد الزنا، ح 5.

(3) حَنان بفتح الحاء و تخفيف النون. سدير بفتح السين و كسر الدال، قاله العلامة.

(4) الوسائل: ب 36، من أبواب حدّ الزنا، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد

الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 89

باطلاقه علي وجوب إقامة حدِّ الزنا علي الكافر مطلقاً، بلا فرق بين الذمي و غيره.

و أما وجوب الاقامة، فلكون قوله: «يقتل» اريد به الأمر.

و خبر جعفر بن رزق اللّٰه: «أنّه قدم إلي المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة و أراد أن يقيم عليه الحدّ، فأسلم. فقال يحيي بن أكثم: قد هدم إيمانُه شركَه و فعلَه. و قال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، و قال بعضهم يفعل به كذا و كذا. فأمر المتوكّل بالكتاب إلي أبي الحسن الثالث عليه السلام و سؤاله عن ذلك. فلما قدم الكتاب، كتب أبو الحسن عليه السلام: يضرب حتي يموت. فأنكر يحيي بن أكثم و أنكر فقهاء العسكر ذلك. و قالوا:

يا أمير المؤمنين سله عن هذا؛ فانّه شي ء؛ لم ينطق به كتاب و لم تجي ء به السنة. فكتب:

إنّ فقهاء المسلمين قد أنكروا هذا و قالوا: لم تجي ء به سنّة و لم ينطق به كتاب. فبيّن لنا بما أوجبت عليه الضرب حتي يموت؟ فكتب عليه السلام: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم، فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنا باللّٰه وحده و كفرنا بما كنّا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا، سنّة اللّٰه التي قد خلت في عباده و خسر هناك الكافرون. قال: فأمر به المتوكّل، فضُرب حتي مات». «1».

هذه الرواية ضعيفةٌ؛ لعدم ثبوت وثاقة جعفر بن رزق اللّٰه، و لعلّ استشهاد صاحب الجواهر بها في المقام- من دون تعرّض إلي ضعف سندها- تدوينها في كتب الأصحاب، كما نقلها في الوسائل عن عدّة مصادر روائية.

و يستفاد من هذا، الخبر- و لا سيما الآية التي استدلّ بها الامام عليه السلام- عدم سقوط الحد عن الكافر باسلامه عند إرادة إقامة الحد عليه،

كما أشار إليه في الجواهر بقوله: «قد يقال: إنّ ظاهر الخبر المزبور عدم سقوط القتل عنه بالاسلام عند إرادة إقامة الحد عليه، كما هو مقتضي الاستدلال بالآية الكريمة، بل لعلّه ظاهر في خصوص إرادة التخلص. و إطلاق الموثق السابق ظاهر أو

______________________________

(1) الوسائل: ب 36، من أبواب حدّ الزنا، ح 2 و 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 90

منزل علي غير الفرض» «1». و لا يخفي أنّ مقصوده من الموثّق السابق، موثّق حَنان بن سَدير.

و أما لو احرز إسلامه حقيقة- لا خوفاً عن الحدّ-، فمقتضي قاعدة الجب سقوط الحد عنه. و الخبر المزبور منصرف عن هذه الصورة؛ لكونه في فرض إسلام النصراني عند إرادة الحد. بل استشهاد الامام عليه السلام بالآية دلّ بمفهومه علي مفاد قاعدة الجبّ. و قد سبق منّا البحث عن مفاد قاعدة الجبّ و مفادها في المجلّد الثاني من كتابنا «مباني الفقه الفعّال».

و قد يقال باختصاص الحكم المزبور بالذمّي؛ نظراً إلي اختصاص مورد الخبرين المزبورين به. و لكن لا شاهد فيهما علي اختصاص موردهما بالذمي. و علي فرض ذلك لا يصلح موردهما لتخصيص الحكم الكلي المستفاد منها، و لا سيّما موثّق حنّان. بل في الرياض أنّ معقد الاجماع أعمّ منه. و يؤيّد التعميم أنّ الكفر ملة واحدة و أولوية غير الذمّي منه في إقامة الحد عليه. كما أشار إلي ذلك كله في الجواهر؛ حيث قال: «و علي كل حال فقد يتوهم من اختصاص الخبرين بالذمي- كبعض الفتاوي-، قصر الحكم عليه دون غيره من أقسام الكفار، إلّا أنّ ظاهر الرياض المفروغية من المساواة، بل جعله معقد ما حكاه من الاجماع و غيره، و لعلّه لكون الكفر ملّة واحدة و أولوية غير

الذمي منه بالحكم» «2».

و أما إذا تحاكم الكفار إلي حُكّام المسلمين، يتخير الحاكم بين إجراء حدود الاسلام عليهم و بين ترك الحكم و الاعراض عنهم. و قد دلّ علي ذلك قوله: «فانّ جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم» «3» و تؤيّده رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 41، ص 314.

(2) جواهر الكلام: ج 41، ص 315.

(3) المائدة: 42.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 91

قال: «إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة و أهل الانجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه، إن شاء حكم بينهم، و إن شاء تركهم» «1». و مثلها خبر عبد اللّه بن الحسن المزبور «2».

و أما قاعدة الالزام فقد دلّت علي أخذ الكفار بدينهم و علي طبق ما يقتضيه شريعتهم في موارد تعاملهم مع المسلمين من معاملة أو نكاح أو إرث أو طلاق و نحو ذلك. و لا ربط لهذه القاعدة بتكليف الكفار بفروع شريعة الاسلام.

فتحصل ممّا حقّقنا: أنّ ظاهر النصوص كون جريان الحدود و إقامتها علي الكفار؛

إمّا لنقضهم عهد الذمة بتجاهرهم بالفواحش و المعاصي، كما سبق دلالة النصوص الواردة في حدّ المسكر؛ حيث دلّت علي وجوب إقامة الحد عليهم لو تجاهروا بشرب المسكر بين المسلمين، و علي عدمه لو شربوه في بيوتهم و كنائسهم.

و إمّا لهتكهم بحرمة الاسلام و المسلمين و الافساد بينهم. كما هو ظاهر النصوص الواردة في إقامة حدّ الزنا عليهم مطلقاً، سواء ارتكبوه جهاراً أو خفاءً. فلا تصلح هذه النصوص للدلالة علي تكليف الكفار بالفروع.

نظرةٌ إلي كلام صاحب الجواهر قدس سره

و يشهد لذلك تعليل صاحب الجواهر إجراءَ حدّ الزنا

______________________________

(1) الوسائل: ب 27، من أبواب كيفية الحكم، ح 1.

(2) الوسائل: ب 29، من مقدمات الحدود، ح 1.

مباني الفقه

الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 92

علي الكافر الزاني بأنّه هتك حرمة الاسلام و خرج عن الذمة؛ حيث قال- بعد حكمه بدفع الذمّي- الزاني بذمّية- إلي أهل نحلته ليقيموا الحدّ عليه حسب معتقدهم-: «نعم هو مختصٌّ بما إذا كان زناؤه بغير المسلمة- أما بها فعلي الامام قتله، و لا يجوز الاعراض، لأنّه هتك حرمة الاسلام و خرج عن الذمّة» «1».

فانّ في تعليله بذلك إشعاراً بأنّ جريان الحدود و إقامتها علي الكفار ليس لأجل أنّهم مكلّفون بالفروع.

و مما يشهد لذلك عدم جواز إقامة الحد علي الكافر الذمي لو ارتكب الجناية و المعصية في الخلوة مستتراً من غير تجاهر. بل ادّعي في الجواهر نفي الخلاف في ذلك؛ حيث قال- عقيب فتوي صاحب الشرائع بأنّ الكافر إن تظاهر به حُدّ، و إن استتر لم يُحدّ-: «بلا خلاف أجده فيه نصّاً و فتوي» «2».

و أحسن ما يشهد لذلك ما نقله في الجواهر عن القواعد و شرحها للأصفهاني بقوله: «و لا حدّ علي الحربي و إن تظاهر بشربها؛ لأنّ الكفر أعظم منه. نعم إن أفسد بذلك، ادِّب بما يراه الحاكم» «3».

هذا، و لكن أشكل في الجواهر علي ذلك بقوله: «و فيه: أنّ الأدلّة هنا عامة فضلًا عما دل علي تكليفهم بالفروع، و عدم إقامتها علي الذمي المتستر باعتبار اقتضاء عقد الذمة ذلك، لا لعدم الحد عليه، فتأمل جيداً» «4».

و يستفاد من إشكاله هذا أولًا: أنّ المستفاد من نصوص إقامة حدّ المسكر علي اليهودي و النصراني عموم شاملٌ للكافر الحربي.

و فيه: أنّ نصوص المقام صريحة في اختصاص ذلك بالذمي كقوله عليه السلام:

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 41، ص 336.

(2) جواهر الكلام: ج 41، ص 460.

(3) جواهر الكلام: ج 41، ص 460.

(4)

جواهر الكلام: ج 41، ص 460.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 93

«إنّما صولح أهل الذمّة علي أن يشربوها في بيوتهم» في معتبرة أبي بصير «1».

و قد اعترف صاحب الجواهر بعدم جريان الحد علي الحربي، كما عرفت آنفاً.

و ثانياً: كون إقامة الحدّ علي الكفار عند تجاهرهم بالجنايات و المعاصي لأجل تكليفهم بالفروع.

و فيه: أولًا: أنّه لو كان إقامة الحدّ علي الكفار لأجل تكليفهم بالفروع، لا معني لتعليل الامام عليه السلام لاقامة الحدّ عليهم بنقضهم عهد الذمة، كما عرفت آنفاً في معتبرة أبي بصير.

و ثانياً: لو كان لأجل ذلك لم يختص بصورة التجاهر، بل لكان اقيم الحد عليهم عند ما ارتكبوا الجناية في الخلوة أيضاً إذا ثبت بالبيّنة، كما هو الأمر المعمول في المسلمين.

و عقد الذمة و المصالحة غير جائز علي دين اللّٰه و أحكامه الثابتة بحكم اللّٰه، بل إنّما يصلح لاجراء الحد عليهم؛ عقوبةً و تأديباً من باب الحكومة و الحكم الولائي.

الاستدلال باطلاق الفتاوي و ردُّه

ثمّ إنّه قد يستفاد من إطلاق فتاوي الفقهاء بتعلّق الحدود و وجوب إقامتها في حق غير المسلمين اشتراكهم مع المسلمين في التكليف؛ حيث إنّهم مقام بيان شرائط الحدود، لم يشترطوا إسلام مرتكب الجناية في تعلّق الحدود و وجوب إقامتها.

و لكن الاستظهار المزبور مورد للمناقشة؛ حيث إنّ الفقهاء لم يكونوا بصدد ذلك. و لعلّه للمفروغية عن كون جريان الحدود و إقامتها علي الكفار من

______________________________

(1) الوسائل: ب 6، من أبواب حدّ المسكر، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 94

باب السياسة و التأديب و مقتضي عهد الذمّة. فمن هنا لم يشترطوا الاسلام في جريان الحدود، من دون أن يبتني ذلك علي تكليفهم بالفروع. و يشهد لذلك أنّهم اتفقوا علي جريان

الحدود و إقامتها علي الكفار في الجملة و لو عند التجاهر، و لكن اختلفوا في تكليفهم بالفروع، مع ما سبق من كون اختصاص إقامة الحد عليهم بصورة التجاهر مخالفاً لمقتضي تكليفهم بالفروع، كما قلنا.

هذا، و لكن الاشكال للأساس الوارد علي الاستظهار المزبور، أنّ غاية ما يلزم من إطلاق كلامهم عدم اشتراط الاسلام في وجوب إقامة الحدّ علي الكافر.

و أما كونه مكلّفاً بالفروع و اشتراكه مع المسلمين في التكليف لا يلزم من ذلك؛ لما بيّنا من كون وجوب اقامة الحد عليهم حكماً مستقلًا. و السرّ في تشريعه ما بيّنّاه من سدِّهم عن هتك الحرمة المسلمين و عن إشاعة الفحشاء و الافساد بينهم و عن إهانة المحترمات في الدين و عن وهن الاسلام و نحو ذلك من الحِكَم المستفادة من النصوص و كلمات الفقهاء.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 95

التطبيقات الفقهية
اشارة

1- قضاءُ العبادات علي المرتد.

2- اشتراط الاسلام في الصلاة و مسألة زكاة المرتد.

3- انعقاد يمين الكافر و ضمانة بالاتلاف.

4- ترتّب الحرمة الأبدية في موارده، بعد إسلامه.

5- إقامة الحدود علي الكفّار.

و عمدة ثمرة هذه القاعدة تظهر في جواز إجبار الحاكم الكافرَ علي بعض الفروع بحسب ما يراه من المصلحة كإجباره علي دفع الخمس و الزكاة و ترتُّب الحدود الشرعية المبيّنة لكثير من المعاصي و الجنايات في الشريعة الاسلامية.

و قد يُتراءي ترتب هذه الثمرة علي تكليف الكفار بالفروع، كما عرفت من كلام صاحب الجواهر و ستعرف أيضاً في كلام غيره. فقد علّلوا ذلك بدليل كونه مكلّفاً عليها كالمؤمن. و أيضاً تظهر الثمرة في انعقاد النذور و الأيمان و العهود؛ مستنداً إلي هذه القاعدة، و في ترتب آثار ساير التكاليف الفرعية في باب النكاح و نحوه.

و قد

تعرّض الفقهاء لهذه القاعدة و تمسكوا بها- بناءً علي رأي المشهور- لفتاواهم في فروع عديدة من مختلف أبواب الفقه.

و لكن التمسك بها إنّما يصح و يتمّ بناءً علي رأي المشهور، لا علي المبنا المختار المخالف لرأي المشهور.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 96

قضاءُ العبادات علي المرتد

فمن هذه الفروع قضاءُ ما علي المرتد من العبادات. فقد حكم الفقهاء عليه بالقضاء بعد رجوعه إلي الاسلام بالاستتابة و استدل شيخ الطائفة لذلك بوجهين ثانيهما هذه القاعدة؛ حيث قال:

«المرتد الذي يُستتاب يجب عليه قضاءُ ما فاته في حال الردّة من العبادات- إلي أن قال بعد نقل أقوال العامة- دليلنا: اجماع الفرقة المحقة و أيضاً عندنا أنّ الكفار مخاطبون بالعبادات، و من جملة العبادات قضاء ما يفوت من وجب عليه، و إذا فاتهم وجب عليهم قضاؤه، و لا يلزمنا ذلك في الكافر الأصلي، لأنّا لو خلّينا و الظواهر لأوجبناه. و لكن تركنا ذلك لدليل الاجماع علي أنّه لا قضاء عليهم» «1» و قد صرّح بذلك أيضاً ابن زهرة في الغنية «2».

اشتراط الاسلام في الصلاة و مسألة زكاة المرتد

و منها: مسألة اشتراط الاسلام في وجوب الصلاة فقد أنكره أكثر الفقهاء و استدل العلّامة لذلك بهذه القاعدة؛ حيث قال: «و ليس الاسلام شرطاً في الوجوب عندنا و عند أكثر أهل العلم …؛ حيث بيَّنّا أنّ الكفار مخاطبون بالفروع» «3».

و منها: مسألة زكاة المرتد فقد أفتي الفقهاء بوجوبها في ماله بعد استتابته و عدم توبته و قتله. و قد أفتي العلّامة بذلك؛ مستدلًاّ بهذه القاعدة و ردّ بعض

______________________________

(1) الخلاف: ج 1، ص 443.

(2) غنية النزوع: ص 99.

(3) منتهي المطلب، ط ج: ج 4، ص 12.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 97

العامّة بقوله: «و قال أحمد إذا ارتدّ قبل الحول و حال الحول مرتدّاً فلا زكاة عليه؛ لأنّ الاسلام شرط في الوجوب، و هو غلط لما بيّنّا من أنّ الكفار مخاطبون بالفروع» «1».

انعقاد يمين الكافر و ضمانة بالاتلاف

و منها: مسألة انعقاد يمين الكافر و ترتيب آثاره.

فقد أفتي به أكثر الفقهاء، و ممّا استدلوا به لذلك هذه القاعدة، كما قال في المسالك:

«إذا حلف الكافر باللّٰه تعالي علي شي ء سواء كان مقرّاً باللّٰه كاليهودي و النصراني و من كفره بجحد فريضة من المسلمين، أم غير مقرّ به كالوثني، ففي انعقاد يمينه أقوال أشهرها- و هو الذي اختاره المصنف رحمه اللّٰه، و الشيخ في المبسوط و أتباعه، و أكثر المتأخرين- الانعقاد؛ لوجود المقتضي- و هو حلفه باللّٰه تعالي مع باقي الشرائط- و انتفاء المانع؛ إذ ليس هناك إلّا كفره و هو غير مانع؛ لتناول الأدلّة الدالة علي انعقاد اليمين له من الآيات و الأخبار، و لأنّ الكفار مخاطبون بفروع الشرائع فيدخلون تحت عموم قوله تعالي و لكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان و غيره» «2». و لكن خالف في ذلك الشيخ

و ابن إدريس كما نقل في المسالك بقوله: «و قال الشيخ و ابن ادريس لا تنعقد مطلقاً لأنّ شرط صحتها الحلف باللّٰه و الكافر لا يعرف اللّٰه» «3».

و منها: مسألة ضمان الكافر بالاتلاف. فإنّ الفقهاء بعد تسالمهم علي

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء: ج 5، ص 21.

(2) مسالك الأفهام: ج 11، ص 203- 204.

(3) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 98

ضمان المرتد، اختلفوا في ضمان الحربي و قد قوّي في المسالك ضمانه؛ نظراً إلي هذه القاعدة؛ حيث قال: «و أما الحربي فأطلق الشيخ عدم ضمانه و إن أسلم، لقوله صلي اللّٰه عليه و آله الاسلام يجبّ ما قبله، و قيل: يضمن مطلقاً؛ لأنّه أتلف مالًا معصوماً ظلماً فيضمن، لأنّ الكفار مخاطبون بفروع الاسلام، و هو اختيار العلّامة» «1».

ترتّب الحرمة الأبدية في موارده بعد إسلامه

و منها: مسألة تزوّج الكافر امرأةً و بنتها- و كانتا كتابيتين-، ثمّ أسلم بعد الدخول بهما أو بالامّ وحدها، فقد أفتي الفقهاء بحرمتهما أبداً عليه؛ معلّلًا بالآيات بدعوي صدق أمهات نسائكم و ربائبكم، و باختصاص الحرمة بالام و تعيّن نكاح البنت لو دخل بالبنت وحدها.

و قد علّل ذلك كله في الجواهر بهذه القاعدة؛ حيث قال: «إذا تروّج الكافر امرأة و بنتها دفعة أو ترتيباً ثمّ أسلم بعد الدخول بهما و كن كتابيّتين مثلًا حرمتا أبداً عليه؛ لصدق أمهات نسائكم و صدق ربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن. و كذا لو كان قد دخل بالامّ وحدها لذلك أيضاً بخلاف ما لو دخل بالبنت وحدها، فانه يثبت نكاحه لها، و تختص الامّ بالحرمة أبداً بامهات النساء. و الوجه في جواز ذلك كله ما عرفت، من أنّ الكفار مخاطبون بالفروع عندنا» «2».

______________________________

(1) مسالك الافهام: ج 15، ص

34.

(2) جواهر الكلام: ج 30، ص 67.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 99

إقامة الحدود علي الكفّار

و منها: جريان حدّ الزنا و شرب المسكر، بل مطلق الحدود في حق الكفار، و دعوي اشتراكهم مع المسلمين في إقامة الحدود عليهم.

قال السيد الخوئي قدس سره- بعد بيان أحكام حدّ الزنا-: «لا فرق في الأحكام المتقدّمة بين كون الزاني مسلماً أو كافراً، و كذا لا فرق بين كون المزني بها مسلمة أو كافرة. و أما إذا زني كافر بكافرة، أو لاط بمثله، فالامام مخيّر بين إقامة الحد عليه، و بين دفعه إلي أهل ملته، ليقيموا عليه الحد» «1».

و قد علّل نفي الفرق بين كون الزاني مسلماً أو كافراً باطلاقات الأدلّة «2». و قد نفي الفرق بين الكافر و المسلم في جريان حدّ شرب الخمر؛ مستدلًا بما دل علي إقامة الحد علي الذمّي المتجاهر بشرب الخمر بين المسلمين «3».

و قال السيد الامام الخميني قدس سره: «و يُقتل الذمّي إذا زني بمسلمة مطاوعة أو مكرهة، سواءٌ كان علي شرائط الذمة أم لا. و الظاهر جريان الحكم في مطلق الكفار. فلو أسلم هل يسقط عنه الحد أم لا؟ فيه إشكال و إن لا يبعد عدم السقوط» «4».

و قال: «لو ارتكب أهل الذمة ما هو سائغ في شرعهم و ليس بسائغ في شرع الاسلام لم يعترضوا ما لم يتجاهروا به.

______________________________

(1) مباني تكملة المنهاج: ج 1، ص 187، م 150.

(2) راجع المصدر المزبور.

(3) الوسائل: ب 6، من أبواب حدّ المسكر.

(4) تحرير الوسيلة: ج 2، ص 463.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 100

و لو تجاهروا به، عُمِل بهم ما يقتضي الجناية بموجب شرع الاسلام من الحد أو التعزير.

و لو فعلوا ما

ليس بسائغ في شرعهم يفعل بهم ما هو مقتضي الجناية في شرع الاسلام. قيل: و إن شاء الحاكم دفعه إلي أهل نحلته ليقيموا الحد عليه بمقتضي شرعهم. و الأحوط إجراء الحد عليه حسب شرعنا. و لا فرق في هذا القسم بين المتجاهر و غيره» «1».

و لا يخفي أنّ مقصوده من قوله: «و لا فرق في هذا القسم بين التجاهر و غيره» ما إذا ارتكبوا ما ليس بجائر في شرعهم و نحلتهم.

و قد يشكل علي ذلك- كما في الجواهر «2» أوّلًا: بأنّ دفعه لاقامة حكم شرعه عليه من قبيل الأمر بالمنكر و ترويجه؛ نظراً إلي كون أحكام شرعهم بعد نسخه من قبيل المنكرات.

و ثانياً: بخبر علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن يهودي أو نصراني أو مجوسي أخذ زانياً، أو شارب خمر ما عليه؟ قال: يقام عليه حدود المسلمين إذا فعلوا ذلك في مصر من أمصار المسلمين، أو في غير أمصار المسلمين إذا رفعوا إلي حكّام المسلمين» «3»؛ حيث دلّ بالصراحة علي وجوب إقامة حدود الاسلام علي الكفار لو ارتكبوا الجناية في أمصارهم و فيما بين أنفسهم. و اختصاص مورد السؤال بشرب الخمر لا يوجب تخصيص جواب الامام عليه السلام بعد عموميته و إلقائه علي نحو كبري كلية، كما يدل قوله عليه السلام: «غير أمصار المسلمين»

______________________________

(1) تحرير الوسيلة: ج 2، ص 506، الفرع الثاني لواحق كتاب الحدود.

(2) جواهر الكلام: ج 41، ص 336.

(3) الوسائل: ب 29، من مقدمات الحدود، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 101

علي عدم اختصاص الحكم بالذمّي.

و لكن سنده ضعيف بعبد اللّٰه بن الحسن و لم ينقله الشيخ الحر عن كتابه حتي يصحح

بذلك، مع أنّ مضمون ذيله خلاف رأي المشهور.

و من هنا احتاط السيد الامام بقوله: «و الأحوط إجراءُ الحدّ عليه حسب شرعنا».

إلي غير ذلك من الفروع لا حاجة إلي ذكرها. و لكنّك تعرف أنّ غالب هذه الفروع مستندٌ؛ إمّا إلي الاجماع في خصوصها، أو إلي ظواهر الأدلة اللفظية، و قلَّ منها ما يُستند إلي هذه القاعدة فقط.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 102

[قاعدة الثالثة] «قاعدة اشتراك الأحكام» «بين العالم و الجاهل»

اشارة

منصّة القاعدة و أهميتها

مفاد القاعدة و ماهيتها

مدرك القاعدة و أدلّتها

التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 103

1- منصّة القاعدة و أهميتها.

2- دفع شبهة العقاب بلا بيان.

3- منشأ تأسيس هذه القاعدة.

4- أوّل من تعرّض لهذه القاعدة.

منصّة القاعدة و أهميتها
اشارة

قد أشرنا في طليعة البحث عن قاعدة الاشتراك إلي أنّ قاعدة اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل، ينبغي البحث عنها علي حدة؛ نظراً إلي مغايرة الوجوه المستدلّ بها لهذه القاعدة مع الوجوه المستدلّ بها لقاعدة الاشتراك المعروفة، كما ستعرف في بيان مدرك القاعدة. فما صدر عن بعض المحققين، من إدراج هذه القاعدة في قاعدة الاشتراك و الاستدلال لهما بوجوهٍ مشتركة، مما لا وجه له.

و إنّ لهذه القاعدة منصّة مهمّة في علم الاصول من جهتين:

إحداهما: عند ما يقال: إنّ ما يحكم به العقل، من قبح العقاب بلا بيان إنّما يمنع من تنجّز التكليف علي الجاهل بالحكم ما دام جاهلًا، و لا ينافي ذلك أصل ثبوت التكليف عليه حتي يجب عليه تعلُّم الأحكام فيعاقب علي ترك تعلُّمها، و يتنجّز عليه التكليف بعد ارتفاع جهله.

ثانيتهما: ما يترتب علي البحث عن هذه القاعدة، من تحصيل الحجّة علي وجوب الاعادة و القضاء علي الجاهل بالحكم، كما اشتهر بين الفقهاء أنّ الجاهل بالحكم كالعامد. و أيضاً يترتب علي هذه القاعدة وجوب تعلُّم الأحكام. فتكون هذه القاعدة ممهّدة لتحصيل الحجّة علي الحكم الكلي الشرعي، فهي قاعدة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 104

اصولية.

و وجه عقد البحث عنها في ضمن القواعد الفقهية، ما رأيناه، من عدم استيفاء البحث عنها و عدم تنقيحها في محلّها من علم الاصول. و لمناسبتها في العنوان و الماهية مع قاعدة الاشتراك المعروفة و قاعدة اشتراك المسلمين و الكفار

في التكليف. هذا مضافاً إلي أنّ جماعة من المحققين قد بحثوا عنها في ضمن القواعد الفقهية.

هذا، و لكن ذلك إنّما بلحاظ كون نتيجة البحث عن هذه القاعدة اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل. و أما بلحاظ ثبوت التكليف للجاهل، تندرج هذه القاعدة في القواعد الفقهية؛ حيث إنّ تكليف الجاهل بالفروع حكم كلي يستدل به الفقيه علي مصاديقه، من آحاد أفراد الجاهلين، بخلاف الاشتراك فانّه ليس من مقولة الحكم، و إنّما يقع الحدّ الأوسط في قياس الاستنباط، كما هو شأن القاعدة الاصولية.

و بناءً علي هذا الأساس تكون القاعدة المبحوث عنها في المقام من قبيل القواعد الفقهية. و لا حاجة حينئذٍ إلي تجشُّم توجيه عقد البحث عنها في ضمن القواعد الفقهية، بل عنوان البحث عنها في المقام وجيه بلا إشكال.

دفع شبهة العقاب بلا بيان

ثمّ إنّه قد تبيّن بما قلناه دفع شبهة العقاب بلا بيان الناشئة من ظاهر عنوان هذه القاعدة.

بيان الشبهة: أنّ اشتراك الأحكام و التكاليف بين العالم و الجاهل يستتبع بالطبع اشتراكهما في عقاب مخالفة التكليف الثابت لهما. و هذا يوجب عقاب الجاهل بالحكم علي ما لم يعلم به. و ذلك قبيح من الحكيم؛ لاستقلال العقل بقبح

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 105

العقاب بلا بيان، و أيضاً ينافي ما دلّ عليه حديث الرفع، من رفع ما لا يُعلم من التكاليف.

وجه الدفع أنّ الذي يدور مدار العلم، إنّما هو تنجّز التكليف- المستتبع للثواب و العقاب- لا أصل ثبوت التكليف و فعليته. و إنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنّما يمنع من تنجّز التكليف علي الجاهل، لا أصل ثبوته المستتبع لوجوب الاعادة و القضاء بعد ارتفاع الجهل و حصول العلم، و لوجوب تعلُّم الأحكام. و هذه الثلاثة

في الحقيقة عمدة الثمرات المترتبة علي هذه القاعدة و بذلك تبدو أهميتها.

و إلي ما قلناه قد أشار صاحب الكفاية بقوله: «فان الحكم المشترك بين العالم و الجاهل و الملتفت و الغافل ليس إلّا الحكم الانشائي المدلول عليه بالخطابات المشتملة علي بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الاوّلية بحسب ما يكون فيها من المقتضيات» «1».

منشأ تأسيس هذه القاعدة

و من النكات التي ينبغي التنبيه عليها في هذا المجال أنّ الوجه في تأسيس هذه القاعدة و البحث عنها و إثباتها، إنّما هو إبطال القول باختصاص الأحكام بالعالمين و بمن قامت عنده الحجة، و أنّه من لم يعلم بالحكم و لم تقم عنده حجّة عليه لا حكم في حقّه حقيقةً. و من هذا الزعم الباطل نشأ القول بالتصويب الباطل المبني علي دوران الحكم الواقعي مدار مؤدّي الأمارة و أنّ الجاهل بالواقع لا حكم له غير ما أدّت إليه الأمارة، و أنّه لا فوت للتكليف الواقعي عند تبيّن خطاء الأمارة و انكشاف الخلاف حينئذٍ.

______________________________

(1) كفاية الاصُول: ج 1، ص 137.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 106

و إنّ باثبات هذه القاعدة ينهدم أساس هذا الزعم الباطل، و ينتفي ما رتّبوا عليه من الآثار و الأحكام.

و ممّا يشهد لما قلناه، كلام الشيخ الأعظم الأنصاري: فانه بعد ما قسّم التعبُّد بالأمارات إلي الطريقية و السببية، قسّم السببية إلي ما يؤول إلي التصويب الباطل- عند المخطّئة الموجب لاختصاص الحكم بالعالمين- و إلي ما لا يوجب التصويب و يلائم اشتراك التكليف بين العالم و الجاهل.

ثمّ حكم ببطلان القسم الأوّل، و استدلّ لبطلانه، بقوله: «و أن يكون الحكم- مطلقاً- تابعاً لتلك الأمارة، بحيث لا يكون في حقّ الجاهل- مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة و عدمها-

حكمٌ، فتكون الأحكام الواقعية مختصّةً في الواقع بالعالمين بها، و الجاهل- مع قطع النظر عن قيام أمارةٍ عنده علي حكم العالمين- لا حكم له أو محكومٌ بما يعلم اللّٰه أنّ الأمارة تؤدي إليه، و هذا تصويب باطل عند أهل الصواب من التخطئة، و قد تواتر بوجود الحكم المشترك بين العالم و الجاهل الأخبار و الآثار» «1».

و قد عرفت من ذيل كلام أنّه قدس سره استدل بقاعدة الاشتراك و بما دلّ عليه من الأخبار لبطلان التصويب و عدم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها.

أوّل من تعرّض لهذه القاعدة

و قد وجدتُ خلال التحقيق السيد المرتضي قدس سره أوّل من تعرّض لمضمون هذه القاعدة و تنقيح مفادها؛ حيث إنّه في مسألة العاقد حال الاحرام عن جهلٍ، تعرّض لبيان وجه ما أفتي به الفقهاء في هذه المسألة و في فروع كثيرة اخري، من سقوط الحكم الشرعي عن

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 1، ص 113.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 107

الجاهل، و نبَّه علي ما قد يخطر بالبال من الاشكال علي ذلك؛ نظراً إلي اتفاق الأصحاب علي عدم سقوط الحكم و التكليف عن الجاهل و اشتراكه مع العالم في الأحكام، إلّا مع عدم تمكّنه من الاتيان و الامتثال، و إلّا ليلزم كون الجهل سبباً لسقوط جميع التكاليف العقلية و الشرعية الاعتقادية و العملية. و هذا لا يقوله مسلم.

ثمّ بيّن وجه ذلك- أعني سقوط الحكم عن الجاهل في مواضع من الفروع الفقهية في مختلف الأبواب- بما حاصله:

أنّ العمل مع الجهل بالأحكام حرام ممنوع، و لا يجوز من المكلّف مع تمكّنه من التعلّم. و إن لا يكون حال الجاهل و العالم بالحكم سواءً في حال العلم و الجهل من حيث تنجّز التكليف و ما

يترتب علي مخالفته من العقاب و الثواب.

فيسقط التكليف المنجّز عن الجاهل حال جهله، و إن ليس معذوراً في جهله.

قال قدس سره: «ما الوجه فيما يفتي به الطائفة من سقوط الحكم الشرعي عمّن عقد نكاحاً، و هو محرم مع الجهل بالحكم؟ و ما وردت به الروايات من سقوط الحكم في كثير من المواضع مع الجهل به؟

مع اتفاق العلماء علي أنّ الجهل لا يبيح سقوطه إلّا عمّن لا يتمكّن به … و لو لا ذلك، لكان الجهل سبباً مبيحاً لسقوط ما يلزم عليه من التكاليف العقلية و الشرعية. و هذا شي ءٌ لا يقوله مسلمٌ.

الجواب:

اعلم أنّ الجهل ممّن كلّف العلم و له إليه طريق، لا يكون إلّا معصية و تفريطاً من المكلّف، إلّا أنّ الحكم الشرعي غير ممتنع أن يتغيّر مع الجهل و لا يكون حاله مساوية لحاله مع العلم … و العلم بالحكم كان لازماً و هو الآن أيضاً له لازم. و

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 108

إنّما دخلت الشبهة علي من يظنّ أنّه بالجهل يسقط عنه وجوب العلم. و ما كذلك قلنا. و إنّما ذهبنا إلي تغيّر الحكم الشرعي الذي تغيُّره موقوف علي المصالح التي لا يعلم وجوهها إلّا علّام الغيوب جلّت عظمته» «1».

مقصوده من قوله: «و العلم بالحكم … » أنّ الحكم لمّا كان ثابتاً في حق الجاهل واقعاً يجب عليه تعلّمه، بلا فرق بين قبل المخالفة و بين ما بعدها.

و حاصل جوابه: أنّ السؤال المزبور إنّما نشأ من شبهة عدم ثبوت الحكم الإنشائي في حق الجاهل و سقوط وجوب تعلّمه عنه، و هذا لم نقل به قطّ. و إنّما:

قلنا بتغيّر الحكم حسب ما يتبعه من المصالح و الملاكات الكائنة في رتبة

تشريع الأحكام التي تدور مدارها كيفية جعل الأحكام الشرعية. و هذه الملاكات خارجة عن حدّ إدراك البشر و فوق عقله و فهمه، و لا يعلمها إلّا علّام الغيوب جلّت عظمته.

و لا يخفي عليك أنّ ما بيّناه- قبل نقل كلام السيد المرتضي و بعده-، لُبّ مراده و مغزي مطلوبه.

و قد عرفت من صدر كلامه- المتضمّن لبيان الاشكال- أنّه أذعن باتفاق العلماءِ علي عدم سقوط التكليف بالجهل و اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل.

و المتحصّل من جوابه: اشتراك التكليف في أصل ثبوته بين العالم و الجاهل. و من هنا يجب علي الجاهل تعلُّمه، إلّا في موارد عُلم بالدليل تغيُّره بالجهل و العلم كتغيّره بحسب ملاكات الأحكام المعلومة عند اللّٰه.

و نظيره ما قال في جواب سؤالٍ في مسألة: من أتم صلاته في السفر عن

______________________________

(1) رسائل المرتضي: ج 2، ص 370- 371.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 109

جهل بالحكم.

قال: «ما الوجه فيما يفتي به الطائفة، من سقوط فرض القضاء عمن صلّي من المقصّرين صلاة مُتِمٍّ، بعد خروج الوقت، إذا كان جاهلًا بالحكم في ذلك …

الجواب: إنّا قد بيّنا أنّ الجهل- و إن لم يكن صاحبُه معذوراً، بل ملوماً مذموماً،- لا يمتنع أن يتغيّر معه الحكم الشرعي و يكون حكم العالم بخلاف حكم الجاهل» «1».

لكن يرد عليه أنّ سقوط الحكم عن الجاهل المتمّ صلاته في السفر من قبيل ما عُلِم فيه تغيّر الحكم بالدليل، من الاجماع و النص الخاص؛ خلافاً لمقتضي قاعدة الاشتراك، و لا بد من الاقتصار علي مورده؛ اقتصاراً فيما خالف القاعدة علي موضع النص.

و علي ضوء هذا البيان عرفت ما في جواب السيد الماتن من الضعف و الاجمال.

______________________________

(1) رسائل المرتضي: ج 2، ص 383-

384.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 110

مفاد القاعدة
اشارة

1- خروج الجاهل بالموضوع عن نطاق هذه القاعدة.

2- شمول القاعدة للجاهل القاصر.

3- المناقشة في كلام السيد الخوئي.

4- ثمرة القاعدة في الفقه.

5- إنّما الاشتراك في الحكم الانشائي الفتوائي.

إنّ مفاد هذه القاعدة- كما يلوح من عنوانها- اشتراك الأحكام الشرعية- التكليفية و الوضعية- بين العالم و الجاهل؛ بمعني ثبوت الحكم الواقعي و تشريعه لذات الموضوع، مع قطع النظر عن علم المكلّف و جهله به، و عدم انتفاءِ آثاره التكليفية و الوضعية لأجل الجهل المكلّف به.

خروج الجاهل بالموضوع عن نطاق هذه القاعدة

و لا يخفي أنّ هذه القاعدة لا نظر لها إلي اشتراكهما في التكليف بلحاظ العلم و الجهل بالموضوعات.

بيان ذلك: أنّه تارة: يُعلم أو يُجهل نفس الحكم، فيكون الحكم معلوماً أو مجهولًا للمكلّف، و اخري: يُعلم أو يجهل موضوع الحكم. و علي الأوّل يكون المكلّف عالماً أو جاهلًا بالحكم نفسه، و علي الثاني يكون عالماً أو جاهلًا بموضوع الحكم.

و الكلام في اشتراك الجاهل و العالم في التكليف يمكن أن يقع بلحاظ كلّ من الصورتين المزبورتين.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 111

و المقصود من هذه القاعدة هو الصورة الاوليٰ؛ أي اشتراك الجاهل و العالم في التكليف بلحاظ العلم و الجهل بالحكم، لا الموضوع.

و السرُّ في ذلك وضوح الاشتراك بلحاظ الثاني؛ ضرورة وضوح عدم أخذ العلم بالموضوعات في تشريع الأحكام؛ حيث إنّ الأحكام تتعلّق بطبائع الموضوعات المقدّر وجودها علي سبيل القضايا الحقيقية، لا بأفرادها و مصاديقها الموجودة المعلومة للمكلّفين. و إنّ ما ادُّعي من الاجماع و تواتر الأخبار إنّما يكون معقده و مدلوله هو اشتراكهما في التكليف بلحاظ العلم و الجهل بنفس الحكم.

و أما الناسي، فهو خارج عن مصبّ هذه القاعدة؛ نظراً إلي تغاير عنوانه مع الجاهل، فيخرج عن مقعد الاجماع و منصرف

نصوصها. اللّهم إلّا بتنقيح الملاك.

هذا مضافاً إلي خروج الناسي عن حكم الجاهل في كثير من الفروع عن مختلف أبواب الفقه بدليل النصوص الخاصة.

شمول القاعدة للجاهل القاصر

و أما الغافل بالمرّة، فهو في الحقيقة من قبيل الجاهل المركّب المعبّر عنه بالجاهل القاصر. و لا فرق في جريان هذه القاعدة و تمامية أدلّتها بين الجاهل القاصر و الجاهل المقصّر، و إنّما الفرق بينهما من حيث المعذورية و عدمها.

و من هنا تعمّ هذه القاعدة الجاهل البسيط المعبَّر عنه بالجاهل المقصر، و الجاهل المركّب المعبّر عنه بالجاهل القاصر كليهما علي السواء؛ حيث لا دخل للتقصير و القصور و لا بساطة الجهل و تركيبه في شمول القاعدة و عدمه، بعد ما كان بلحاظ ما قبل مرتبة التنجّز، غاية الأمر يجب علي المقصّر تعلّم الأحكام؛

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 112

لاحتماله الخلاف و تمكّنه من تحصيل العلم، بخلاف القاصر. و من هنا يستحق الجاهل المقصر العقوبة بالاخلال في تكاليفه، بخلاف القاصر. و إلّا لا فرق بينهما من حيث ثبوت أصل التكليف الإنشائي و عدم تنجّزه حال الجهل. و تظهر الثمرة في وجوب الاعادة و القضاء عليهما بعد ارتفاع الجهل؛ نظراً إلي صدق الفوت بعد ما كان التكليف ثابتاً مكتوباً في دفتر التشريع في حقّهما.

و إلي ذلك أشار المحقق البجنوردي بقوله:

«فالعامد إلي الاخلال- و لو كان من جهة الجهل بالحكم قصوراً أو تقصيراً أو من جهة نسيان الحكم؛ حيث إنّ الأمر الأوّل لم يسقط عنه؛ لأنّ الجهل بالحكم لا يوجب سقوط الأمر مطلقاً، قصوراً كان أو تقصيراً أو نسياناً، و ذلك للإجماع علي اشتراك التكاليف بين العالم و الجاهل بها، و بعضهم ادّعي تواتر الأخبار علي ذلك- و لا فرق في ذلك

بين الجهل قصوراً أو تقصيراً، و إنّما الفرق بينهما في أنّ الجاهل المقصّر يستحق العقاب دون القاصر-، فلا يكون له خطاب جديد «أعد»، بل المحرّك له نحو الاتيان بالمأمور به الكامل التام الأجزاء و الشرائط، هو الأمر الباقي إلي زمان ارتفاع الجهل بكلا قسميه، و أيضاً إلي زمان ارتفاع نسيان الحكم و حصول العلم به» «1». و لا يخفي أنّ قوله: «فلا يكون له خطاب» خبرٌ لقوله: «فالعامد إلي الاخلال».

المناقشة في كلام السيد الخوئي

و علي ضوء ما بيّناه اتّضح ضعف ما يظهر من بعض الأعلام من اختصاص هذه القاعدة بالجاهل البسيط؛ حيث قال: «و ما يقال من أنّ الأحكام مشتركة بين العالم و الجاهل،

______________________________

(1) القواعد الفقهية: ج 1، ص 84.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 113

فانما هو في مورد الجهل البسيط الذي يُتمكن من الامتثال في مورده، لا الجهل المركب و القطع بالخلاف الذي لا يتمكن من الامتثال أصلًا» «1».

وجه الضعف أن المانع من الاشتراك إنّما هو قبح العقاب بلا بيان، و هذا المحذور إنّما يترتب علي تنجّز التكليف علي الجاهل بالحكم حال جهله. و أما أصل ثبوت التكليف الانشائي، فلا محذور في ثبوته في حق الجاهل القاصر و اشتراكه بينه و بين الجاهل المقصر.

ثمرة القاعدة في الفقه

تظهر ثمرة هذه القاعدة بالنسبة إلي الاعادة فيما إذا أخلّ المصلّي في الصلاة بغير الأركان عن جهل بالحكم.

دون ما إذا لم يأت بالواجب و تركه بالمرّة عن جهل بالحكم، ثمّ ارتفع جهله في أثناء الوقت، ضرورة توجّه الخطاب إليه و تنجُّز التكليف في حقه بمجرد ارتفاع جهله في داخل الوقت. بلا حاجة إلي قاعدة الاشتراك. و هذا الفرض خارج عن محل الكلام، مع ندرة وقوعه. و إنّما الكلام فيما إذا أخلّ ببعض أجزاءِ الواجب و شرائطه عن جهل بالحكم.

فمقتضي هذه القاعدة حينئذٍ وجوب الاعادة في الوقت إذا ارتفع جهله في الوقت، و القضاء في خارجه. و لكن حكم جماعة- و منهم السيد في العروة- بعدم وجوب الاعادة حينئذٍ، فضلًا عن القضاءِ و إجراءِ حكم السهو عليه، و كذا في الجهر و الاخفات. و قد قام الاجماع في الجهر و الاخفات، و لكن في غيره كلامٌ و سيأتي البحث عن ذلك

في التطبيقات الفقهية.

و من ذلك الصلاة في المغصوب جاهلًا بالحكم، فحكم السيد بصحة

______________________________

(1) معتمد العروة/ كتاب الحج/ للسيد الخوئي: ج 3، ص 72.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 114

صلاته و عدم وجوب الاعادة في الوقت و القضاء في خارجه. و لكن أشكل عليه السيد الحكيم مستدلًا بهذه القاعدة.

و أما في القضاء فلا فرق بين الصورتين المزبورتين و تجري فيه القاعدة مطلقاً؛ نظراً إلي كونه فرع صدق الفوت.

و منها: ارتفاع حرمة الجمع بين الاختين مع الجهل بالحكم.

و منها: عدم بطلان المغارسة مع الجهل بالحكم.

و منها: ارتفاع الحرمة المؤبّدة عن المُحرِم العاقد عن جهلٍ بالحكم. ذهب إليه السيد الخوئي و حكم بعدم اشتغال ذمّته لو ارتفع جهله بعد زوال الاستطاعة.

إلي غير ذلك من الفروع الخارجة عن مصبّ القاعدة المبحوث عنها في المقام بالنص أو الاجماع. و في غير موارد النص و الاجماع لا بد من العمل بالقاعدة؛ اقتصاراً فيما خالف القاعدة علي موضع النص.

إنّما الاشتراك في الحكم الانشائي الفتوائي

ثمّ إنّ العلم لمّا كان شرطاً في تنجّز التكليف، لا مناص من كون اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل بلحاظ قبل مرتبة التنجّز. و ذلك لقبح عقاب الجاهل بالحكم علي ترك العمل به أو مخالفته؛ لأنّه من العقاب بلا بيان، و هو قبيح علي الحكيم.

و من أجل ذلك قد خصّص صاحب الكفاية مصبّ هذه القاعدة بالحكم الانشائي، بقوله: «فانّ الحكم المشترك بين العالم و الجاهل و الملتفت و الغافل ليس إلّا الحكم الانشائي المدلول عليه بالخطابات المشتملة علي بيان الأحكام

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 115

للموضوعات بعناوينها الاوّلية بحسب ما يكون فيها من المقتضيات» «1».

و من جانب آخر قد أثبتنا في محلّه أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالطبائع

في مرحلة التشريع و الانشاء. فاذا تعلّقت بطبائع الموضوعات و ذواتها، تدور فعليتها مدار تحقق موضوعاتها بلا فرق بين العالم و الجاهل، فتشمل العالمين و الجاهلين علي حدّ سواء لا محالة في مرحلة الانشاء و الفعلية، نعم يختصّ تنجّزها بالعالمين.

و لا إشكال في دخول جميع الأحكام الأولية و الثانوية في مصبّ هذه القاعدة، فتشمل كلّ ما يكون من قبيل حكم اللّٰه المعبّر عنه بالحكم الفتوائي.

و أما الحكم الانشائي الصادر من الفقيه و الحاكم الشرعي، فهو خارج عن مصبّ القاعدة؛ نظراً إلي تعلّقه بالأشخاص، لا بالطبائع. نعم قد يصدر من الفقيه الحكم الكلي كقوله: «اليوم استعمال التوتون و التنباكو حرام في حكم محاربة صاحب الزمان» و مثل هذا الحكم الانشائي يدخل في مصبّ هذه القاعدة؛ نظراً إلي وجود ملاكها فيه. و لكنه خارج عن مقصود الباحثين و المتعرّضين لهذه القاعدة، مع عدم كونه من قبيل حكم اللّٰه، و إن ينتهي في أسناده و أدلّته إلي حكم اللّٰه.

______________________________

(1) كفاية الاصول: ج 1، ص 137.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 116

مدرك القاعدة
اشارة

1- الاستدلال بالاجماع.

2- الاستدلال بالروايات.

استُدلّ لهذه القاعدة بأربعة وجوه، و هي:

1- الاجماع، 2- الأخبار المتواترة، 3- إطلاق أدلّة الأحكام، 4- حكم العقل.

الاستدلال بالاجماع

يستفاد من كلام السيد المرتضي اتفاق العلماء علي مضمون هذه القاعدة. قال: «و ما وردت به الروايات من سقوط الحكم في كثير من المواضع مع الجهل به، مع اتفاق العلماء علي أنّ الجهل لا يبيح سقوطه، إلّا عمّن لا يتمكّن به» «1». و قد سبق آنفاً تفصيل كلامه.

و قد نسب في الحدائق القول باشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل إلي المشهور و فرّع عليه بطلان عبادة الجاهل؛ حيث قال: «المقدّمة الخامسة: في حكم الجاهل بالأحكام. و قد اختلف في ذلك كلام علمائنا الأعلام. فالمشهور بينهم عدم المعذورية. إلّا في أحكام يسيرة كحكمي الجهر و الاخفات و القصر و الاتمام. و فرعوا علي ذلك بطلان عبادة الجاهل- و هو عندهم من لم يكن مجتهداً و لا مقلّداً- و إن طابقت الواقع؛ حيث أوجبوا معرفة واجبها و ندبها و إيقاع كل منهما علي وجهه … و ذهب جمعٌ من المتأخرين و متأخريهم إلي معذورية الجاهل مطلقاً إلّا في مواضع يسيرة، حتي حكم بعض متأخري

______________________________

(1) رسائل المرتضي: ج 2، ص 370- 371.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 117

المتأخرين بصحة صلاة العوام كيف كانت، و اقتصر بعض علي ما طابق الواقع من ذلك» «1».

بل استظهر المحقق النائيني من كلمات الأصحاب قيام الاجماع و الضرورة علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل، بعد ما أنكر ثبوت تواتر الأخبار علي ذلك؛ حيث قال:

«و قد ادُّعي تواتر الأدلّة علي اشتراك الأحكام في حق العالم و الجاهل؛ و نحن و إن لم نعثر علي تلك الأدلّة سوي بعض

أخبار الآحاد التي ذكرها صاحب الحدائق في مقدمات كتابه، إلّا أنّ الظاهر قيام الاجماع، بل الضرورة علي ذلك» «2».

و ممن استدلّ بالاجماع في المقام، هو السيد الخوئي؛ فانّه قد صرّح في مواضع عديدة «3» بقيام الاجماع علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل. و ادّعاه أيضاً الشيخ المظفّر «4»، و السيد البجنوردي «5». هذا حال دعوي الاجماع المطلق علي هذه القاعدة و قد ادّعي الاجماع أيضاً علي لحوق الجاهل بالعالم في فروع كثيرة مندرجة تحت هذه القاعدة، كالاخلال بواجبات الصلاة- غير الجهر و الاخفات- كما نقل في الجواهر «6» عن بعض الأصحاب الاجماع علي ذلك.

و لكن الاجماع المدعي في المقام ليس كاشفاً تعبدياً عن رأي المعصوم،

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 1، ص 77- 78.

(2) فوائد الاصول: ج 3، ص 12.

(3) مصباح الاصول: ج 2، ص 96 و 103 و 349.

(4) اصول الفقه: ج 2، ص 32.

(5) القواعد الفقهية: ج 1، ص 84.

(6) جواهر الكلام: ج 12، ص 229.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 118

بعد وجود وجوه صالحة للاستناد إليها لهذه القاعدة، بل استند إليها في الجملة كل من تعرّض لهذه القاعدة.

الاستدلال بالروايات

قد ادّعي الشيخ الأعظم تواتر الأخبار علي وجود الحكم المشترك بين العالم و الجاهل؛ حيث قال: «و قد تواتر بوجود الحكم المشترك بين العالم و الجاهل الأخبار و الآثار» «1».

و لا يخفي أنّ مقصوده ليس دلالة الأخبار المتواترة علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل علي النحو المطلق الذي هو مفاد هذه القاعدة؛ حتي تنفع لتأسيس الأصل الكلّي و القاعدة العامة المبحوث عنها في المقام.

بل إنّما الظاهر من كلامه دلالة الأخبار و الآثار المتواترة علي وجود أحكام مشتركة بين العالم و الجاهل

في الجملة، و لو في فروع كثيرة من مختلف أبواب الفقه.

و إنّ بين هذا المعني و بين مفاد القاعدة المبحوث عنها في المقام بوناً بعيداً.

و قد تبيّن بذلك أنّ ما استظهره بعض المحققين من كلام الشيخ الأعظم في المقام، من دعوي تواتر الأخبار علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل علي النحو المطلق- كما هو مفاد هذه القاعدة-، فهو في غير محلّه.

كما سيأتي من السيد الخوئي نسبته ذلك إلي الشيخ الأعظم. و قد صرّح بهذا الاستظهار الشيخ المظفّر بقوله: «و عن الشيخ الأنصاري أعلي اللّٰه مقامه و عن غيره أيضاً كصاحب الفصول رحمه اللّٰه، أن أخبارنا متواترة معني في

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 1، ص 113.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 119

اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل، و هو كذلك» «1».

و قد حكي جماعةٌ من المحققين تواتر الأخبار علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل.

فمن هؤلاء: المحقق النائيني؛ حيث جعل الأخبار المزبورة من قبيل متمّم الجعل الذي ينتج نتيجة الاطلاق. قال: «ثمّ إنّ متمّم الجعل تارةً: ينتج نتيجة الاطلاق، و اخري: ينتج نتيجة التقييد. فالأوّل: كمسألة اشتراك الأحكام بالنسبة إلي العالم و الجاهل، حيث حكي تواتر الأخبار علي الاشتراك» «2».

و لكنّ المحقق المزبور نفسه أنكر ثبوت تواتر الأخبار علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل؛ حيث قال: «و قد ادُّعي تواتر الأدلّة علي اشتراك الأحكام في حق العالم و الجاهل؛ و نحن و إن لم نعثر علي تلك الأدلّة سوي بعض أخبار الآحاد التي ذكرها صاحب الحدائق في مقدمات كتابه» «3».

و منهم: المحقق العراقي؛ حيث صرّح بورود الأخبار المتواترة علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل. «4»

و منهم: المحقق السيد الخوئي، فانّه ادّعي

في مواضع عديدة من مباحثه الاصولية «5» دلالة الأخبار علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل.

إلّا أنّه اعترف في الدورة اللاحقة من مباحثه بعدم دلالة خبر علي هذه القاعدة بالخصوص؛ حيث قال: «و ما عن شيخنا العلامة الأنصاري من أنّه قد

______________________________

(1) اصول الفقه: ج 2، ص 33.

(2) فوائد الاصول: ج 1، ص 163.

(3) فوائد الاصول: ج 3، ص 12.

(4) مقالات الاصول: ج 2، ص 497.

(5) مصباح الاصول: ج 2، ص 96، و 103، و 349.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 120

تواترت الأخبار و الآثار علي اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم و الجاهل، لعلَّه أراد منها الروايات الدالة علي ثبوت الأحكام مطلقاً، أو أراد أخبار الاحتياط و البراءة أو ما شاكلها مما يدل بالالتزام علي الاشتراك، و إلّا فلم ترد رواية واحدة تدلّ علي أنّ الأحكام الواقعية مشتركة بين العالمين بها و الجاهلين» «1».

و لكن قد عرفت أنّ كلام الشيخ الأعظم ليس بالمعني الذي استظهره هذا العَلَم حتي يرد إشكاله عليه. و ذلك لما بيّناه آنفاً، فلاحظ.

______________________________

(1) محاضرات في اصول الفقه: ج 2، ص 271.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 121

تحقيق نصوص المقام

1- النصوص الدالة علي هذه القاعدة.

2- ما دلّ علي تشريع ما احتاج إليه العباد.

3- ما دل علي عقاب الجاهل بالحكم.

4- ما دل علي وجوب التوقف عند الجهل بالحكم.

5- ما دل من النصوص علي نفي قاعدة الاشتراك.

6- تحقيق حال أحمد بن محمد بن يحيي العطّار.

7- الاستدلال باطلاق الخطابات.

8- مناقشة النائيني في إطلاقات المقام و نقد كلامه.

9- الاستدلال بحكم العقل.

و الذي يقتضيه التحقيق في النصوص أنّه لم يدلّ شي ءٌ منها علي نصّ هذه القاعدة؛ أعني به كبري اشتراك الأحكام بين العالم

و الجاهل علي النحو المطلق.

نعم دلّت علي مفاد هذه القاعدة عدّة نصوص بالالتزام أو الاطلاق، كما أشار إليه السيد الخوئي. و لكن ورد في مقابلها ما يعارضها بظاهرها؛ حيث دلّ علي سقوط التكليف عن الجاهل. ففي المقام طائفتان من النصوص بينهما تعارض بحسب الظاهر.

و نقدّم الكلام في ما دل من النصوص علي مفاد قاعدة الاشتراك بالملازمة.

فنقول: يمكن تقسيم هذه النصوص إلي أربع طوائف.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 122

النصوص الدالة

علي هذه القاعدة

الطائفة الاولي: ما دلّ من النصوص باطلاقها أو بالالتزام علي اشتراك الأحكام بين العالم و بين الجاهل.

فمن هذه النصوص ما دلّ علي وجوب تحصيل العلم بالأحكام و قد استدل بهذه الطائفة الاصولي المجدّد الوحيد البهبهاني «1».

وجه الدلالة هذه النصوص علي المطلوب، أنّه لو لم يكن التكليف مشتركاً بين العالم و الجاهل، لم يجب علي الجاهل تعلُّمها.

كقول النبي صلي الله عليه و آله: «طلب العلم فريضة علي كل مسلم» «2».

و في روايةٍ: «سُئل أبو الحسن عليه السلام هل يسع الناس ترك المسألة عمّا يحتاجون إليه؟ فقال عليه السلام: لا» «3».

و عن مفضّل بن عمر، قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام: يقول: عليكم بالتفقُّه في دين اللّٰه، و لا تكونوا أعراباً؛ فانّه من لم يتفقّه في دين اللّٰه، لم ينظر اللّٰه إليه يوم القيامة و لم يزكّ له عملًا» «4».

و عن محمد بن علي بن النعمان (أبي جعفر الأحول) عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«لا يسع الناس حتي يسألوا و يتفقّهوا» «5».

______________________________

(1) الفوائد الحائرية: ص 415- 429.

(2) الكافي: ج 1، ص 30 و 31، ح 1 و 2 و 5.

(3) المصدر: ص 30، ح 3.

(4) المصدر: ص 31، ح 7.

(5) المصدر:

ص 40، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 123

وجه الدلالة- كما قلنا- أنّه لو لم يكن الجُهّال مكلّفين بالأحكام، لم يوجب عليهم تعلُّم الأحكام بالسؤال و الفحص و التفقّه في شرايع الاسلام. و لكن لا يخفي أنّها لا تشمل الجاهل القاصر الذي لا يحتمل ثبوت حكم لنفسه في دفتر التشريع غير ما يعمله و يعتقد عن جهل مركّب. فانّ ايجاب التعلّم لا يُعقل في خفّه.

ما دلّ علي تشريع

ما احتاج إليه العباد

الطائفة الثانية: ما دلّ علي تشريع جميع ما يحتاج إليه العباد من الأحكام، كقول أبي جعفر عليه السلام:

«إنّ اللّٰه تبارك و تعالي لم يدع شيئاً يحتاج إليه الامّة، إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله صلي الله عليه و آله. و جعل لكلّ شي ءٍ حدّاً، و جعل عليه دليلًا يدلّ عليه، و جعل علي من تعدّي ذلك الحدّ حدّاً» «1».

وجه الدلالة: أنّه دلّ علي بالمطابقة دوران جعل الأحكام و تشريعها مدار احتياج المكلّفين. و دلّ بالالتزام علي أنّ كلِّهم سواءٌ مشتركين في الأحكام حسب احتياجهم، بلا فرق بين العالم و الجاهل. و بلا فرق بين الجاهل القاصر و المقصر؛ لأنّ ملاك ثبوت التكليف في دفتر التشريع هو احتياج البشر إلي قانون إلهي ليعمل به و يطبّق افعاله اليومية و ينظّم مجالات عيشه علي أساسه، ليهديه إلي الفلاح الخالد الذي لأجله ارسال الرسل و انزال الكتب، و لا دخل لعلم العباد و جهلهم في هذا الملاك، و لا لأنحاء الجهل دخلٌ في ذلك.

______________________________

(1) المصدر: ص 59، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 124

ما دل علي

عقاب الجاهل بالحكم

الطائفة الثالثة: ما دلّ علي عدم كون الجاهل بالحكم معذوراً في ترك

الواجبات و فعل المحرّمات و أنّه معاقبٌ علي ترك تعلّمه.

مثل: معتبرة مسعدة بن زياد، قال: «سمعت جعفر بن محمد عليه السلام، و قد سئل عن قوله تعالي: فللّٰه الحجّة البالغة، فقال عليه السلام: إنّ اللّٰه تعالي يقول للعبد يوم القيامة: أ كنت عالماً؟ فان قال نعم، قال له: أ فلا عملت بما علمت؟ و إن قال كنت جاهلًا، قال له: أ فلا تعلّمت حتي تعمل؟ فيخصمه. و ذلك الحجّة البالغة» «1».

ما دل علي وجوب

التوقف عند الجهل بالحكم

الطائفة الرابعة: ما دلّ بالمطابقة و الصراحة علي وجوب التوقف و الفحص و التبيُّن عند الجهل بالحكم. و دلّ بالالتزام علي ثبوت التكليف في حق الجاهل؛ حيث إنّه لو لم يكن في حقّه تكليف، لم يكن لوجوب التوقف و الفحص و التبيّن وجه.

مثل: قول الصادق عليه السلام: «إنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون، إلّا الكفّ عنه و التثبّت و الردّ إلي أئمة الهدي حتي يحملوكم فيه علي القصد، و يجلو عنكم فيه العمي. و يعرِّفوكم فيه الحق. قال اللّٰه تعالي: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» «2» في حسنة حمزة بن الطيّار. قوله عليه السلام: «علي القصد»؛ أي الاقتصاد و الاعتدال من غير إفراط و لا تفريط و لا اعوجاج، كما قال تعالي: «و منهم مقتصد» «3»، و قال:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 1، ص 177، ح 58.

(2) الوسائل: ب 12، من أبواب صفات القاضي، ح 3.

(3) الفاطر: 32.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 125

«اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْويٰ» «1»، و قال علي عليه السلام: «اليمين و الشمال مضلّة و الطريق الوسطيٰ هي الجادّة» «2».

من هذه الطائفة: قوله عليه السلام: «لو أنّ العباد إذا

جهلوا وقفوا و لم يجحدوا، لم يكفروا» «3»؛ حيث دلّ باطلاقه علي وجوب التوقف عند الجهل و عدم جواز إنكار أصل ثبوت التكليف.

و منها: صحيح عبد الرحمن بن الحجاج قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيداً و هما محرمان، الجزاءُ بينهما؟ أو علي كلّ واحد منهما جزاءً؟ قال عليه السلام: لا بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد.

قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك، فلم أدر ما عليه. فقال عليه السلام: إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا، فعليكم بالاحتياط، حتي تسألوا عنه فتعلموا» «4».

وجه دلالة هذه النصوص علي المطلوب أنّه لو لم يكن في حق الجاهل تكليفاً ثابتاً لم يكن للأمر بالاحتياط و التوقف و السؤال و الفحص وجهٌ.

و منها: خبر ابن أبي عمير، عن محمد بن مسكين و غيره، عن أبي عبد اللّه، قال: «قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابة و هو مجدور، فغسّلوه، فمات؟ فقال عليه السلام قتلوه، ألا سألوا؟! ألا يمَّموه؟! إنّ شفاءَ العيِّ السؤال» «5».

و في خبره الآخر عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سألته عن مجدور أصابته جنابة، فغسّلوه، فمات. فقال عليه السلام: قتلوه، ألا سألوا؟! فانّ دواءَ العيّ

______________________________

(1) المائدة: 8.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 16.

(3) المصدر: ح 11.

(4) الوسائل: ب 12، من أبواب صفات القاضي، ح 1.

(5) الوسائل: ب 5، من أبواب التيمّم، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 126

السؤال» «1».

هذان الخبران، فالأول منهما معتبرٌ، بناءً علي إرادة كفاية وثاقة الرُّواة عن ابن أبي عمير من الاجماع المدّعيٰ في كلام الكشّي علي تصحيح ما يصح عن أصحاب الاجماع. و الثاني معتبرٌ بناءً علي التسوية بين مراسيل ابن أبي

عمير و مسانيده في الاعتبار باجماع الأصحاب. و فيه كلام، بحثنا عنه مفصّلًا في كتابنا «مقياس الرواية» «2»، و «مقياس الرواة» «3».

و لا يخفي أنّ هذه الطائفة إنّما تتمّ دلالتها علي قاعدة الاشتراك في الجاهل المحتمل لثبوت الحكم الواقعي المخالف، دون الغافل المحض المعبّر عنه بالجاهل القاصر المركّب.

و لا ريب أنّ القول بعدم اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل و اختصاصها بالعالمين، يرجع في الحقيقة إلي إنكار ثبوت حكم اللّٰه في حق الجاهلين، و لا أقلّ أنّه من مصاديق ذلك.

هذه نبذةٌ من الأخبار الدالة علي هذه القاعدة بظاهرها، بل هي متواترة معني؛ مضافاً إلي ما ورد من النصوص المتظافرة في مختلف أبواب الفقه و شتّي الفروع. و قد دلّت علي اشتراك العالم و الجاهل في أحكام تلك الأبواب و الفروع، كالاخلال بواجبات الصلاة في غير الجهر و الاخفات، و غير ذلك.

و سيأتي ذكر نماذج منها في التطبيقات الفقهية.

______________________________

(1) المصدر: ح 3.

(2) مقياس الرواية في علم الدراية: ص 107.

(3) مقياس الرواة في كليات علم الرجال: ص 177- 196.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 127

ما دلّ من النصوص

علي نفي قاعدة الاشتراك

و أمّا النصوص التي دلّت بظاهرها علي نفي مفاد هذه القاعدة- أعني عدم اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل- و أنّه لا تكليف علي الجاهل، فهي تعارض الطوائف الأربع المزبورة بظاهرها.

فمن هذه النصوص: ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد بقوله: «حدّثنا أبي رحمه اللّٰه، قال: حدّثنا عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن أحمد ابن محمد بن عيسي، عن الحجّال، عن ثعلبة بن ميمون، عن عبد الأعلي بن أعين قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عمّن لم يعرف شيئاً، هل عليه شي ءٌ؟ قال: لا»

«1».

هذه الرواية صحيحة؛ إذ لا ضعف في أحدٍ من رجال سندها. و أما دلالتها علي نفي الاشتراك، فالوجه فيه ظهور جواب الامام عليه السلام بقوله: «لا» في عدم ثبوت شي ءٍ من التكليف علي الجاهل. فانّه قد دلّ بعموم النكرة في سياق النفي علي نفي أيّ تكليف و وظيفة عليه.

و منها: ما رواه الصدوق بقوله: حدّثنا أحمد بن محمد بن يحيي العطّار عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن عيسي، عن ابن فضّال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريّا بن يحيي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، «قال: ما حجب اللّٰه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» «2».

______________________________

(1) كتاب التوحيد: ص 412، ح 8.

(2) كتاب التوحيد ص 413، ح 9.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 128

تحقيق حال أحمد

بن محمد بن يحيي العطّار

هذه الرواية معتبرة أو موثقة؛ إذ لا كلام في رجال سندها، إلّا أحمد بن محمد بن يحيي العطّار؛ حيث ادُّعي جهالته، كما يفهم من تعليل الشيخ البهائي في الحبل المتين تضعيف بعض الروايات بجهالة أحمد بن محمد بن يحيي. «1» و قد نسب السيد الخوئي جهالة الرجل إلي جمع منهم صاحب المدارك؛ حيث قال: «فالمتحصّل مما ذكرناه أنّ الرجل مجهولٌ، كما صرّح به جمعٌ منهم صاحب المدارك» «2».

و لكن الأقوي اعتبار روايات أحمد بن محمد بن يحيي.

و ذلك أوّلًا: لكثرة ترضّي الصدوق و ترحّمه عليه. فانّه قد ترضّي و ترحّم عليه كثيراً في جميع كتبه. و إنّ ترضّيه عنه في الخصال فقط يتجاوز عن خمسين مورد، فكيف باضافة العلل و العيون و الفقيه. و قد بحثنا و أثبتنا في كتابنا «مقياس الرواة» «3» أنّ كثرة ترضّي الصدوق و ترحُّمه علي

شيخ من مشايخه أمارة علي وثاقة الرجل، بل فوق حد الوثاقة، بل تثبت جلالة قدر الرجل.

و ثانياً: لأنّ كثرة نقل الصدوق عن شيخ من مشايخه بنفسها أمارة كاشفة عن ثبوت وثاقته عنده.

أ فهل تري من ينقل عنه علماؤنا و الفقهاء المعاصرون بعض أحوال مشايخهم، أن لا يكون ثقة عندهم؟ فضلًا عمّن يروي عنه مثل الصدوق كثيراً من معالم الدين و أحكام المذهب؟!

______________________________

(1) راجع معجم رجال الخوئي: ج 3، ص 121- 122.

(2) معجم رجال الخوئي: ج 3، ص 122.

(3) مقياس الرواة في كليات الرجال: ص 147- 150.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 129

و ثالثاً: إنّ أحمد بن محمد بن يحيي العطار كان من مشايخ الاجازة للصدوق و غيره من مشاهير المحدّثين و أعاظم الأصحاب. و قد بيّنا في كتابنا «مقياس الرواة» «1» أنّ شيخ الإجازة إذا كان ممن اشتهر بين أعاظم الأصحاب و أجلّاء المحدثين، لا ريب في كشف ذلك عن وثاقته، بل جلالته.

و رابعاً: إنّ ظاهر كلام السيرافي اعتماد أصحابنا الامامية و تعويلهم علي ما نقله أحمد بن محمد بن يحيي العطار. و اعتمادهم يكشف عن وثاقة الرجل. و احتمال بنائهم علي أصالة العدالة لا يُعتني به في مثل أحمد بن محمد، كما أنّ تعدد طريق السيرافي إلي أحمد بن محمد بن عيسي و وقوع أحمد بن محمد بن يحيي العطار في أحدهما، لا يمنع من ظهور كلام السيرافي في كون كل واحد من الطريقين معتمداً عليه، فلا يُعبأُ باشكال السيد الخوئي علي ذلك «2».

هذا مضافاً إلي اعتماد جلّ المتأخرين و فحول المحققين علي الرجل.

هذا من جهة السند. و أما من جهة الدلالة، فقوله: «موضوع عنهم»؛ أي مرفوع عنهم؛ فانّ فعل «وضع»

إذا تعدّي بحرف «عن»، يفيد معني الرفع. و تقريب الاستدلال بها لنفي الاشتراك أنّها دلّت علي رفع التكليف المجهول عن الجاهل به.

و منها: حسنة حمزة بن الطيّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «إنّ اللّٰه عزّ و جلّ احتجّ علي الناس بما آتاهم و عرّفهم» «3».

هذه الرواية حسنة؛ إذ لا إشكال في رجال سندها، إلّا حمزة بن الطيّار؛ إذ لم

______________________________

(1) مقياس الرواة في كليات علم الرجال: ص 145.

(2) راجع معجم رجال الخوئي: ج 3، ص 122.

(3) التوحيد: ص 410، ب 64، ح 2 و 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 130

يوثّقه الأصحاب، إلّا أنّ الكشي مدحه، و ورد في الروايات أنّ الامام الصادق عليه السلام دعا له و ترحّم عليه. و من هنا عبّرنا عنها بالحسنة.

و وجه دلالتها علي نفي الاشتراك أنّها دلَّت بمفهوم التحديد علي عدم مؤاخذة اللّٰه الجاهل بما جَهِلَه من التكاليف و الأحكام.

و في دلالتها علي نفي قاعدة الاشتراك إشكال واضح؛ إذ الكلام في وجوب تدارك ما فات علي الجاهل بعد ارتفاع جهله و حصول علمه بالحكم.

و منها: معتبرة طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «قرأت في كتاب علي عليه السلام إنّ اللّٰه لم يأخذ علي الجهّال عهداً بطلب العلم حتي أخذ علي العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال؛ لأنّ العلم كان قبل الجهل» «1».

لا إشكال في رجال سندها؛ إلّا طلحة؛ حيث إنّه عامّي، إلّا أنّ أصحابنا اعتمدوا علي كتابه، و من هنا عبّرنا عنها بالمعتبرة.

أما من حيث الدلالة، فانّما تتمّ دلالتها علي المطلوب، إذا دلّت علي أنّ الجاهل قبل أن يتعلّم الأحكام من العالم، لا يكون مأخوذاً بالتكاليف المجهولة؛ لأنّ مرجع ذلك إلي عدم

ثبوت التكليف في حق الجاهل. و لكن في دلالتها علي ذلك إشكالٌ، بل إنّما هي ناظرة إلي وجوب تعليم الجاهل عند تعلُّمه في الرتبة السابقة عن وجوب التعلُّم، و إلي أنّ وجوب التعلم فرع وجوب تعليم المتعلّم عند تعلّمه.

و هذا نظير دلالة إيجاب السؤال علي وجوب الجواب عند السؤال؛ نظراً إلي تفرُّع الأوّل علي الثاني.

و منها: صحيحة عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد اللّه عليه السلام- في حديث من أحرم في قميصه جاهلًا بالحكم- قال عليه السلام: «أيّ رجل ركب أمراً بجهالة، فلا شي ءَ

______________________________

(1) الكافي: ج 1، ص 41، باب بذل العلم، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 131

عليه» «1».

و منها: صحيحة حريز بن عبد اللّه، عن الصادق عليه السلام، عن النبي صلي الله عليه و آله، قال:

«وُضِعَ عن أمتي تسعة … ما لا يعلمون» «2».

و لكن مقتضي التأمل في هذه النصوص أنّه لا يصلح شي ءٌ منها لنفي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل.

و ذلك لأنّه يرد علي الاستدلال بصحيحة عبد الأعلي بن أعين.

أوّلًا: أنّ موضوع الكلام فيه من لا يعرف شيئاً حتي أصل الاسلام و الشريعة. و ذلك لدلالة النكرة في سياق النفي علي العموم، و لأنّ من يعرف أصل الاسلام و يعتقد به، تصدق أنّه يعرف شيئاً.

و ثانياً: أنّ ظاهره عدم شي ءٍ من التكليف المنجّز و العقاب عليه حال كونه لا يعرف شيئاً. و ليس المنفي حال الجهل إلّا التكليف المنجّز، لما سبق من أنّ الجهل لا يمنع، إلّا التكليف المنجّز، و هذه القرينة العقلية الحافّة بالخطاب تعطي ظهوره فيما قلنا.

و يرد علي الاستدلال بمعتبرة أحمد بن محمد بن يحيي العطار؛

أوّلًا: أنّ ظاهر قوله عليه السلام: «ما حجب

اللّٰه علمه» ما لم يبيّنه الشارع من الأحكام و لم يبلّغه النبي و الأئمة إلي الناس، و عليه فيكون الحديث المزبور علي وزان قوله عليه السلام: «اسكتوا ما سكت اللّٰه عنه». و قوله تعالي: «لا يكلّف اللّٰه نفساً إلّا ما آتاها»، و هذا أجنبيٌ عن محل الكلام.

و ثانياً: يحتمل كون المراد الجاهل القاصر و الناسي؛ نظراً إلي عدم كون

______________________________

(1) الوسائل: ب 30 من أبواب الخلل في الصلاة، ح 1.

(2) الوسائل: ب 30، من الخلل الواقع في الصلاة، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 132

جهله هذا و نسيانه من فعال نفسه، بل من اللّٰه؛ نظراً إلي خروج الغفلة و النسيان عن الاختيار، فهذا من قبيل قوله عليه السلام «كلما غلب اللّٰه عليه فاللّٰه أولي بالعذر»، كما في صحيح ابن سنان. فلا يشمل الجاهل المقصّر، فهو أخصّ من المدّعي.

و ثالثاً: أنّ غاية مدلولها رفع تنجيز الحكم المجهول عن الجاهل ما دام الجهل بمعني عدم عقابه علي تركه. و لا ينافي ذلك وجوب الاعادة و القضاء بعد رفع الجهل و العلم بالتكليف الفائت.

و مثله في المناقشة قوله: «وُضع ما لا يعلمون». و ذلك لأنّ الحكم إذا صار معلوماً بعد ارتفاع الجهل يخرج عمّا حجب اللّٰه علمه عن العبد و عمّا لا يُعلم. و لأنّ القرينة العقلية و السياقية حاكمة بأنّ المرفوع، إنّما هو ما كان للعلم دخل في إثباته، و ليس ذلك إلّا التكليف المنجّز.

و يرد علي الاستدلال بحسنة ابن طيّار أنّ غاية مدلولها عدم الاحتجاج علي الجاهل و لا مؤاخذته بما تركه عن جهل ما دام جاهلًا، و لا ينافي ذلك وجوب تدارك ما فاته من التكليف حال الجهل بعد العلم به؛ نظراً

إلي صيرورته بعد ارتفاع الجهل معلوماً. و أما احتمال وضع المجهول و رفعه مطلقاً، حتي في مرتبة الانشاء بسقوطه عن دفتر التشريع، فهو لا وجه له؛ لعدم تأثير لجهل المكلّف و علمه فيه. و ثمرة ذلك أنّه كلما إذا ارتفع جهله يتنجّز عليه، فلا بد من تداركه.

و أما معتبرة طلحة، فانّ موضوع الكلام فيها طلب العلم، و المقصود أنّه كما يجب علي الجاهل طلب العلم، يجب علي العالم التعليم و بذل علمه للجاهل في الرتبة السابقة؛ لأنّ التعلّم فرع التعليم، فكذا وجوبه فرع وجوبه بالملازمة القطعية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 133

و أما صحيحة عبد الصمد، فالمقصود لا شي ءَ من العقاب علي ما ارتكبه الجاهل بالحكم من المحرّمات؛ لظهور «ركب» و «علي» في ذلك. و لا نظر لها إلي ترك التكليف و عدم الاتيان بالواجب عن جهل، و علي فرض شموله بالعموم- بدلالة النكرة في سياق النفي عليه وضعاً- ظاهرها نفي العقوبة، اخرويةً كانت أو دنيويةً كالكفّارات.

الاستدلال

باطلاق الخطابات

و مما يمكن الاستدلال به لهذه القاعدة إطلاق الخطابات المتكفّلة لتشريع الأحكام.

و ذلك لما سبق منا في محلّه من علم الاصول «1» أنّ الأحكام تتعلّق بالطبائع. فاذا تعلقت الأحكام في تشريعها بطبائع الموضوعات و المتعلّقات، لا فرق في شمولها للمكلّفين بين العالم و الجاهل.

كقوله: «وَ لٰا تَجَسَّسُوا وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» «2». و «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» «3» و «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» «4». و قوله عليه السلام: «إذا التقي الختانان، فقد وجب الغسل». ففي الأوّل تعلّق النهي بطبيعي التجسُّس و الاغتياب، و في الثاني بطبيعي التطفيف و المطففين، و في الثالث بطبيعي الهمز و اللّمز، و في الرابع قد علِّق الايجاب بطبيعي التقاءِ الختانين.

و من

هذا القبيل عموم الخطابات، مثل قوله تعالي: «إِنَّ الصَّلٰاةَ كٰانَتْ عَلَي

______________________________

(1) بدائع البحوث: ج 3، ص 50.

(2) الحجرات: 12.

(3) المطفّفين: 1.

(4) لمزة: 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 134

الْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً» «1»، و قوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ … » «2»، و قوله: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ» «3»، إلي غير ذلك من الخطابات الواردة في الكتاب و السنة المتكفّلة لتشريع الأحكام.

وجه دلالة هذه الخطابات علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل.

أوّلًا: تعلُّق الأحكام في الخطابات بطبائع الموضوعات و المتعلّقات و ذواتها الشاملة لجميع المكلّفين علي حدّ سواء، بلا فرق بين العالم و الجاهل.

و ثانياً: شمول عموم «المؤمنين» و «الناس» للعالمين و الجاهلين علي حد سواء.

مناقشة النائيني صلي الله عليه و آله

في إطلاقات المقام

و لكن قد أشكل المحقق النائيني علي الاستدلال باطلاق الخطابات لاثبات اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل، بدعوي أنّ العلم و الجهل- كقصد الامتثال- من الانقسامات الثانوية اللاحقة المتأخّرة عن مرتبة تشريع الأحكام، و لا يمكن تقييد الحكم بها.

______________________________

(1) النساء: 103.

(2) البقرة: 183.

(3) البقرة: 189.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 135

فاذا استحال تقييد الحكم بالعلم، يستحيل ثبوت الاطلاق به بالنسبة إلي الجاهل؛ لأنّ التقابل بين الاطلاق و التقييد من قبيل العدم و الملكة.

و من هنا التجأَ المحقق المزبور إلي متمّم الجعل، و التزم بأنّ الاشتراك من قبيل نتيجة الاطلاق. و مراده من متمّم الجعل إنّما هو الدليل المنفصل المستقلّ عن نفس أدلّة الأحكام، كالاجماع و النصوص المستفاد منها الاشتراك و الوجوه العقلية المستدلّ بها في المقام.

و إليك بعض فقراتٍ من نصّ كلامه.

قال قدس سره: «توضيح ذلك: هو أنّ العلم بالحكم لمّا

كان من الانقسامات اللاحقة للحكم، فلا يمكن فيه الاطلاق و التقييد اللحاظي؛ لاستلزامه الدور، كما أوضحناه في مبحث التعبدي و التوصلي، و قلنا: إنّ أخذ العلم قيداً- جزءاً أو شرطاً أو مانعاً- ممّا لا يمكن في مرتبة الجعل و التشريع، كما هو الشأن في الانقسامات اللاحقة للمتعلّق باعتبار تعلّق الحكم به كقصد التعبّد و التقرّب في العبادات. و إذا امتنع التقييد، امتنع الاطلاق أيضاً، لأنّ التقابل بين الاطلاق و التقييد تقابل العدم و الملكة. و لكن الاهمال الثبوتي أيضاً لا يعقل، بل لا بد إمّا من نتيجة الاطلاق أو من نتيجة التقييد؛ فانّ الملاك الذي اقتضي تشريع الحكم، إمّا أن يكون محفوظاً في كلتي حالتي الجهل و العلم، فلا بد من نتيجة الاطلاق. و إمّا أن يكون محفوظاً في حالة العلم فقط، فلا بدّ من نتيجة التقييد؛ و حيث لم يمكن أن يكون الجعل الأوّلي متكفّلًا لبيان ذلك، فلا بد من جعل آخر يستفاد منه نتيجة الاطلاق أو التقييد، و هو المصطلح عليه بمتمّم الجعل. فاستكشاف كل من نتيجة الاطلاق و التقييد يكون من دليل آخر.

و قد ادّعي تواتر الأدلّة علي اشتراك الأحكام في حق العالم و الجاهل؛ و نحن و إن لم نعثر علي تلك الأدلة سوي بعض أخبار الآحاد التي ذكرها «صاحب الحدائق» في مقدمات كتابه، إلّا أنّ الظاهر قيام الاجماع، بل الضرورة علي ذلك». «1»

و قال في موضع آخر: «و المفروض أنّه ليس للأمر إطلاق بالنسبة إلي

______________________________

(1) فوائد الاصول: ج 3، ص 11- 12.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 136

قصد الامتثال، لامتناع التقييد به الملازم لامتناع الاطلاق كما تقدم، فالأمر من هذه الجهة يكون مهملًا لا إطلاق فيه و

لا تقييد، كما كان بالنسبة إلي العلم و الجهل به مهملًا لا إطلاق فيه و لا تقييد، هذا بحسب عالَم الجعل و التشريع.

و أما بحسب الثبوت و الواقع، فلا بدّ إمّا من نتيجة الاطلاق، و إما من نتيجة التقييد. و السرّ في ذلك: هو أنّه في الواقع و في عالم الثبوت، إمّا أن يكون ملاك الحكم و الجعل محفوظاً في كلتا حالتي العلم و الجهل و كلتا حالتي قصد الامتثال و عدمه، و إمّا أن يكون مختصّاً بأحد الحالين. فالأوّل يكون نتيجة الاطلاق. و الثاني يكون نتيجة التقييد …

و الفرق بين استكشاف نتيجة الاطلاق في المقام، و استكشاف الاطلاق في سائر المقامات، هو أنّ من عدم ذكر القيد في سائر المقامات يستكشف أنّ مراده من الأمر هو الاطلاق. و هذا بخلاف المقام، فانَّ من عدم ذكر متمم الجعل لا يستكشف أنّ مراده من الأمر هو الاطلاق؛ لما عرفت من أنّه لا يمكن أن يكون مراده من الأمر هو الاطلاق، بل من عدم ذكر متمم الجعل يستكشف أنّه ليس له مراد آخر سوي ما تعلّق به الأمر.

و بعبارة اخري: من عدم ذكر متمم الجعل في مرتبة وصول النوبة إليه يستكشف أنّ الملاك لا يختص بصورة قصد الامتثال، بل يعمُّ الحالين، فيحصل نتيجة الاطلاق» «1».

و قال بعد أسطر: «ثمّ إنّ متمّم الجعل تارة: ينتج نتيجة الاطلاق و اخري:

ينتج نتيجة التقييد، فالأوّل: كمسألة اشتراك الأحكام بالنسبة إلي العالم و الجاهل، حيث حكي تواتر الأخبار علي الاشتراك، و الثاني: كمسألة قصد

______________________________

(1) فوائد الاصول: ج 1، ص 159- 160.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 137

الامتثال في موارد اعتباره» «1».

و يفهم من مجموع كلامه أنّ الاطلاق علي ثلاثة

أنحاءِ.

الأوّل: الاطلاق اللفظي، و هو الاطلاق الناشي من لفظ طبيعي متعلّق الحكم أو موضوعه؛ نظراً إلي قابليته للصدق علي أفراده و مصاديقه، فهو بمقتضي ذاته يشمل جميع أفراده، استغراقاً أو بدلًا. و إرادة بعض أفراده بحاجة إلي بيان قيد لاخراج ما هو غير المراد.

الثاني: الاطلاق المقامي. و هو الاطلاق الثبوتي؛ بلحاظ عدم خلوّ الواقع من ثبوت الحكم علي نحو المطلق أو المقيّد. فاذا لم يثبت القيد- و لو بمتمّم الجعل-، لا بدّ من ثبوته علي نحو المطلق. و يكشفه عدم ذكر القيد.

الثالث: الاطلاق الثابت بمتمّم الجعل. و هو في الخصوصيات اللاحقة عن مقام الجعل بناءً علي عدم إمكان أخذها قيداً في متعلّق الحكم في الخطاب، فيما إذا ثبت الاطلاق بدليل منفصل.

نقد كلام

المحقق النائيني

و قد عرفت من كلامه أنّ اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل يثبت بطريقين:

أحدهما: عدم ذكر متمم الجعل؛ حيث يكشف ذلك عن أنّ الشارع لم يُرد شيئاً سوي متعلق الأمر، و هو الحكم المتعلّق بطبيعي الموضوع و ذاته، و أنّ ملاك ثبوت الحكم لا يختص بصورة العلم، بل يعمّ حالتي العلم و الجهل في مرحلة الثبوت و التشريع و يتبعه الاثبات و الفعلية.

و هذا الاطلاق من قبيل الاطلاق المقامي الثبوتي، و هو غير الاطلاق اللفظي

______________________________

(1) المصدر: ص 162.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 138

المستدلّ به في عداد أدلّة قاعدة الاشتراك.

ثانيهما: متمِّم الجعل- بناءً علي وروده من الشارع، كما هو مقتضي التحقيق، و هو ما سبق من النصوص-؛ فانّه يقتضي نتيجة الاطلاق؛ إذ دلّ علي عدم اختصاص الأحكام- في مرحلة الثبوت و التشريع بالعالمين و اشتراكها بين العالم و الجاهل.

و قد عرفت أنّ المحقق المزبور- بعد ما أشكل علي التمسّك بالاطلاق

اللفظي لاثبات قاعدة الاشتراك- التجأ إلي الاستدلال، باستفادة نتيجة الاطلاق من الطريقين المزبورين، كما عرفت من نصّ كلامه.

و لكن أجاب عنه بعض المحققين «1» بما حاصله: أنّ إشكال العَلَم المزبور إنّما يرد لو كان الاطلاق في مرحلة الانشاء و بيان الحكم و بلحاظ حالتي العلم بالحكم و الجهل به. و لا يرد لو كان بلحاظ مرحلة الثبوت من حيث واقع الحكم الثابت في نفس الأمر. و ذلك لأنّه لا يخلو من كونه في عالم الثبوت؛ إما مختصّاً بالعالمين، أو مشتركاً بينهم و بين الجاهلين. و التقابل بينهما إنّما هو تقابل الايجاب و السلب- و هو التقابل بين الاختصاص و عدمه- لا العدم و الملكة. فاذا لم يثبت الاختصاص و لو لامتناعه، يثبت الاشتراك لا محالة. فاشتراك التكليف ثابت بنفس امتناع أخذ الاختصاص في متعلق الحكم و عدم دليل منفصل عليه.

و هذا الكلام متين جدّاً.

و يرد عليه: أنّ تقابل العدم و الملكة إنّما ادّعاه المحقق النائيني بين الاطلاق و التقييد، و هو المانع من التمسك باطلاق الخطاب اللفظي لنفي قيد امتنع تقييد الخطاب به، لا تقابل العدم و الملكة بين العلم و الجهل و لا بين الاختصاص و

______________________________

(1) و هو الشيخ المظفّر في اصول الفقه: ج 2، ص 35.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 139

الاشتراك.

و لكن الجواب الأساسي: عدم استحالة أخذ العلم و قصد الامتثال و نحوهما من الانقسامات الثانوية في متعلّق الحكم حين تشريعه.

و ذلك لما بيّناه في محله- من علم الاصول- أنّ المستحيل إنّما هو تحقق الخصوصيات المزبورة بوجودها الواقعي في مرتبة التشريع و قبلها بالأخذ في متعلّق الحكم و موضوعه، لا مجرد فرضها المتقوّم عليه تشريع الحكم و إنشاؤه. و

عليه فاطلاقات الكتاب و السنة لا مانع من التمسّك بها لقاعدة الاشتراك.

الاستدلال

بحكم العقل

و قد استُدِل بحكم العقل لاثبات اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل بوجوه، عمدتها وجهان:

الأوّل: لزوم محذور التصويب الباطل من اختصاص الأحكام بالعالمين. و حاصل هذا المحذور: أنّه لو كانت الأحكام مختصّة بالعالمين، ليلزم خلوّ الواقعة من الحكم الثابت في نفس الأمر و دورانه مدار علم المكلفين، و هذا مخالف للضرورة و الاجماع و نصوص الكتاب و السنّة. فلا مناص من الالتزام بثبوت أحكام واقعية ثابتة في نفس الأمر، سواءٌ علم بها المكلّفون، أم لم يعلموا.

و قد أشار إلي هذا المحذور الشيخ الأعظم بقوله: «أن يكون الحكم مطلقاً تابعاً لتلك الأمارة، بحيث لا يكون في حق الجاهل- مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة و عدمها- حكمٌ، فتكون الأحكام الواقعية مختصّةً في الواقع بالعالمين بها، و الجاهل- مع قطع النظر عن قيام أمارةٍ عنده علي حكم العالمين- لا حكم له أو محكومٌ بما يعلم اللّٰه أن الامارة تؤدّي إليه. و هذا تصويب باطل عند أهل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 140

الصواب من التخطئة» «1».

الثاني: لزوم محذور الدور، كما يظهر من كلام المحقق النائيني في بعض تقارير دروسه «2». و حاصله: أنّه لا إشكال في توقف العلم بالتكليف علي إنشائه و جعله. فلو اختص التكليف بالعالمين، ليلزم توقف جعل الحكم علي لحاظ العلم به في متعلّقه، و هذا مستلزم للدور.

و قد أشكل السيد الامام الراحل علي لزوم محذور الدور من اختصاص الحكم بالعالمين.

و حاصله: أنّ المستلزم للدور توقف جعل الحكم علي واقع العلم به، لا توقفه علي مجرد لحاظ العلم به من جانب الشارع الجاعل. و لا نطيل الكلام بالغور في

ذلك، فراجع «3».

هذه هي الوجوه الأربعة المستدل بها لهذه القاعدة. و لكن في تحقق الاجماع في المقام نظرٌ؛ لعدم تعرّض كثيرٍ من الفقهاء لمفاد هذه القاعدة باطلاقه، و علي فرض تحققه يشكل كونه إجماعاً تعبّدياً، بعد إمكان، بل وقوع الاستدلال لها بظواهر النصوص المزبورة و باطلاقات الأدلة و الخطابات و بحكم العقل.

فالعمدة هي الوجوه الثلاثة الأخيرة، و هي الحجّة في المقام، بلا إشكال.

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 1، ص 113.

(2) كتاب الصلاة تقريرات الكاظمي: ج 2، ص 189.

(3) كتاب الخلل في الصلاة/ طبع مؤسسة نشر آثار الامام: ص 24/ مناهج الوصول: ج 1، ص 260- 263.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 141

التطبيقات الفقهية
اشارة

1- مسألة إجزاء الأمارات.

2- من لم يُحسن القراءة بالعربية.

3- لو جمع بين الاختين المملوكتين.

4- لو غرس في أرض الغير باذنه.

5- لو عقد المُحرم علي امرأة جاهلًا بالحكم.

6- لا فرق بين العالم و الجاهل في الاخلال بواجبات الصلاة.

7- فساد المعاوضة بالربا بلا فرق بين العالم و الجاهل.

8- وجوب الكفارة بتناول المفطرات.

9- حكم من صلّي في المغصوب جاهلًا.

10- لو أتمّ المسافر صلاته جاهلًا.

11- حكم الجاهل الغافل عن وجوب الحج بالاستطاعة.

إنّ لهذه القاعدة تطبيقات عديدة في فروع كثيرة من مختلف أبواب الفقه. و قد حكم الفقهاءُ فيها بنفي الفرق بين العالم و الجاهل، و هي واضحة لا حاجة إلي التعرّض إليها لسهولة الوصول. و إنّما المهم موارد منها وقع الخلاف بين الفقهاء في اشتراك الحكم بين العالم و الجاهل. و ينبغي أن نتعرّض إلي نماذج من هذه الفروع.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 142

مسألة إجزاء الأمارات

فمن الفروع الأساسية المترتبة علي قاعدة الاشتراك القول بعدم إجزاء الأمارات مطلقاً- إعادةً و قضاءً- إذا انكشف الخلاف بالعلم. و أما لو انكشف بأمارة اخري، فقد فصّلنا بين الاعادة و القضاء، فقلنا بعدم الاجزاء في الأوّل و بالاجزاءِ في الثاني علي تفصيل. و قد فصّلنا البحث عن ذلك في مبحث الاجزاء في كتابنا «بدائع البحوث». «1»

و إليك نبذة مما حقّقناه هناك:

مقتضي

التحقيق

مقتضي التحقيق في المقام: التفصيل بين الإعادة و القضاء و في الثاني بين ما لو انكشف الخلاف بالعلم و بين ما لو انكشف بأمارة اخري.

أمّا في الإعادة: فالتحقيق فيها عدم إجزاء الأمر الظاهري مطلقاً بلا فرق بين ما لو كان انكشاف الخلاف بالعلم و بين ما لو كان بأمارة اخري.

أما لو كان الكشف بالعلم، فواضح؛ لما سبق من أنّ شأن الأمارة

الانكشاف و الطريقية إلي الواقع، فبعد انكشاف الواقع لا معني لطريقيته.

و أمّا لو كان الانكشاف بأمارة اخري، فلأنّ بقيامها تسقط الأمارة السابقة عن الحجية. فإذا سقطت، يتنجّز التكليف الواقعي بالأمارة اللاحقة في داخل الوقت؛ حيث لا ريب في ثبوت التكليف الواقعي و أنّ الحجة قامت عليه في داخل الوقت فلا محالة يتنجّز بقيام الحجة عليه و يتعيّن الواقع في مؤدّاها.

______________________________

(1) بدائع البحوث في علم الاصول: ج 3، ص 273- 318.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 143

و محذور العسر و الحرج لا يلزم من تبدّل الرأي و الرجوع إلي مجتهد آخر حينئذ؛ لأنّ الإعادة تختص بالواجب الفائت في داخل الوقت، بخلاف القضاء الشامل لكلّ ما فات سابقاً.

أمّا القضاء ففي ما إذا كان الانكشاف بالعلم، لا يمكن القول بالإجزاء؛ لما سبق آنفاً من تبيّن الواقع و تعيّنه في المعلوم بسبب القطع بمخالفة الأمارة السابقة للواقع و محذور العسر و الحرج منتفٍ حينئذ؛ نظراً إلي ندور تبدّل الرأي بالعلم القطعي و عدم حصول العلم بالواقع بفتوي المجتهد الثاني المعدول إليه.

و أمّا إذا انكشف الواقع بأمارة اخري، فالتحقيق إجزاء الأمر الظاهري فيه عن القضاء. و ذلك لمضي وقت العمل بالتكليف الأوّلي و عدم قيام الأمارة اللاحقة في داخل الوقت، حتي يتنجّز التكليف الواقعي بها.

و حينئذ يُحكّم إطلاق دليل حجية الأمارة السابقة؛ نظراً إلي دلالتها علي مشروعية العمل المأتي به باستنادها مطلقاً، حتي لو قامت أمارة علي خلافها في خارج الوقت. و سقوط السابقة عن الحجية بقيام اللاحقة في خارج الوقت، لا ينافي حجّية السابقة في داخل الوقت، فلا محالة يؤخذ بإطلاقها علي النحو المزبور.

و بعبارة اخري: إنّ الأمارة اللّاحقة و إن كانت حجة، و لكن مقتضي

حجيتها سقوط السابقة عن الحجية في ظرف قيام اللاحقة و وجوب العمل باللاحقة في الإتيان بالفرائض في هذا الظرف. و لا إطلاق لها بالنسبة إلي مقتضي حجية السابقة في ظرفها.

و إنّ مقتضي إطلاق حجية الأمارة السابقة مشروعية العمل المأتي به

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 144

باستنادها مطلقاً حتي بعد قيام اللاحقة، و لا إطلاق للّاحقة بالنسبة إليها. و إن شئت فقل: ليست اللاحقة بأظهر من السابقة بالنسبة إلي مقتضي إطلاق حجية السابقة في ظرف قيامها، حتي تُقدّم عليها أو تبطلها و تسقطها عن الحجية بالنسبة إلي ذلك.

هذا مضافاً إلي لزوم العسر و الحرج الشديد علي القول بعدم الإجزاء حينئذ عند تبدّل الرأي و الرجوع إلي مجتهد آخر، و لا سيّما فيما لو عُمل بالفتوي السابقة سنين عديدة.

فتحصّل أنّ التحقيق إجزاء الأمر الظاهري فيما إذا كان انكشاف الخلاف بالعلم مطلقاً، بلا فرق بين الأمارات و الاصول. و أمّا إذا كان الانكشاف بأمارة اخري، فالتحقيق فيه التفصيل بين الإعادة و القضاء، ففي الإعادة عدم الإجزاء مطلقاً و في القضاء الإجزاء.

و أما تعميم عدم الإجزاء إلي الصورة الثانية، فغاية ما يمكن أن يستدل له:

إنّ شأن الطريقية و الكشف في الأمارات يقتضي عدم جواز ترتيب أثر الواقع عليها عند كشف الخلاف؛ نظراً إلي إثبات عدم كونها طريقاً كاشفاً عن الواقع بعد قيام الحجة المعتبرة بالأمارة اللاحقة علي نفي حجية السابقة. و أنّه و إن لا فرق بين الأمارة السابقة و بين اللاحقة من جهة احتمال الخطأ و عدم الإصابة بالواقع؛ حيث لا دافع لاحتمال ذلك في كلّ أمارة، إلّا أنه بقيام الحجة علي مخالفة السابقة للواقع، يتعيّن الطريق الكاشف عن الواقع في الأمارة اللاحقة.

فإنّها كما تكون

حجّة علي كون مؤدّاها حكماً واقعياً، كذلك تكون حجّة علي عدم كون مؤدّي السابقة حكماً واقعياً.

و لكن كل ذلك لا ينافي ما بيّناه في تعليل التفصيل المختار؛ من دلالة إطلاق

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 145

دليل حجية الأمارة السابقة علي مشروعية العمل المأتي به باستنادها، و جواز الاجتزاء به عن الواقع حتي بعد قيام الأمارة اللاحقة، مع ما سبق من الفرق في ذلك بين الإعادة و القضاء، و إن كان الأمر في القضاء أهون بناءً علي احتياجه إلي أمر جديد.

هذا مضافاً إلي لزوم العسر و الحرج من إيجاب القضاء عند تبدل الرأي أو الرجوع إلي مجتهد آخر.

فانّ لزوم العسر و الحرج يكشف عن عدم وجود الحكم المستلزم له في مرحلة الجعل و التشريع، لا أنّه جعل ثمّ ارتفع بعروض الحرج. و ذلك لما أخبرنا سبحانه و تعالي عن عدم جعل حكم حرجي في الشريعة بقوله: «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». «1»

فاذا لم يُجعل في موارد لزوم العسر و الحرج حكماً من جانب الشارع، لا معني لحجية الأمارة اللاحقة عليه، حتي تكشف عن كون الحكم الحرجي مجعولًا في الواقع.

______________________________

(1) الحج: 78.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 146

من لم يُحسن القراءة بالعربية

و منها: من لم يحسن القراءة بالعربية، و لا يتمكن من التعلّم و لا يقدر إلّا علي الملحون. فحكم السيد اليزدي بإجزاء الملحون منه.

قال في العروة: «من لا يقدر إلّا علي الملحون أو تبديل بعض الحروف و لا يستطيع أن يتعلّم، أجزأه ذلك». «1»

و يدل عليه بعض النصوص بالخصوص، مثل معتبرة مسعدة بن صدقة، قال: سمعت جعفر بن محمد عليه السلام يقول:

«إنّك تري من المُحرم من العجم لا يُراد منه ما

يراد من العالم الفصيح، و كذلك الأخرس، في القراءة و التشهد و ما أشبه ذلك، فهذا بمنزلة العجم … ». «2»

و في معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال النبي صلي الله عليه و آله:

«إنّ الرجل الأعجمي من امّتي ليقرأ القرآن بعجميةٍ، فترفعه الملائكة علي عربيّته». «3»

و إنّ مقتضي قاعدة الاشتراك عدم الاجزاء في مفروض المسألة، إلّا أنّ النصّ قد دلّ علي تخصيصها.

و لا يخفي أنّ قول السيد: «و لا يستطيع أنّ يتعلّم … » يشمل غير المتمكن عن التعلّم لضيق الوقت.

و لكنّ الظاهر انصراف المعتبرتين المزبورتين إلي الأعجمي الغير المتمكن عن تعلّم العربية لعجميته، لا غير المتمكّن منه لضيق الوقت.

______________________________

(1) العروة الوثقي: ج 2، ص 513، م 33.

(2) الوسائل: ب 67 من القراءة في الصلاة ح 2.

(3) الوسائل: ب 30 من قراءة القرآن ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 147

و علي أيّ حال يكون قوله: «لا يستطيع أن يتعلّم» ظاهر في عقد المسألة في الجاهل بالحكم؛ أي الجاهل بما يجب رعايته في القراءة من وجوه الاعراب و مخارج الحروف، فهو كالجاهل بما يجب رعايته في الركوع و السجود داخل في الجاهل بالحكم.

لو غرس في أرض الغير باذنه

لو غرس في أرض الغير باذنه علي أن يكون الثمار بينهما حكم الأصحاب ببطلان المغارسة و أنّ الغرس لصاحبه، و لمالك الأرض طلب اجرة أرضه. و حكموا بجواز إزالة الغرس للمالك، و لكن عليه ضمان الخسارة الواردة علي الغارس بالقلع.

و ظاهر كلمات الأصحاب عدم الفرق بين ما إذا كان الغارس و المالك عالمين بالحكم و بين كونهما جاهلين. و لكن احتمل الشهيد الفرق بينهما؛ حيث قال: «و لم يفرّق الأصحاب في إطلاق كلامهم بين العالم

بالبطلان و الجاهل، بل تعليلهم مؤذن بالتعميم. و لا يبعد الفرق بينهما و أن لا اجرة لصاحب الأرض مع علمه، و لا أرش لصاحب الغرس مع علمه» «1».

و قد وافقه المحدث البحراني فقوّي الفرق بين العالم و الجاهل؛ حيث قال:

«و ظاهر كلامهم أنّه لا فرق في ذلك بين العالم بالبطلان، و الجاهل به.

و أنت خبير بأنّه لا يبعد الفرق بين الحالين و تخصيص الحكم المذكور بحال الجهل، و أما مع العلم فانّه لا اجرة للعامل فيما إذا كان الغرس لصاحب الارض و لا لصاحب الارض فيما إذا كان الغرس للعامل، و لا أرش لصاحب الغرس مع عمله، لأنّ الأوّل- مع علمه ببطلان العقد و أنّه لا يستحق الحصة في

______________________________

(1) مسالك الافهام: ج 5، ص 72.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 148

مقابلة عمله- يكون متبرعاً بالعمل حينئذٍ. و مقتضي تعليل وجوب الاجرة بأنّه إنّما عمل لأجل الحصة و لم تسلم له فوجب له الاجرة، لا يجري إلّا في صورة الجهل، كما هو ظاهر.

و الثاني قد أذن للعامل في التصرف في أرضه بالحصة مع علمه بعدم استحقاقها، فيكون في معني الاذن بغير عوض، فكيف يستحق عليه اجرة و الحال هذه» «1».

لو عقد المُحرم علي امرأة جاهلًا بالحكم

إذا عقد المُحرم علي امرأةٍ، ذهب المشهور إلي أنّ المرأة تحرم عليه مؤبّداً إذا كان عالماً بالتحريم، و إن لم يدخل بها، دون ما إذا كان جاهلًا. و مستند المشهور رواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث قال عليه السلام: «و المحرم إذا تزوّج و هو يعلم أنّه حرام عليه لم تحلّ له أبداً» «2». و الرواية ضعيفة بوقوع المثنّي في طريقها؛ لأنّه مجهول لم يُذكر اسمه في الرجال، فضلًا

عن التعرّض إلي حاله.

و في المقام تفاصيل اخري، قد أجاد في تحريرها الشهيد؛ حيث قال في ذيل متن الشرائع- و هو القول المزبور المستفاد من الرواية-:

«هذا هو المشهور بين الأصحاب. و مستنده رواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام، و من جملتها: و المُحرم إذا تزوّج و هو يعلم أنّه حرام عليه، لا تحلّ له أبداً، و هي دالّة باطلاقها علي التحريم مع العلم و إن لم يدخل، و بمفهومها علي عدم التحريم مع عدمه و إن دخل، و يعتضد المفهوم بالأصل فيتقوّي من

______________________________

(1) الحدائق الناظرة: ج 21، ص 392- 393.

(2) الوسائل: ب 31، من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 149

ضعفه. و إنّما الكلام في حالة العلم، لضعف الرواية، إلّا أنّه لا قائل بعدم التحريم مطلقاً، و إن اختلفت كلمتهم في الشرط، فانّ الأكثرين اعتبروا ما ذكره المصنّف.

و منهم من اقتصر علي حالة العلم كالمفيد، وقوفاً مع الرواية، و منهم من أطلق التحريم من غير فرق بين العالم و غيره، كسلّار و الصدوق، و جماعة أطلقوا التحريم مع العلم و مع الدخول في حالة الجهل، منهم ابن ادريس، و قوّاه فخر الدين في شرحه إلي غير ذلك من الاختلافات. و ليس في الباب من النصوص سوي ما ذكرناه» «1».

و لكن الأقوي ما ذهب إليه المشهور؛ نظراً إلي انجبار ضعف سند رواية زرارة بعملهم. و قد بنينا علي انجبار ضعف الرواية بعمل المشهور، و استوفينا البحث فيه و الاستدلال له في كتابنا مقياس الرواية، فراجع.

و بهذه الرواية تقيَّد إطلاقات التحريم كصحيحة محمد بن قيس و خبر الخزاعي و موثق ابن بكير «2» و خبر زرارة. و

قد نقل هذه الروايات كلها في الحدائق «3». و قد جمع الشيخ بين أخبار المقام بما بيّناه و استجوده في الحدائق- بعد نقله- بقوله: «فما ذكره المحقق و نحوه غيره- من بيان حكم العالم و الجاهل- فالظاهر أنّهم قد تبعوا الشيخ فيما قدمنا نقله عنه من الجمع بين الأخبار، و هو جيّد وجيه، كما لا يخفي علي الفطن النبيه» «4».

______________________________

(1) مسالك الافهام: ج 7، ص 344.

(2) الوسائل: ج 9، ص 92، ح 3، و ص 91، ح 1 و 2.

(3) الحدائق الناضرة: ج 23، ص 602- 603.

(4) الحدائق الناضرة: ج 23، ص 605.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 150

لا فرق بين العالم و الجاهل في الاخلال بواجبات الصلاة

المشهور بين الفقهاء أنّه لا فرق بين العالم و الجاهل في بطلان الصلاة بالاخلال في واجباتها عمداً، بل ادّعي عليه الاجماع، كما قال في الجواهر، «و كيف كان فلا فرق بين العالم بالحكم الشرعي التكليفي و الوضعي و الجاهل بهما أو بأحدهما معذوراً كان الجاهل أو غير معذور علي الأصح في الأخير، و لذلك قال: و كذا أي تبطل صلاته لو فعل ما يجب تركه أو ترك ما يجب فعله جهلًا بوجوبه أو بتوقف الصحة عليه، فيكون كالعامد غير معذور، و عن الدرة الاجماع عليه، كما عن شرح الألفية للكركي أن جاهل الحكم عامد عند عامة الأصحاب في جميع المنافيات من فعل أو ترك» «1».

و إنّما استثنوا من ذلك الجهر و الاخفات، كما أشار إليه في الجواهر بقوله:

«إلّا الجهر و الاخفات فانه يعذر الجاهل بذلك إجماعاً محصلًا و منقولًا كما تبين في محله من غير فرق فيه بين المتنبه و غيره» «2».

هذا، و لكن قوّي صاحب العروة التفصيل بين العالم و الجاهل و

حكم في الجاهل بالصحة إلحاقاً له بالناسي في غير الخمس المذكور في حديث لا تعاد.

قال: «إذا حصل الاخلال- بزيادة أو نقصان- جهلًا بالحكم، فان كان بترك شرط ركن- كالاخلال بالطهارة الحدثية، أو بالقبلة؛ بأن صلي مستدبراً أو إلي اليمين أو اليسار، أو بالوقت؛ بأن صلّي قبل دخوله، أو بنقصان ركعة أو ركوع أو غيرهما من الاجزاء الركنية، أو بزيادة ركن-، بطلت الصلاة. و إن كان

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 229.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 230.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 151

الاخلال بسائر الشروط أو الأجزاء زيادة أو نقصاً، فالأحوط الالحاق بالعمد في البطلان، لكن الأقوي إجراء حكم السهو عليه» «1».

و الوجه فيه ظاهراً تقييد إطلاقات الجزئية و الشرطية- الشاملة للجاهل بالحكم- بحديث «لا تعاد»؛ إذ دلّ بمفهومه علي عدم بطلان الصلاة بالاخلال عن غير علم و عمد في غير الخمسة؛ بدعوي عدم انصرافه إلي الاخلال عن سهو و نسيان كما عليه المشهور، و إلّا تبقي الاطلاقات المزبورة علي حالها من غير تقييد بحال العلم، كما هو المشهور؛ نظراً إلي كون الاطلاق ثبوتياً و ثابتاً بمجرد عدم الاختصاص بالعالم و التقابل بينه و بين الاختصاص بالعالم هو الايجاب و السلب، لا العدم و الملكة حتي يرد إشكال المحقق النائيني من امتناع الاطلاق لأجل امتناع التقييد، كما بيّنا ذلك مفصلًا في مدرك القاعدة.

فساد المعاوضة بالربا بلا فرق بين العالم و الجاهل

من الفروع المترتبة علي هذه القاعدة في أبواب المعاملات فساد المعاوضة الربوية بلا فرق بين العالم بالتحريم و بين الجاهل به، بل و لا بين الجاهل القاصر و المقصّر.

و قد استظهر ذلك صاحب الجواهر من كلمات الأصحاب؛ حيث قال: «و أما لو كان الربا في عقد المعاوضة، فالمتّجه حينئذٍ

فساد المعاملة، فيبقي كلّ من العوضين علي ملك صاحبه لا الزيادة خاصة، إذ الفرق بينه و بين القرض واضح، و حينئذٍ يجري فيه ما يجري في باقي المعاملات الفاسدة من غير فرق أيضاً بين العالم و الجاهل إلّا في الاثم و عدمه، إذا كان غير مقصّر في البحث و

______________________________

(1) العروة الوثقي: المسألة الثالثة من الخلل الواقع في الصلاة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 152

التفحّص و لو لأنّه غير متنبّه، إلّا أنّ الاصحاب هنا لم يفرقوا بين الموضوعين، فأطلقوا وجوب ردّ الزيادة إذا كان حال تناولها عالماً بالتحريم، بل نفي بعضهم عنه الخلاف فيه، بل عن المقداد و الكركي الاجماع عليه» «1».

قوله: «لم يفرّقوا بين الموضوعين»؛ أي بين الجاهل القاصر و المقصّر، و قوله: «إذا كان حال تناولها عالماً بالتحريم»؛ أي ارتفع جهله بالتحريم بعد تمام المعاوضة و انتقال الزيادة إليه حينما أراد أن يتناولها؛ أي يتصرّف فيها.

وجوب الكفارة بتناول المفطرات

نُسب إلي المشهور وجوب الكفارة علي من تناول المفطرات عمداً، بلا فرق بين العالم بالحكم و بين الجاهل به؛ لعدم منافاة الجهل للعمد. و من هنا قالوا: الجاهل كالعامد. و استندوا في ذلك اطلاقات وجوب الكفارة علي من أفطر متعمّداً.

و لكن قوّي في العروة الفرق بين العالم و الجاهل، و لا سيّما القاصر فنفي وجوب الكفارة عن الجاهل.

و استدلّ له في المستمسك بقوله: «لما تقدّم من موثق أبي بصير و زرارة عن رجل أتي أهله و هو في شهر رمضان أو أتي أهله و هو محرم، و هو لا يري إلّا أن ذلك حرام له، قال عليه السلام: ليس عليه شي ءٌ، بناء علي عمومه الشامل للقاصر و المقصر- كما هو الظاهر- لترك الاستفصال، مع عدم

القرينة علي التعيين» «2».

و لكن ناقش في شمول الموثقة للجاهل المقصّر الذي يحتمل الخلاف و يتردّد في الحكم، بدعوي انصرافها إلي القاطع الذي لا يحتمل الخلاف، و هو

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 23، ص 397.

(2) مستمسك العروة: ج 8، ص 341.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 153

الجاهل القاصر؛ بقرينة قول الراوي: «و هو لا يري إلّا أنّ ذلك حلال له».

قال قدس سره: «نعم موردها من كان يري أنّه غير مفطر، فتشمل القاطع بالحِلّ مطلقاً و المتردد الذي يحكم عقله بجواز الارتكاب، بناء علي أنّ المراد بالحل الأعم من الواقع و الظاهر. و لا تشمل المتردد الذي لا يحكم عقله بالحل، فالتعدي إليه لا يخلو من إشكال، بل الرجوع إلي عموم الكفارة فيه أنسب بالقاعدة» «1» و إنّ كلامه متين لا غبار عليه.

حكم من صلّي في المغصوب جاهلًا

إذا صلّي أحدٌ في المغصوب جاهلًا باشتراط إباحة اللباس أو بأصل حرمة الغصب، حَكَم جماعة من الفقهاء ببطلان صلاة الجاهل حينئذٍ و أنّه كالعامد مطلقاً، و فصل في العروة بين الجهل بالحكم الوضعي- و هو اشتراط إباحة اللباس في صحة الصلاة- و بين الجهل بالحكم التكليفي- و هو حرمة أصل الغصب- فحكم في الأوّل بالبطلان و في الثاني بالصحة؛ حيث قال: «فلو صلّي في المغصوب و لو كان خيطاً منه عالماً بالحرمة عامداً بطلت و إن كان جاهلًا بكونه مفسداً، بل الأحوط البطلان مع الجهل بالحرمة أيضاً و إن كان الحكم بالصحة لا يخلو عن قوّة» «2».

و علّل ذلك في المستمسك- بعد نقل القول المزبور عن جماعة من الفقهاء- بهذه القاعدة، و نفَي الفرق بين الجاهل القاصر و المقصّر؛ حيث إنّه- في ذيل كلام صاحب العروة المزبور- قال: «و في القواعد،

و عن المنتهي: البطلان مع جهل الحكم، لأنّ التكليف لا يتوقف علي العلم، و إلّا لزم الدور المحال. و مقتضي

______________________________

(1) المصدر.

(2) العروة الوثقي: ج 1، الشرط الثاني من شرائط لباس المصلّي.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 154

إطلاقهم الصحة و البطلان عدم الفرق بين القاصر و المقصر.

و التحقيق: أنّ الالتفات و الغفلة و العلم و الجهل مما لا دخل لها في التكليف، لتأخرها عنه رتبة، بل التكليف مشترك بين الملتفت و الغافل و العالم و الجاهل، فانه يغفل عنه مرة و يلتفت إليه اخري، و يعلم به تارة و يجهل اخري. و إنّما العناوين المذكورة دخيلة في تنجز التكليف و عدمه، و استحقاق العقاب علي مخالفته و عدمه» «1».

لو أتمّ المسافر صلاته جاهلًا

المعروف بين الأصحاب صحة صلاة المسافر لو أتمّها عن جهل بالحكم، بل ادّعي الاجماع عليه، كما أشار إليه السيد الحكيم، «2» في ذيل فتوي السيد اليزدي بذلك بقوله: «و إن كان جاهلًا بأصل الحكم و أنّ حكم المسافر التقصير، لم تجب عليه الاعادة، فضلًا عن القضاء» «3».

و قد دلّ علي ذلك صحيح زرارة و محمد بن مسلم، قالا: «قلنا لأبي جعفر عليه السلام رجل صلي في السفر أربعاً أو لا؟ قال: إن كان قرأت عليه آية التقصير و فسّرت له فصلّي أربعاً أعاد، و إن لم يكن قرأت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه» «4».

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقي: ج 5، ص 283- 284.

(2) مستمسك العروة: ج 8، ص 159.

(3) العروة الوثقي: المسألة الثالثة من أحكام صلاة المسافر.

(4) الوسائل: ب 17، من صلاة المسافر، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 155

حكم الجاهل الغافل عن وجوب الحج بالاستطاعة

إذا كان المستطيع جاهلًا بحكم وجوب الحج علي المستطيع جهلًا مركباً، فقد حكم السيد الخوئي بسقوط وجوب الحج عليه إذا التفت بعد زوال الاستطاعة. قال:

«إذا كان عنده ما يفي بمصارف الحج لكنه معتقد بعدمه، أو غافلًا عنه، أو كان غافلًا عن وجوب الحج عليه غفلةَ عذرٍ، لم يجب عليه الحج، و أما إذا كان شاكاً فيه أو كان غافلًا عن وجوب الحج عليه غفلة ناشئة عن التقصير ثمّ علم أو تذكر بعد أن تلف المال فلم يتمكن من الحج فالظاهر استقرار وجوب الحج عليه إذا كان واجداً لسائر الشرائط حين وجوده» «1».

و قد عرفت من كلامه أنّه فصّل في المقام بين الجاهل القاصر و بين الجاهل المقصر. و قد علّل ذلك- علي ما في تقريرات درسه بعد ما نقل عن

السيد اليزدي استقرار وجوب الحج مطلقاً و عن المحقق القمي عدم وجوب الحج مطلقاً- بقوله:

«و الصحيح التفصيل- كما في المتن- بين الجهل البسيط و المركب. فان كان الجهل جهلًا بسيطاً و كان شاكاً، فالظاهر استقرار وجوب الحج عليه؛ لما حقق في محله، من أنّ رفع الحكم في مورده حكم ظاهري لا ينافي وجوب الحج و استقراره عليه واقعاً؛ إذ العلم بالاستطاعة لم يؤخذ في موضوع وجوب الحج، و لا مانع من توجه التكليف إليه لتمكّنه من الاتيان به و لو علي سبيل الاحتياط.

و بعبارة اخري: في مورد الجهل البسيط الذي كان يتردد و يشك في أنّه مستطيع أم لا، إذا كان اعتماده علي أصل شرعي يعذره عن ترك الواقع ما دام

______________________________

(1) المعتمد في كتاب الحج: ج 3، ص 71.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 156

جاهلًا به، إذا انكشف الخلاف و بان أنّه مستطيع، تنجز عليه التكليف الواقعي، كسائر موارد انكشاف الخلاف في الاحكام الظاهرية.

بخلاف ما لو كان جاهلًا بالجهل المركب و كان معتقداً للخلاف؛ فان التكليف الواقعي غير متوجه إليه؛ لعدم تمكّنه من الامتثال حتي علي نحو الاحتياط. فانّ من كان قاطعاً بالعدم لا يمكن توجه التكليف إليه؛ لعدم القدرة علي الامتثال.

و ما يقال من أنّ الأحكام مشتركة بين العالم و الجاهل، فانما هو في مورد الجهل البسيط الذي يتمكن من الامتثال في مورده لا الجهل المركب و القطع بالخلاف الذي لا يتمكن من الامتثال أصلًا» «1».

و الفروع المترتّبة علي هذه القاعدة في مختلف أبواب الفقه كثيرةٌ، فوق حدّ الاحصاء في المقام.

______________________________

(1) المصدر: ص 72.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 157

«قاعدة» «الإكراه»

اشارة

مفاد القاعدة

مدرك القاعدة

التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد

الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 158

مفاد القاعدة

اشارة

1- التعريف اللغوي و الاصطلاحي.

2- نظرة إلي كلمات الفقهاء في تعريف الاكراه.

3- بيان الفرق بين الاكراه و الاجبار و الاضطرار.

التعريف اللغوي و الاصطلاحي

لفظ الاكراه في اللغة جاءَ بمعني حمل الغير علي ما يكرهه و لا يحبّه و لا يطيّب نفسه به. قال الخليل: «أكرهتُه:

حملتُه علي أمرٍ و هو كارهٌ» «1».

و قال ابن فارس: «كره: - الكاف و الراءُ و الهاء- أصلٌ صحيح واحد يدل علي خلاف الرضا و المحبّة» «2».

و لفظ الاكراه إنّما استعمل في اصطلاح الفقهاء في مقابل الرضا و طيب النفس، لا في مقابل الارادة و الاختيار.

بيان ذلك: أنّ قصد المكلّف إلي أيّ فعل اختياري؛ إمّا أن يكون عن رضاه و طيب نفسه، و إمّا بسبب خوف علي نفسه أو ماله، من غير رضاه و لا طيب نفسه. ففي الصورة الثانية يصدق عنوان الاكراه. و يقال: إنّه مكره في فعله.

فالاكراه: هو التخويف بالوعيد و إخافة الغير بتهديده بقتله و ضربه و إسقاط عرضه و إحراق بيته و إتلاف ماله، و نحو ذلك مما يخاف منه علي نفسه أو عرضه أو ماله أو متعلّقيه.

______________________________

(1) كتاب العين: ج 3، ص 1570.

(2) معجم مقائيس اللغة: ج 5، ص 172.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 159

نظرةٌ إلي كلمات الفقهاء في تعريف الإكراه

قال الشيخ الطوسي: «و أما بيان الاكراه، فجملته أنّ الاكراه يفتقر إلي ثلاث شرائط. أحدها: أن يكون المكرِه قاهراً غالباً مقتدراً علي المكرَه، مثل سلطان أو لصّ أو متغلّب. و الثاني: أن يغلب علي ظنّ المكرَه: أنّه إن امتنع من المراد منه، وقع به ما هو متوعّد به. و الثالث: أن يكون الوعيد بما يستضرّ به في خاصّة نفسه.

و ما الذي يلحقه به ضرر؟ علي قولين؛ قال قوم: الوعيد مثل قتل أو قطع. و ما عداهما من الضرب و الشتم و أخذ المال، فليس باكراه. و الثاني: - و هو

الصحيح عندهم- أنّ جميع ذلك؛ أعني القتل و الضرب و الشتم و أخذ المال، إكراه في الجملة.

فمن قال بالأوّل، فلا كلام و لا يختلف ذلك باختلاف النّاس. و من قال إنّ جميع ذلك إكراه، فعلي هذا يختلف باختلاف صفة المكره. فإن كان من النّاس الذين لا يبالون بالشّتم فالاكراه القتل و القطع و أخذ المال لا غير، و أما الضرب و الشّتم فانّ هؤلاء لا يعدّون الشتم عاراً و لا ذلًا، و يعدُّون الضرب و الصّبر عليه فتوةً و جلادةً. و إن كان من أهل الصيانات و المروّات، فالضرب و الشتم إكراه في حقّهم، و هذا القول أقرب و أقوي عندنا.

فأمّا إن كان الوعيد بنزول الضرر بالغير مثل أن يخوَّف بأخذ مال الغير و بضرب الغير و قتل الغير، فلا يكون إكراهاً إلّا إذا كان ذلك الغير يجري مجراه مثل ولده و والده» «1». قوله: جلادة؛ أي صلابة.

و قال في جامع المقاصد: يتحقق الاكراه بالخوف علي النفس أو المال و إن

______________________________

(1) المبسوط: ج 5، ص 51 و 52.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 160

قلّ، أو العرض إن كان من أهل الاحتشام» «1».

و قد عرّف السيد المرتضي الاكراه بقوله: «الاكراه هو حمل العاقل علي الفعل الشاقّ بالتخويف، أو علي ترك الفعل علي وجه يخرجه عن داعيه الأصلي مع سقوط المدح و الذم» «2».

و قال الشيخ الأعظم: «إنّ حقيقة الاكراه لغة و عرفاً حمل الغير علي ما يَكرهه. و يعتبر في وقوع الفعل من ذلك الحمل اقترانه بوعيد منه مظنون الترتّب علي ترك ذلك الفعل، مضرّ بحال الفاعل أو متعلّقه نفساً أو عرضاً أو مالًا». «3»

و قال في التنبيه الثاني من تنبيهات الاكراه: «إن

الاكراه يتحقق بالتوعّد بالضرر علي ترك المكره عليه ضرراً متعلّقاً بنفسه أو ماله أو عرضه أو بأهله ممّن يكون ضرره راجعاً إلي تضرّره و تألّمه». «4» و لا يخفي أنّ لفظ الاكراه و الاستكراه في النصوص بمعني واحد.

و كلامه متينٌ، إلّا أن مطلق الضرر ليس بملاك، بل يعتبر في الاكراه ضررٌ فاحش أو موجب لسقوط عرضه. و هذا أمر نسبي بالنسبة إلي حالات الأشخاص و تمكّنهم المالي و وجاهتهم الاجتماعية و السياسية، كما أشار إليه شيخ الطائفة. فربّ وعيد يكون إكراهاً بالنسبة إلي شخص، و لا يكون إكراهاً في حق غيره.

و علي أيّ حالٍ فالفعل الصادر من المكره اختياريٌ، و إنّ الاكراه غير الاجبار و القهر السالب للاختيار.

______________________________

(1) جامع المقاصد: ج 9، ص 36.

(2) رسائل المرتضي: ج 2، ص 263.

(3) كتاب المكاسب: ص 119، كتاب البيع: في مسألة ذكر الاختيار من شرائط المتعاقدين.

(4) المصدر: ص 58، المسألة السادسة و العشرون، التنبيه الثاني من تنبيهات الاكراه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 161

و من هنا وقع البحث في صحة معاملة المكرَه؛ لأنّ فعله اختياري له و مستندٌ إليه عرفاً، إلّا أنّه لم يصدر عن رضاه و طيب نفسه، بل عن الخوف علي نفسه أو ماله بسبب وعيد المكرِه و تهديده.

و ليس المراد مطلق الرضا و الطيب النفساني، بل المقصود الرضا المعاملي في المعاملات و الرضا بالفعل الصادر منه في غير المعاملات، و إلّا فالمضطر لا تطيب نفسه بالمعاملة الاضطرارية، و لكنه ليس بمكره و لا بمجبور و يصح معاملته؛ لحصول الرضا المعاملي منه بالعقد.

بيان الفرق بين الاكراه و الاجبار و الاضطرار

اشارة

و حاصل الكلام: إنّ الاكراه غير الاجبار و القهر السالب للاختيار و غير الاضطرار.

فههنا ثلاث عناوين.
أحدها: الاجبار

، و هو القهر السالب للاختيار؛ بأن يكون الفاعل مقهوراً مجبوراً علي الفعل، و غير قاصد لفعله و لا قادر علي تركه، فحقيقة الاجبار سلب القدرة و الاختيار و قصد الفعل. فليس في الاجبار تمكن و لا اختيار و لا قصد.

و يؤيّده خبر ابن سنان عن أبي عبد اللّه، قال: «قلت له: أصلحك اللّٰه فما فرقٌ بين الجبر و الاكراه؟ فقال عليه السلام: الجبر من السلطان و يكون الاكراه من الزوجة و الامّ و الأب، و ليس ذلك بشي ء» «1».

و ذلك لأنّ الجبر- من السلطان القاهر بالسيف و السوط و الحبس- سالب للاختيار غالباً، و لكن الاكراه من الزوجة و الام و الأب يكون بالتهديد اللفظي و لا يسلب الاختيار غالباً.

و لكن هذا الخبر ضعيف سنداً؛ لوقوع عبد اللّه بن القاسم الحارثي البطل في

______________________________

(1) الوسائل: ب 16، من كتاب الايمان، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 162

سنده و هو كذّاب ضعيف. قاله النجاشي و ابن الغضائري. و من هنا عبّرنا عنه بالخبر، و لكن لا حاجة لاثبات الفرق بينهما إلي هذا الخبر، و الأمر في التأييد سهل.

ثانيها: الاكراه،

و هو القهر غير السالب للاختيار و القصد؛ بأن كان الفاعل مختاراً في فعله و قاصداً لإتيانه، إلّا أنّ قصده للفعل لا يكون لأجل رضا قلبه و طيب نفسه، بل إنّما هو بسبب خوفه علي نفسه أو ماله أو عرضه لأجل تهديد غيره و توعيده إيّاه؛ بمثل قوله: «لو لم تفعل كذا لأقتلنّك»، أو «لُاحرقنَّ بيتك»، أو «لأقذفنّك بالزنا و اللواط في الملأ العام».

و قد أجاد السيد الخوئي في بيان حقيقة الاكراه بمناسبة التعليل لبطلان صوم المكرَه علي الافطار؛ حيث قال:

«فلو تناول المفطر باختياره،

و لكن بغير طيب النفس، بل لإكراه الغير و دفعاً لضرره و توعيده بطل صومه لصدوره عن العمد و الاختيار، فتشمله إطلاقات الأدلة؛ فانّ الاختيار، له معنيان. تارة: يطلق في مقابل عدم الارادة، و اخري: في قبال الاكراه؛ أي بمعني الرضا و طيب النفس و بما أنّ الفعل في المقام صادر عن الارادة، فهو اختياري له بالمعني الأوّل، فيكون مصداقاً للعمد المحكوم بالمفطرية في لسان الأدلة. نعم التحريم مرفوع في ظرف الاكراه بمقتضي حديث الرفع. و أما المفطرية، فلا يمكن رفعها بالحديث؛ ضرورة أنّ الأمر بالصوم قد تعلق بمجموع التروك من أول الفجر إلي الغروب. و ليس كل واحد من هذه التروك متعلقاً لأمر استقلالي، بل الجميع تابع للأمر النفسي الوجداني المتعلق بالمركب؛ إن ثبت، ثبت الكل، و إلّا فلا. فان الأوامر الضمنية متلازمة ثبوتاً و سقوطاً بمقتضي فرض الارتباطية الملحوظة بينها، كما في أجزاء الصلاة و غيرها من ساير العبادات.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 163

فاذا تعلق الاكراه بواحد من تلك الاجزاء، فمعني رفع الأمر به رفع الأمر النفسي المتعلق بالمجموع المركب؛ لعدم تمكنه حينئذٍ من امتثال الأمر بالاجتناب عن مجموع هذه الامور. فاذا سقط ذلك الأمر بحديث الرفع، فتعلُّق الأمر حينئذٍ بغيره- بحيث يكون الباقي مأموراً به، كي تكون النتيجة سقوط المفطرية عن خصوص هذا الفعل-، يحتاج إلي الدليل. و من المعلوم إنّ الحديث لا يتكفّل باثباته؛ فان شأنه الرفع لا الوضع، فهو لا يتكفل لنفي المفطرية عن الفعل الصادر عن اكراه لينتج كون الباقي مأموراً به و مجزياً، كما هو الحال في الصلاة. فلو اكره علي التكلم فيها، فمعناه أنّه في هذا الآن غير مأمور بالاتيان بالمقيد بعدم التكلُّم.

و أما الأمر بالباقي فكلّا» «1».

ثالثها: الاضطرار،

و هو لابديّة الاتيان بفعل لأجل عروض ضرورة من غير ناحية التهديد و التوعيد؛ بأن يعزم الفاعل علي الفعل و يأتي به باختياره و إرادته و قصده و رضاه؛ لأجل ضرورة طارئة لا بد من رفعها، كعلاج مرض نفسه أو والديه أو ولده أو زوجته أو دفع خطر هلاك عن نفسه أو غيره و نحو ذلك من الضرورات التي تبيح المحظورات. و قد بحثنا عن ذلك مفصّلًا في قاعدة الاضطرار في المجلّد الأوّل من كتابنا «مباني الفقه الفعّال»، فراجع.

أربع نكات مهمّة
اشارة

و ينبغي في بيان مفاد هذه القاعدة التنبيه علي أربعة امور:

أحدها: يستفاد من كلمات بعض الفقهاء- ممّن تقدّم نقل كلامه- أنّه يعتبر في حقيقة الاكراه في الاصطلاح- مضافاً إلي ما مرّ- كون المتوعَّد به أكثر ضرراً و أشد مشقّةً من الفعل المكره عليه.

______________________________

(1) كتاب الصوم: ج 1، ص 257- 285.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 164

فلو كان المتوعّد به أقل ضرراً أو مساوياً مع الفعل المكره عليه من حيث الضرر و المشقة، لا يتحقق الاكراه.

و قد يناقش بأنّ فعل المكره عليه في هذا الفرض أيضاً لا يصدر عن طيب نفس المكرَه، بل إنّما لإخافة الغير و تهديده، فالاكراه متحقق حينئذٍ و يمكن الجواب أنّ العقل لا يري حينئذٍ مُلزماً لموافقة المكرِه (بالكسر) و لا ضرورة في خصوص المكره عليه من فعل أو ترك؛ لعدم دفع ضرر بذلك، بل يري الضرر في الموافقة. فلا يدخل في نطاق أدلّة الاكراه.

ثانيها: إنّه قد استثني الفقهاء عن قاعدة الاكراه الدماء،

فحكموا بأنّه لا حكم للاكراه فيها؛ بمعني أنّه لا يرتفع الحكم الأوّلي- و هو حرمة قتل النفس المحترمة- بسبب الاكراه عليه، كما صرّح به السيد المرتضي و الشيخ و المحقق و غيرهم. «1»

ثالثها: أنّه لا إشكال في رفع العقاب بالاكراه،

بل هو المتيقن من مفاد الأدلّة- مثل حديث الرفع-، بل ادُّعي عليه الاجماع «2». و إنّما الكلام واقع بين الفقهاء في رفع الآثار الوضعية من الصحة و البطلان و المانعية و الشرطية و الملكية و الزوجية و النقل و الانتقال، و غيرها من الوضعيات في العبادات و المعاملات.

و المشهور المعروف عدم صحة معاملات المكرَه (بالفتح).

رابعها: أنّه قد تحصّل مما سبق في تحريره مفاد هذه القاعدة: أنّ الاكراه حمل الغير علي فعل أو ترك باخافة أو تهديد

يوجب توجّه ضرر بدني أو مالي

______________________________

(1) رسائل المرتضي: ج 2، ص 93، و المبسوط: ج 2، ص 227. و شرايع الاسلام: ج 4، ص 975.

(2) كما ادّعاه السيد المراغي في العناوين الفقهية: ج 2، ص 704.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 165

أو عرضي متعلّق به أو بمتعلقيه.

فما ليس من ناحية حمل الغير من الضرورات، لا يدخل في قاعدة الاكراه بل يدخل في قاعدة الاضطرار. و ما لم يكن من الحمل بمجرد إخافة أو تهديد، بل بإلجاء و قهر سالب للاختيار لا يكون من قبيل قاعدة الاكراه، بل من قبيل قاعدة الاجبار.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 166

مدرك القاعدة

اشارة

1- الاستدلال للقاعدة بالكتاب و السنة.

2- الاستدلال للقاعدة بحكم العقل.

3- الاستدلال للقاعدة بالاجماع.

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بالكتاب و السنة.

الاستدلال للقاعدة بالكتاب

أما الكتاب:

فقد دلّ منه علي مفاد هذه القاعدة قوله تعالي: «إِنَّمٰا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْكٰاذِبُونَ* مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ، وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ». «1»

وقع الخلاف بين المفسرين في كون «مَنْ كَفَرَ … » بدلًا من الكاذبين كما عن الزجاج، أو كونه شرطاً و جوابه محذوف لدلالة قوله: «وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ»، كما عن الكوفيين. و لكن الأنسب بالسياق هو القول الأوّل.

و علي أيّ حال لا إشكال في دلالة قوله: «إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ» علي جواز التفوّه بالكفر بسبب الإكراه، فضلًا عن ساير المحرمات،

______________________________

(1) النحل: 105- 106.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 167

فيدل علي جوازها عند الاكراه بالفحوي القطعي.

و منها: قوله تعالي: «وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ، فَإِنَّ اللّٰهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرٰاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «1»، و دلالتها علي المطلوب واضحة.

الاستدلال بالسنة

و أما السنة:

فقد دلّت عدّة نصوص علي مفاد هذه القاعدة.

و من هذه النصوص: صحيح حريز عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال النبي صلي الله عليه و آله:

«رفع عن امّتي تسعة أشياء … ما اكرهوا عليه» «2». لا إشكال في سند هذا النبوي؛ إذ روي الصدوق في الخصال بسنده الصحيح عن النبي صلي الله عليه و آله.

و إنّ المتيقّن من مدلول هذا النبوي رفع العقاب، بل ظاهر في ذلك؛ بقرينة رفع ما لا يعلمون و الطيرة و الحسد. و ذلك لإجماع الفقهاء علي عدم رفع بعض آثار ما تركه الجاهل من الفرائض العبادية، كالاعادة و

القضاء و الكفارة، كما لا معني لرفع الآثار الوضعية عن الطيرة و الحسد.

و لكن لا بد من رفع اليد عن هذا الظهور. و ذلك بقرينة ما ورد في بعض النصوص من استشهاد الامام عليه السلام بهذا النبوي لبطلان الحلف بالطلاق و العتاق عن استكراه.

كما في صحيح صفوان و البزنطي عن أبي الحسن عليه السلام: «في الرجل يستكره علي اليمين فيحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما يملك أ يلزمه ذلك؟ فقال: لا، قال رسول

______________________________

(1) النور: 33.

(2) الوسائل: ب 30 من أبواب خلل الصلاة، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 168

اللّٰه صلي الله عليه و آله: وضع عن أمّتي ما اكرهوا عليه و ما لم يطيقوا و ما أخطئوا» «1».

و من هذه النصوص ما دلّ علي رفع حرمة اليمين الكاذبة و جواز الحلف باللّٰه كاذباً عند الخوف عن الظالم الطاغوت.

مثل صحيح زرارة، قال: قلت لأبي جعفر: «نمرّ بالمال علي العشّار، فيطلبون منّا أن نحلف لهم و يخلّون سبيلنا، و لا يرضون منّا إلّا بذلك. قال عليه السلام: فاحلف لهم، فهو أحلي من التمر و الزبد» «2».

و منها: صحيح أبي بكر الحضرمي، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل حلف للسلطان بالطلاق و العتاق؟ فقال: إذا خشي سيفه و سطوته، فليس عليه شي ءٌ يا أبا بكر إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يعفو و الناس لا يعفون» «3»؛ فإنّ عموم قوله عليه السلام: «ليس عليه شي ءٌ» يدل- بدلالة النكرة في سياق النفي- علي نفي الكفارة أيضاً.

و من هذه الطائفة ما دلّ علي جواز الحلف باللّٰه كاذباً لإنجاء الأخ المؤمن، بل لحفظ ماله. و هذا المدلول ينفي ما اعتبره بعض الفحول في مصبّ قاعدة

الاكراه، من ورود الضرر المتوعّد به و توجّهه إلي نفس المكره أو متعلقيه من الأهل و العيال و الوالدين و الأولاد.

و من النصوص الدالة علي ذلك صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام- في حديث- قال: «سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك، فحلف. قال عليه السلام: لا جناح عليه. و عن رجل يخاف علي ماله من السلطان

______________________________

(1) الوسائل: ب 12، من كتاب الايمان، ح 12.

(2) الوسائل: ب 12، من كتاب الأيمان، ح 6.

(3) المصدر: ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 169

فيحلفه لينجو به منه. قال عليه السلام: لا جناح عليه. و سألته: هل يحلف الرجل علي مال أخيه كما يحلف علي ماله؟ قال عليه السلام: نعم» «1».

و منها: معتبرة السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال:

«قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله: احلف باللّٰه كاذباً، و نجّ أخاك المؤمن» «2».

وجه التعبير بالمعتبرة وقوع النوفلي في سندها؛ لما بنينا علي اعتبار روايات النوفلي و قد ذكرنا وجه ذلك في كتابنا «مقياس الرواة»، و بيّنا وجه تطبيق المبنا المزبور علي النوفلي في بعض كتبنا الفقهية بالمناسبة.

و منها: ما أرسله الصدوق جازماً بقوله: «و قال الصادق عليه السلام: اليمين علي وجهين- إلي أن قال-: فأما الذي يوجر عليها الرجل إذا حلف كاذباً و لم تلزمه الكفارة، فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرءٍ مسلم أو خلاص ماله من متعدٍّ يتعدي عليه، من لُصّ أو غيره» «3».

و لا يخفي أنّ جوازم مرسلات الصدوق بمكانة من القرب إلي درجة الاعتبار.

هذه النصوص كلها قد دلّت باطلاقها؛

أوّلًا: علي رفع الحكم الأوّلي و جواز مخالفته عند

الخوف الناشي من إكراه أيّ ظالم.

و ثانياً: نفي الفرق بين خوف المكرَه علي نفسه أو ماله أو متعلقيه و بين خوفه علي نفس أو مال إخوانه المؤمنين، و كذا سقوط عرضه بمرتبته الشديدة العظيمة التي لا يتحمَّلها المكرَه لنفسه بأيّ وجهٍ.

______________________________

(1) المصدر: ح 1.

(2) المصدر: ح 4.

(3) المصدر: ح 9.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 170

و منها: النصوص النافية للضرر، كقوله صلي الله عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في الاسلام» «1»؛ نظراً إلي دلالتها علي نفي أيّ حكم ضرري في شريعة الاسلام، بل نفي تشريعه عن دفتر التشريع. و لا ريب أنّ العمل بالحكم الاوّلي ضرري في موارد الاكراه. و لا ينافي ذلك ما تقدّم، من وقوع التعارض بين إطلاق دليل «لا ضرر» و دليل نفي الاكراه في موارد التوجه إلي الغير بالتقريب المتقدّم آنفاً.

و منها: النصوص الواردة في التقية الدالة علي ارتفاع وجوب الفرائض و آثارها عند الخوف علي النفس لأجل الاكراه بالتوعيد و التهديد. و قد بحثنا عن مفاد هذه النصوص مفصّلًا في خلال البحث عن قاعدة التقية في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

و قد وقع بين الفقهاء بحث مفصّل في صحة معاملات المكره، و ليس هاهنا محل التعرّض لذلك. فمن أراد، فليطلب ذلك في كتاب البيع.

الاستدلال للقاعدة بحكم العقل

بقيت هاهنا نكتة: و هي أنّه هل يمكن الاستدلال بحكم العقل علي هذه القاعدة؟ فقد يستدل بحكم العقل لها بتقريب أنّه يستقلّ بلزوم دفع الضرر المحتمل. و لمّا كان موضوع هذه القاعدة خوف الضرر، يدخل في موضوع حكم العقل. و لمّا كان دفع الضرر المخوف منه متوقفاً علي مخالفة التكليف، فيجوز المخالفة بحكم العقل في جميع موارد الاكراه؛ نظراً إلي

فرض توقّف دفع الضرر المخوف منه علي ذلك.

و لكن يرد علي هذا الاستدلال؛

أوّلًا: إنّ الأمر دائرٌ في مفروض الكلام بين الضرر المتوعّد به و بين ما هو

______________________________

(1) الكافي: ج 5، ص 292- 293 باب الضرار، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 171

أعظم منه بأضعاف، و هو العقاب الاخروي المتوعّد به المترتب علي مخالفة التكليف.

و لا ريب في استقلال العقل بتقديم دفع ما هو أعظم ضرراً. و عليه فالعقل يحكم بتحمّل الضرر المتوعد به الأخفّ الأقل دفعاً للعقاب الاخروي. إلّا في موارد عُلم بتخطئته من جانب الشارع كالاكراه بالتهديد علي القتل.

إن قلت: ترتب العقاب فرع مخالفة المولي، و أصل ترتب العقاب علي ارتكاب الفعل المكره عليه أوّل الكلام، بل المتيقن من مدلول حديث الرفع، رفع العقاب.

قلت: إنّ الاستدلال بحكم العقل مبنيٌّ علي قطع النظر عن أيّ دليل من الشارع.

و ثانياً: إنّ غاية ما يلزم من حكم العقل جواز مخالفة التكليف بارتكاب الحرام المكره عليه أو ترك الواجب المكره علي تركه ما دام الاكراه باقياً. و أما نفي أصل التكليف بحيث يرتفع الاعادة و القضاء أو ينتفي أصل اشتراط مورد الاكراه، فلا حكم للعقل به؛ لخروجه عن مصبّ حكم العقل.

الاستدلال للقاعدة بالاجماع

و أما الاجماع، فلا يبعد تحصيل اتفاق الأصحاب علي مفاد هذه القاعدة في الجملة، و لو في بعض الفروع و الأبواب. و لكنّه ليس إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم؛ نظراً إلي استناد الأصحاب إلي ساير الوجوه و الأدلّة.

هذا. و لكن يظهر من أبي الصلاح الحلبي في الكافي خروج القبائح الفعلية مما يحكم العقل العملي بقبحه، كالظلم و الكذب و أيضاً قال بخروج الزنا و شرب الخمر عن مصبّ قاعدة الاكراه بالاجماع.

مباني الفقه

الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 172

قال: «و ما يصح فيه الاكراه أفعال الجوارح. و هي علي ضربين: أحدهما: لا يؤثر فيه الاكراه. و الثاني: يؤثّر فيه. فالأوّل القبائح العقلية كلها كالظلم و الكذب … و من السمعيات الزنا بإجماع الامة و شرب الخمر باجماع الفرقة المحقة» «1».

و لكنني لم أر هذا الاجماع في كلام غيره، بل الظاهر من كلمات الفقهاء ملاحظة الأهمية بين الحرام المكره عليه و بين الضرر المتوعّد به. فلو أكرهه علي شرب الخمر، أو الزنا بالتهديد بالقتل، لا أظنّ أن يفتي الفقهاء ببقاء حرمتهما حينئذٍ و لا سيّما شرب الخمر، و إن كان الالتزام بجواز مثل الزنا و اللواط و لأجل الاكراه علي القتل مشكلٌ جدّاً.

هل تجري قاعدة الاكراه في موارد الاضرار بالغير؟

و هل يشمل حديث الرفع موارد توجُّه الضرر إلي الغير بمخالفة الحكم الأوّلي لأجل الاكراه؟ فقد يقال بعدم شموله لها؛ نظراً إلي كونه في مقام الامتنان علي الامّة، لا علي خصوص الشخص المكرَه، كما قيل بذلك في أدلّة نفي الضرر.

و لكن يمكن المناقشة في ذلك: بأنّ موضوع هذه الأدلّة رفع الحكم عن طبيعي المكرَه الساري إلي جميع أفراده. و لا نظر لها إلي غير المكرَه، من ساير المكلَّفين. و هذا بخلاف أدلّة نفي الضرر؛ لعدم اختصاص موضوعها بصنف خاص، بل المنفي فيها كلّ حكم ضرري؛ بلا فرق بين من توجّه إليه الضرر أوّلًا، أو ثانياً برفع الضرر عن الأوّل؛ لأنّ دليل نفي الضرر يفيد العموم بلسان النكرة في سياق النفي. فينفي أيّ حكم ضرري عن دفتر التشريع. و يكون في مقام

______________________________

(1) الكافي للحلبي: ص 270.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 173

الامتنان علي جميع الامّة.

و عليه فيقع التعارض بين دليل نفي الاكراه

و بين دليل نفي الضرر في موارد توجه الضرر إلي الغير برفع الحكم عن المكرَه.

و ذلك لأنّ إطلاق دليل نفي الاكراه يقتضي رفع الحكم عن المكره مطلقاً، و لو توجّه بذلك الضرر إلي الغير. و لكن دليل نفي الضرر لمّا كان في مقام الامتنان علي جميع الامّة ينفي أيّ حكم ضرري، حتي ما نشأ منه توجُّه الضرر إلي الغير ثانياً و بالعرض. و بعبارة اخري: دليل نفي الضرر لا يقتضي الاضرار بالغير بنفسه، بل ينفيه أيضاً.

و من هنا لا بدّ في هذه الموارد من ملاحظة الأهمية؛ نظراً إلي القطع بمذاق الشارع و استقرار دأبه علي تقديم دفع ما هو أهمّ و أعظم ضرراً؛ وفقاً لحكم العقل بذلك. و قد اتضح ممّا بيّناه أنّ ملاحظة الاهمية لا تختصّ بشخص المكره و بما بينه و بين متعلقيه، بل يأتي فيما بينه و بين إخوانه المؤمنين.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 174

التطبيقات الفقهية

اشارة

1- بطلان طلاق المكره و ظهاره.

2- سقوط الحد و الكفارة عن المكرَه.

3- جواز قبول ولاية الجائز للمكره.

4- بطلان صوم المكره علي الافطار و علي الارتماس.

و قد استدل الفقهاء بهذه القاعدة في فروع عديدة من مختلف الأبواب الفقهية، و إحصاؤها خارج عن حدّ وسع المقام. و إنّما نكتفي بذكر نماذج من هذه الفروع.

بطلان طلاق المكره و ظهاره

منها: مسألة بطلان طلاق المكره.

فقد أفتي فقهاؤنا الامامية علي بطلان طلاق المكرَه، تمسكاً بهذه القاعدة، كما أشار إليه السيد المرتضي بقوله:

«و مما انفردت به الامامية أنّ العتق لا يقع إلّا بقصد إليه و تلفّظ به و لا يقع مع الغضب الشديد الذي لا يُملك معه الاختيار و لا مع الاكراه … » «1».

و قد صرّح في موضع آخر بارتفاع التكليف و الكفارة بالاكراه علي الحلف.

بقوله: «فانّ الفعل المحلوف عليه يتعذّر بالإكراه و النسيان كما يتعذّر بفقد القدرة، فكما يرتفع التكليف مع فقد القدرة، فكذلك يرتفع مع الإكراه و فقد العلم، و كما أنّ من حلف علي أن يفعل شيئاً و فقد قدرته عليه لا يلزمه كفّارة، فكذلك

______________________________

(1) الانتصار: ص 370.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 175

من حلف أنّه يفعله فاكره علي أن لا يفعله أو سلب علمه، فيجب أيضاً أن لا تلزمه الكفّارة؛ لارتفاع التمكّن علي الوجهين معاً» «1».

و منها: بطلان الظهار بالاكراه، كما صرّح بذلك شيخ الطائفة بقوله: «و لا يقع ظهار علي الاكراه و لا علي الاجبار و لا علي الغضب … » «2».

و بمثله قال القاضي ابن البرّاج «3».

سقوط الحدّ و الكفارة عن المكرَه

و منها: سقوط الحدّ بالاكراه، كما صرّح به في الشرائع بقوله: «يسقط الحد مع الاكراه» «4».

و قوله: «و لو ادّعي العبد الاكراه سقط عنه دون المولي» «5». و صرّح أيضاً بذلك العلامة في المختلف «6».

و منها: مسألة سقوط كفارة الجماع عن الصائم في شهر رمضان بالاكراه.

و قد اتفق الفقهاء في ذلك، و لم أر من بين الفقهاء من لم يُفت بذلك. و كذلك في وطي المُحرم امرأته في الحج، و كفارته بدنة؛ فانها تسقط مع الاكراه.

و لكن وقع الخلاف بين

الفقهاء في ارتفاع الأثر الوضعي بالاكراه في فروع عديدة من مختلف الأبواب الفقهية. و من هذه الفروع إمالة المصلّي خلاف جهة القبلة حال الصلاة. فقد وقع الخلاف في بطلان صلاته، فاحتُمل لفقدان شرطها،

______________________________

(1) الانتصار: ص 355- 356.

(2) النهاية: ص 525.

(3) ابن البرّاج: ج 2، ص 300.

(4) شرايع الاسلام: ج 4، ص 933.

(5) المصدر: ص 940.

(6) مختلف الشيعة: ج 9، ص 161، و 268.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 176

و احتُمل الصحة؛ لزوال التكليف عند الاكراه، كما أشار العلامة إلي ذلك بقوله:

«المصلّي إلي القبلة لو أماله إنسان عنها قهراً و طال الزمان، احتمل البطلان؛ لفقد الشرط، و الصحة؛ لزوال التكليف عند الاكراه» «1».

جواز قبول ولاية الجائز للمكره

و منها: ارتفاع حرمة قبول الولاية من الجائر بالاكراه، كما صرّح به العلامة في القواعد بقوله: «و تحرم من الجائر، إلّا مع التمكن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أو مع الاكراه بالخوف علي النفس أو المال أو الاهل أو بعض المؤمنين، فيجوز حينئذٍ اعتماد ما يأمره إلّا القتل الظلم» «2».

و ممن صرّح بذلك المحقق مع قيد؛ حيث قال: «و لو نصب الجائر قاضياً مكرهاً له، جاز الدخول معه دفعاً لضرره، لكن عليه اعتماد الحق و العمل به ما استطاع». و قد فصّل في ذلك الشهيد؛ حيث قال في شرح كلام المحقق: «إنّما يتوقف الجواز علي الاكراه مع عدم اتصاف الحاكم بشرائط الفتوي، و تمكّنه من إجراء الاحكام علي وجهها الشرعي، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و إلّا جاز قبول الولاية، بل قد يجب. و بدون ذلك لا يجوز إلّا مع الاكراه. و يتحقق بالخوف من المخالفة علي نفسه أو ماله، أو عرضه. و يختلف ذلك بحسب

اختلاف أحوال الناس في احتمال الإهانة و عدمها» «3».

و منها: بطلان البيع، بل جميع المعاملات مع الاكراه؛ نظراً إلي عدم حصول

______________________________

(1) نهاية الاحكام: ج 1، ص 406.

(2) جامع المقاصد: ح 4، ص 44.

(3) مسالك الافهام: ج 3، ص 111.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 177

التراضي المعتبر في صحة المعاملة عند الاكراه عليها؛ لعدم تحقق طيب النفس في المكرَه. و قد صرّح بذلك جميع الفقهاء، و لا خلاف في ذلك، و لا حاجة إلي نقل كلامهم.

بطلان صوم المكره علي الافطار و علي الارتماس

و منها: بطلان صوم من أفطر عن إكراه. فانّ الفقهاء بعد اتفاقهم علي عدم بطلان الصوم بالافطار بالاجبار القهري السالب للاختيار، اختلفوا في بطلانه بالافطار عن إكراه، كما صرّح بذلك الشهيد في المسالك بقوله: «لا خلاف في عدم وجوب القضاء علي من وُجر في حلقه- بتخفيف الجيم- بغير اختياره؛ لأنّه لم يتناول المفطر، و أما الاكراه فإن بلغ حداً يرفع قصده أو يذهب اختياره، كما لو قهره قاهر بضرب شديد أو تخويف عظيم حتي لم يملك أمره و لم يكن له بُدَّ من الفعل، فلا قضاءَ أيضاً، و إن لم يبلغ ذلك الحدَّ؛ بأن تُوعِّد بفعل لا يليق بحاله و يعد ضرراً لمثله من ضرب أو شتم و نحوهما، و شهدت القرائن بايقاعه له إن لم يفعل، إلّا إنّ اختياره لم يذهب، و قصده لم يرتفع، ففي فساد صوم حينئذٍ قولان:

أحدهما: إلحاقة بالأوّل؛ لقوله صلي اللّٰه عليه و آله و سلّم: رفع عن امتي الخطا و النسيان و ما استكرهوا عليه، و المراد رفع حكمها، و من جملته القضاء، و لسقوط الكفارة عنه و هي من جملة أحكامه.

و أصحهما وجوب القضاء و إن ساغ له الفعل؛ لصدق

تناول المفطر عليه باختياره. و قد تقرِّر في الاصول أنّ المراد برفع الخطأ و قسيميه في الحديث رفع المؤاخذة عليها، لا رفع جميع أحكامها. و مثله الافطار في يوم يجب صومه

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 178

للتقية أو التناول قبل الغروب لها» «1».

و منها: بطلان صوم من اكره علي الارتماس، بخلاف ما إذا كان مقهوراً، كما أفتي به الفقهاء. و صرّح به السيد في العروة. و قد تعرّض السيد الحكيم في ضمن تعليل هذا الفرع إلي بيان وجه الفرق بين الاكراه و الاجبار، بقوله: «لعدم الدليل علي الصحة. و كون البطلان مقتضي إطلاق الأدلة. و أدلة نفي الاكراه إنّما تصلح لنفي المؤاخذة أو سائر الآثار المترتبة علي فعل المكره، و لا تصلح لاثبات الصحة، لأنّ وظيفتها النفي، لا الاثبات. و مثله: الكلام فيما لو اكره علي ترك الجزء، أو الشرط، أو فعل المانع، في سائر العبادات» «2».

و علّل صحة صوم المجبور المقهور علي الارتماس بقوله: «لانتفاء العمد.

و بذلك افترق عن الاكراه، لتحقق القصد معه؛ لأنّ الاكراه هو الحمل علي فعل المكروه عن إرادة. و كذا الحال لو كان الارتماس واجباً عليه لانقاذ غريق، إذ الوجوب المذكور إنّما يقتضي وجوب الافطار، الصحة مع الارتماس؛ إذ لا تعرض فيه لذلك». «3»

و قد أجاد السيد الخوئي في بيان الفرق بينهما في بيان تعليل المسألة المزبورة؛ حيث قال: «إذ الاكراه لا يوجب سلب الإرادة. فالفعل المكره عليه صادر عن عمد و قصد، و إن لم يكن عن طيب النفس. فيشمله إطلاق الأدلة. و من الواضح أنّ أدلّة نفي الاكراه مفادها نفي العقاب و المؤاخذة. و لا تنهض لاثبات

______________________________

(1) مسالك الافهام: ج 2، ص 19- 20.

(2) مستمسك

العروة: ج 8، ص 269.

(3) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 179

الصحة؛ لأنّ شأنها الرفع، دون الوضع. و منه يظهر الحال في وجوب الرمس لانقاذ الغريق الذي تعرض له في المسألة الآتية، فانّ وجوب الانقاذ لا يستدعي إلّا وجوب الارتماس، و لا يستلزم صحة الصوم مع الارتماس المزبور بوجه. و هذا بخلاف ما إذا كان مقهوراً في الارتماس؛ فانه يوجب زوال الارادة و الاختيار، و انتفاء العمد و القصد، و مثله لا يوجب البطلان، و لأجله يفرَّق بين القهر و الاكراه» «1».

______________________________

(1) كتاب الصوم للسيد الخوئي: ج 1، ص 167.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 180

«قاعدة» «الأهمية»

اشارة

منصّة القاعدة

مفاد القاعدة

شرائط جريان القاعدة

مدرك القاعدة

مجاري القاعدة و تطبيقاتها الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 181

1- منصة القاعدة و أهميتها.

2- هذه القاعدة فقهية، لا اصولية.

منصة القاعدة و أهميّتها

اشارة

منصّة هذه القاعدة لا تختص ببابٍ خاص من أبواب الفقه. و ذلك لأنّه كما يكون الواجبات العبادية بعضها أهمّ من بعض في نظر الشارع- كما أنّ أكثر موارد هذه القاعدة و مجاريها المذكورة في كلمات الفقهاء من قبيل العباديات-، كذلك تجري هذه القاعدة في غير العباديات. و ذلك مثل موارد إنجاء النفس المحترمة من الهلاك و الغرق و الحرق و نحوه، و إنقاذ أموال المؤمنين من الضياع بسيل أو حرق أو سقوط بناءٍ أو خرابها، و تولّي الولاية من قبل الجائر لأهمية ما يحصل التمكّن منه بقبولها، من إنقاذ النفوس المحترمة و حفظ أعراض المؤمنين و أموالهم و مظاهرتهم في امورهم.

و أيضاً تجري في الأحكام الوضعية فيما إذا دار الأمر بين شرطين أحدهما أهم في نظر الشارع، كالدوران بين الطهارة و التستر في حال الصلاة. أو بين معاملتين أحدهما أهمّ في نظر الشارع. و كذا في تعلّم العقائد الدينية و المعارف الالهية، فانّ بعضها أهمّ من الآخر و كذا تعلّمه. و غير ذلك من موارد جريان هذه القاعدة، كما سيأتي في التطبيقات الفقهية.

و بهذا البيان اتّضح أهمية هذه القاعدة و خطرها العظيم و دورها الكبير في رفع التحيّر عن المكلّف عند ما واجه واجبين أحدهما أهمّ في نظر الشارع و هو

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 182

يتمكّن من الاتيان بأحدهما.

و هذه القاعدة قد بحث عنها الاصوليون في علم الاصول في باب التزاحم و مسألة الترتّب و مسألة الضدّ؛ أي اقتضاءُ الأمر بالشي ء النهي عن

ضدّه.

هذه القاعدة فقهية، لا اصولية

ثمّ إنّ هذه القاعدة فقهية، لا اصولية؛ لأنّ مفادها وجوب تقديم الأهم، و إن شئت فقل: وجوب صرف القدرة في الاتيان بالأهمّ. و الوجوب حكم شرعي. و لا ينافي ذلك ابتناء هذا الوجوب علي حكم العقل؛ لأنّ العقل من أحد الأدلّة الأربعة التي يستدل بها الفقيه علي الحكم الشرعي؛ لقاعدة كل ما حكم به العقل حكم به الشرع.

و ملاك الفرق بين القاعدة الاصولية و الفقهية، أنّ القاعدة الاصولية كبري واقعة في الحد الأوسط من قياس الاستنباط و تغاير النتيجة؛ بمعني عدم كونها حكماً كلياً بحيث تكون النتيجة من أفرادها و مصاديقها.

بخلاف القاعدة الفقهية؛ فانّها حكم كلي يُحتج به علي مصاديقه و أفراده.

و قاعدة الأهمية من قبيل الثاني؛ لأنّ وجوب تقديم الأهمّ عند الدوران بينه و بين المهم، حكم شرعي يحتج به الفقيه علي مصاديقه و أفراده.

و في هذا المجال مباحث اخري، فليُطلب في محلّه من علم الاصول.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 183

مفاد القاعدة

اشارة

1- ما هو المقصود من الأهمية؟

2- هل الاضطرار مأخوذٌ في مصبّ القاعدة؟

تفيد هذه القاعدة تقديم ما كان من الواجبات و التكاليف أهم في نظر الشارع الأقدس أو في نظر العقل من واجب آخر عند دوران أمر الامتثال بينهما.

بيان ذلك: إنّ المكلّف في مقام امتثال أمر الشارع و الاتيان بالوظيفة الشرعية قد يواجه تكليفين واجبين يكون وجوبهما فعلياً في حقّه. و لكنه لا يتمكّن من صرف قدرته فيهما معاً؛ بمعني أنّه لا يقدر علي الاتيان بهما معاً في زمان واحد. فلا مناص له حينئذٍ من إتيانه بأحدهما أوّلًا، ثمّ الاتيان بالآخر. و لا تجري هذه القاعدة فيما إذا كان المكلّف قادراً علي الجمع بين التكليفين؛ فانّ الدوران و التقديم إنّما

يعقل و يتصوّر فيما إذا لم يتمكن المكلّف من الجمع بينهما في آن واحد.

و في مثل هذا المورد لو كان أحد الواجبين المفروضين أهمّ في نظر الشارع من الآخر؛ بحيث لا يرضي بتركه بوجه، و لو انجرّ فعله إلي ترك الآخر رأساً أو تأخيره، تفيد هذه القاعدة حينئذٍ وجوب صرف القدرة في الاتيان بما هو أهمّ في نظر الشارع و تقديمه علي الواجب الآخر.

و ذلك كدوران الأمر بين الصلاة المفروضة اليومية و بين صلاة الآيات، أو بين الصلاة و بين دفع خطر عن نفسه أو أخيه المؤمن، أو بين إنقاذ نفسه و بين إنقاذ نفس أخيه المؤمن، أو بين انقاذ أبيه أو ولده و بين إنقاذ مؤمن.

و كذلك فيما لو دار الأمر بين ترك حرام و بين الاتيان بواجب أهمّ، و ذلك

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 184

مثل ما لو دار الأمر بين ترك قبول الولاية و تصدّي الامارة من قبل الجائر و بين إنقاذ نفوس المؤمنين من الهلاك و حفظ أعراضهم و أموالهم من جور الجائر.

فانّ التولّي من قبل الجائر حرامٌ، و لكن إنقاذ نفوس المؤمنين و حفظ أموالهم و أعراضهم و إحقاق حقوقهم و دفع الظلم عنهم واجب أهمّ. و من هنا أفتي الفقهاء بجواز التولي من قبل الجائر حينئذٍ مستدلًاّ بهذه القاعدة.

ما هو المقصود من الأهمية؟

و من النكات المهمّة التي ينبغي اتضاحها في تبيين مفاد هذه القاعدة، أنّ المقصود من الأهمية في نصّ هذه القاعدة، هل هو أهمّية أحد الحكمين الإلزاميين علي الآخر؟ أو الأهمية في مطلق الأحكام؟ فتشمل هذه القاعدة أهمية أيّ حكم شرعي من أيّ حكم شرعي آخر؟.

لا بدّ للإجابة عن هذا السؤال من التأمل في مدرك هذه القاعدة. فان

كان مدركها العقل- كما سيأتي بيانه- تشمل كل مورد دار الأمر بين حكمين كان أحدهما أهمّ في نظر الشارع من الآخر، بلا فرق بين أنحاءِ الأحكام. فتشمل القاعدة مطلق موارد الأهمية، سواءٌ كانت بين واجبين، أو حرامين أو مكروهين أو مندوبين أو مختلفين، إلّا أنّ الاتيان بالأهمّ و امتثال أمره واجب في الدوران بين الحكمين الالزاميين أو بين حكمين كان أحدهما إلزاميّاً، بخلاف ساير صور الدوران.

و اما إذا كان مدركها النصوص، فلا بدّ من ملاحظة النصوص. و الظاهر أنّ مواردها و إن كان خصوص الأحكام الالزامية، إلّا أنّه لما كان لها جذر في حكم العقل و إنّما النصوص مُرشدةٌ إلي حكمه، تعمّ الدوران بين مطلق الأحكام كما

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 185

قلنا. و لكن الظاهر من كلمات القوم اختصاص هذه القاعدة في اصطلاحهم بموارد الدوران بين حكمين إلزاميين، أو حكمين كان أحدهما إلزامياً.

هل الاضطرار مأخوذٌ في مصبّ القاعدة؟

مقتضي التحقيق عدم أخذ الاضطرار في موضوع هذه القاعدة و مصبّها، بل تجري في كلّ أمرين اختياريّين أحدهما أهمّ من الآخر، دار أمر المكلّف بينهما؛ بحيث يمكن له فعل المهم و ترك الأهم و بالعكس، لكنه لو ترك الأهم يتعيّن عليه الاتيان بالمهم مطلقاً- سواءٌ كان الترك بسوءِ اختياره أو لأجل عروض الاضطرار-، إلّا أنّه في الفرض الأوّل عصي بترك الأهمّ و داخلٌ في مسألة الترتب المعروفة، «1» و لم يعص في الفرض الثاني. و علي أيّ حال يتعيّن عليه المهم في ظرف ترك الأهم.

و لكنه لو ترك الأهم عصياناً وقع الكلام في كيفية تشريع المهم حينئذٍ و إيجابه.

و قد عنون الاصوليون البحث عن ذلك في مسألة الترتب.

و علي ضوءِ ما بيّناه قد عرفت:

أوّلًا: أنّ الاضطرار لم يؤخذ

في موضوع قاعدة الأهمية، و إن كان ربما يكون موردها الاضطرار، كمن اضطر إلي بيع داره لعلاج ولده أو زوجته و إنقاذهما من الموت. فيكون حفظهما بالعلاج أهم من حفظ داره. و من هذا القبيل كلّ مورد كان الأهم مورد الاضطرار.

و ثانياً: الفرق بين قاعدة الاضطرار و قاعدة الأهمية؛ إذ لم تؤخذ الدوران بين الأهم و المهم في موضوع قاعدة الاضطرار، و إن كان الاضطرار من أحد ملاكات الأهمية. و من هنا اشتهر أنّ الضرورات تبيح المحذورات. و ذلك لمكان

______________________________

(1) و قد بحثنا عنها في خاتمة مسألة الضدّ من علم الاصول في كتابنا «بدائع البحوث».

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 186

أهمية الضرورات.

أما الفرق بين قاعدة التزاحم و بين قاعدة الأهمية أنّ التزاحم ربما يكون بين واجبين متساويين في الأهمية، بخلاف قاعدة الأهمية؛ فانّها قد اخذ في موضوعها أهمية أحد المتزاحمين عن الآخر.

و أما القدرة المأخوذ عدمها في الاتيان بالتكليفين في مصبّ هذه القاعدة، هي القدرة العقلية، لا الشرعية؛ لأنّ غير المقدور شرعاً ممنوعٌ غير جائز في نظر الشارع، فلا وجوب لإتيانه، بل لا يجوز. فلا معني لكونه أهم من وجوب فعل الواجب الذي يدور أمر المكلّف بينهما.

و أما قاعدة الترتب فهي ناظرة إلي صورة العصيان بترك الأهمّ، و تصحيح وجوب المهم حال تركه الأهم عصياناً.

و لكن قاعدة الأهمية إنّما تتكفّل لاثبات أصل وجوب تقديم الأهم علي المهم.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 187

شرائط جريان القاعدة

اشارة

1- اشتراط عدم مانع شرعي من جريان القاعدة.

2- كلام الشهيد الصدر و نقده.

3- اشتراط عدم كون الأهمّ و المهم جزءين لواجب.

اشتراط عدم مانع شرعي من جريان القاعدة

هذا، و لكن قد يقال باعتبار عدم مانع شرعي في جريان هذه القاعدة؛ بأن لم يرد من الشارع ما يدل علي وجود مانع شرعي من تقديم الأهم، كما لو كان الأهم واجباً مشروطاً بشرط، و لكن يزاحمه واجب شرعي في ظرف حصول الشرط. كما لو نذر المكلّف المشي إلي زيارة سيد الشهداء و حصل الشرط و تنجّز النذر. لكن في ظرف حصول شرطه حصل شرط الواجب الشرعي المشروط كالاستطاعة للحج. و قد ورد في النصوص أنّ «شرط اللّٰه قبل شرطكم».

فيكون حينئذٍ حصول الاستطاعة مانع شرعي من الاتيان بالنذر و لا بدّ من تقديم الحج حينئذٍ، و إن كان الواجب المنذور أهمّ في نظر الشارع. فلا ينظر حينئذٍ إلي أهمية أحد الواجبين المتزاحمين ملاكاً.

كلام السيد الشهيد الصدر قدس سره و نقده

و يظهر اشتراط ذلك من السيد الشهيد الصدر قدس سره؛ حيث قال: «إنّ القانون المتبع في حالات التزاحم هو قانون ترجيح الأهم ملاكاً، و لكن هذا فيما إذا لم يفرض تقييد زائد علي ما استقل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 188

به العقل من اشتراط، فقد عرفنا أنّ العقل يستقل باشتراط مفاد كل من الدليلين بالقدرة التكوينية بالمعني الاعم فاذا فرضنا أنّ مفاد أحدهما كان مشروطاً من قبل الشارع- إضافة إلي ذلك- بعدم المانع الشرعي، أي بعدم وجود حكم علي الخلاف دون الدليل الآخر، قدِّم الآخر عليه، و لم يُنظر إلي الأهمية في الملاك. و مثاله وجوب الوفاء بالشرط إذا تزاحم مع وجوب الحج، كما إذا اشترط الشخص أن يزور الحسين عليه السلام في عرفة كل سنة، و استطاع بعد ذلك فإنّ وجوب الوفاء بالشرط مقيد في دليله بأن لا يكون هناك حكم علي خلافه بلسان إنّ شرط اللّٰه قبل

شرطكم. و أما دليل وجوب الحج فلم يقيد بذلك فيقدم وجوب الحج، و لا ينظر إلي الأهمية.

أما الأوّل: فلأنه ينفي بنفسه موضوع الوجوب الآخر؛ لأنّ وجوب الحج ذاته- و بقطع النظر عن امتثاله- مانع شرعي عن الاتيان بمتعلق الآخر فهو حكم علي الخلاف، و المفروض اشتراط وجوب الوفاء بعدم ذلك، فلا موضوع لوجوب الوفاء مع فعلية وجوب الحج.

و أما الثاني: فإنّ أهمية أحد الوجوبين ملاكاً، إنّما تؤثر في التقديم في حالة وجود هذا الملاك الأهم، فاذا كان مفاد أحد الدليلين مشروطاً بعدم المانع الشرعي دلّ ذلك علي أنّ مفاده حكماً و ملاكاً، لا يثبت مع وجود المانع الشرعي.

و حيث إنّ مفاد الآخر مانع شرعي، فلا فعلية للأوّل حكماً و لا ملاكاً مع فعلية مفاد الآخر» «1».

و لكن يرد علي هذا العَلَم أنّ أهمية ملاك أحد الواجبين إنّما يمكن إحرازه من طريق بيان الشارع فقط، و إلّا فمن أين نعلَم أن أحد الواجبين أهم في نظر الشارع

______________________________

(1) المجموعة الكاملة: ج 4، ص 191- 192.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 189

من الآخر؟ أ بحكم العقل أو العرف؟

فاذا علمنا من طريق النص الشرعي أنّ شرط اللّٰه قبل شرط الانسان المكلّف و أنّه مقدّم علي شرطه فكيف يمكننا أن نحرز أهمية الواجب بشرطنا من الواجب بشرط اللّٰه؟ بل إنّما نُحرز بذلك أهمّية الواجب بشرط اللّٰه و بحكمه الأولي الذاتي الثابت بلا وساطة عهد المكلّف و شرطه علي نفسه.

اشتراط عدم كون الأهمّ و المهم جزءين لواجب

نعم يمكن أن يقال باشتراط أمر آخر في جريان هذه القاعدة. و هو عدم كون الأهم و المهم كليهما من أجزاء واجب عبادي و كان الأهم في طول المهم. و ذلك كالركوع و السجدة، فانّهما في طول القيام

و مرتّبان عليه، مع أنّه يستفاد من النصوص أهمّيتها من القيام؛ لما دل من النصوص علي أن الصلاة ثلثٌ طهور و ثلث ركوع و ثلثٌ سجود، و أنّ أوّل الصلاة الركوع «1». و لعلّه من أجل ذلك- أي اعتبار عدم كون الأهم في طول المهم- ذهب المشهور إلي تقديم القيام عند الدوران بينه و بين الركوع و السجود لمن يتعذّر عليه القيام بعد الركوع و السجود، لمرض أو مانع آخر، بل نسب ذلك إجماعهم، كما حكي عنهم في الجواهر، «2» و إن اختاره في كشف اللثام تقديم الركوع و السجود و قواه في الجواهر. و سيأتي تفصيل ذلك في التطبيقات الفقهية.

و عليه فمقتضي القاعدة في هذه الموارد الحكم بأهمية الواجب بشرط اللّٰه من الواجب بشرط المكلّف في نظر الشارع دائماً، بلا فرق بين الموارد.

______________________________

(1) الوسائل: ب 9، من أبواب الركوع، ح 1 و 6.

(2) جواهر الكلام: ج 9، ص 256- 257.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 190

مدرك القاعدة

اشارة

1- ملاكات الأهمية و مواردها الكلية.

2- موارد الأهمية في لسان النصوص.

3- مقتضي القاعدة في محتمل الأهمية.

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بحكم العقل و نصوص الكتاب و السنة.

أمّا العقل؛

فانّه يحكم بتقديم ما هو أهم في نظر الشارع. و ذلك لأنّ العقل إذا علم و أحرز أهمية واجب عند الشارع من الواجب الآخر، يستقل بتقديمه و يستقل بوجوب طاعته؛ قضاءً لحق العبودية و المولوية، و تحصيلًا للمؤمّن من العقاب الاخروي المحتمل. و هذا مما لا ريب فيه. و لا ينبغي إطناب البحث عن ذلك.

و أما الكتاب:

فلم أجد في الآيات القرآنية ما يدل علي هذه القاعدة، إلّا بعض ما يُشعر بها بالالتزام.

مثل قوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لٰا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» «1».

وجه الاشعار، بل دلالته علي القاعدة المبحوث عنها، ظهوره في تقديم حفظ النفس من المعاصي علي هداية الغير و إنكار العاصي إذا دار الأمر بينهما.

و ذلك لأنّ إضرار أهل الضلالة و المعصية بالمؤمن المهتدي؛ إما بوسوستهم،

______________________________

(1) سورة المائدة: 105.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 191

كما أمر اللّٰه بالاستعاذة من شرّ الوسواس الخنّاس، من الجنّة و الناس. و إنّ الوسواس الخنّاس الذي من الناس- المعبّر عنه بشياطين الأنس- إنّما هو أهل الضلالة و المعصية.

و إمّا: من أجل ترك وظيفة هدايتهم و إرشادهم و انكارهم عن المعاصي و أمرهم بالمعروف و الآية المزبورة تشمل كلتا الصورتين بالاطلاق.

و الصورة الثانية تنطبق علي قاعدة الأهمية، و هي ما إذا دار الأمر بين نهي الغير و منعه عن المعصية و بين ارتكاب الناهي نفسه الحرام فيما لو توقف انكار الغير علي ارتكاب الحرام. فالآية تدل علي سقوط وظيفة الانكار و جواز تركه و عدم توجه ضرر و عقاب اخروي إليه بترك الانكار ما دام وقي نفسه من ارتكاب الحرام، و إن وقع الفاعل في المعصية و ضلّ بارتكابها.

و من هنا استدللنا باطلاق

هذه الآية لسقوط وجوب الانكار في المسألة في كتابنا «دليل تحرير الوسيلة»، فراجع «1».

و لكن ناقشنا هناك باحتمال انصراف الآية المزبورة إلي نفي إضرار كفر الكفّار و ضلالتهم بالمؤمنين بعد اهتدائهم؛ بقرينة آيات وجوب الأمر و النهي بين المؤمنين. كقوله تعالي: «الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» «2»، و غيره من الآيات.

و أمّا السنة:

فيمكن الاستدلال لهذه القاعدة بعدّة نصوص.

من هذه النصوص:

______________________________

(1) دليل تحرير الوسيلة/ كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: ص 77- 79.

(2) التوبة: 71.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 192

ما ورد عن أمير المؤمنين علي عليه السلام- مخاطباً لعمر بن الخطاب، لمّا استشاره للخروج إلي قتال الفُرس بنفسه-: في خطبة له عليه السلام، قال: «و مكان القيِّم بالأمر مكان النظام من الخَرَز يجمعه و يضمّه. فان انقطع النظام، تفرَّق الخرز و ذهب، ثمّ لم يجتَمِع بحذافيره أبداً و العَرَب اليوم، و إن كانوا قليلًا، فَهُم كثيرون بالاسلام، عَزيزون بالاجتماع فكن قُطباً و استدر الرحا بالعرب و أصلهم. دونك نار الحرب؛ فانّك إن شخصتَ من هذه الأرض، انتقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها، حتي يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ اليك مما بين يديك» «1».

قوله: «القيّم بالأمر»؛ أي القائم به، و المقصود الخليفة. «النِّظام»؛ أي الخَيط، يُنظم به، و الخَرَز- بفتحتين-: أي حبّات السُّبحة و نحوها، مما يُجمع و يُنتظم بالخيط بصورة الحلقة.

قوله: «بحذافيره»؛ جمع الحِذفار، و هو أعلي الشي ء و ناحيته. و المقصود اصول الخَرَز و جوانبه علي طبق النظم السابق قوله: «شخصتَ»؛ أي خرجتَ.

و مقصوده من قوله: «ما تدع ورائك من العورات»؛ نواميس المسلمين و نساؤهم الباقيات بعد خروج الخليفة بلا قيّم

و أمير يدافع عنهنّ و يحفظهنّ عن هجمات البغاث المهاجمين.

هذه الخطبة قد رواها الشيخ المفيد في الارشاد مع تفاوت و ننقل من مرويّه موضع الحاجة، و هو قوله عليه السلام: «و إن أشخصت بهذين الحرمين انتقضت العرب عليك من أطرافها و أكنافها، حتي يكون ما تَدَعُ وراءَ ظهرك من عيالات العرب أهمّ إليك ممّا بين يديك» «2».

______________________________

(1) نهج البلاغة صبحي الصالح: ص 203، خ 146.

(2) الارشاد: ج 1، ص 209.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 193

و أيضاً روي ابن شهرآشوب في مناقبه عن تاريخ الطبري هذه الخطبة بعين ألفاظ رواية الشيخ المفيد «1».

أمّا وجه دلالتها علي هذه القاعدة أنّ قوله عليه السلام: «حتي يكون ما تَدَعُ … » في قوّة تعليل النهي عن الخروج بأهمية ما يستتبعه الخروج من المحذور، و هو خطر الهجوم علي نواميس المسلمين.

و منها: كلام أمير المؤمنين في الخطبة الشقشقية، قال عليه السلام: «أما و اللّٰه لقد تقمَّصها فلان. و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محل القُطب من الرّحي. ينحدر عنّي السيل، و لا يرقي إليَّ الطير، فسدلتُ دونها ثوباً و طويت عنها كشحاً و طَفقتُ أرتئي بين أن اصول بيد جذّاءٍ أو أصبر علي طَخْيَةٍ عمياءٍ يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتي يلقي ربّه! فرأيت أنّ الصبر علي هاتا أحْجي، فصبرت و في العين قذي و في الحلق شجًا أري تراثي نَهْباً» «2».

قوله: «تقمّصها»؛ أي لبسها، و المقصود التلبُّس برداءِ الخلافة.

و قوله: «سَدَلت»؛ أي أرخيت. قوله: «طويت عنها كشحاً»؛ أي انصرفت عنها ميلًا و إرادة عن تعقُّل. قوله: «أصول» من صال يصول؛ أي وثب عليه ليقتله. و قوله: «بيد جذّاء»؛ أي

يد مقطوعة، كناية عن عدم القدرة. قوله: «طَيخة عمياء»؛ أي ظلمة محضة لا يمكن فيها الرؤية. قوله: أحجيٰ: اسم التفصيل من الحِجا بمعني العقل و كلُّ ما يستر الانسان، قاله الخليل.

و المقصود أنّ اختيار الصبر أقرب إلي العقل و أحفظ من الفتنة و الفَشَل. و قوله: «الشجا»؛ ما اعترض في الحلق من عظم و نحوه.

______________________________

(1) مناقب ابن شهرآشوب: ج 1، ص 406.

(2) نهج البلاغة، صبحي الصالح: ص 48، خ 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 194

و معني الخطبة أنّ فلاناً لقد تلبّس برداءِ الحكومة و تصدّي لإمارة المسلمين و هو و اللّٰه غير لائق لمنصب الخلافة. و هو نفسه يعلم أنّ الخلافة و أمارة المسلمين إنّما تدور مداري و تقوم بي. و إنّي عالي المكان و مرتفع الشأن و بعيد المرتقي عند اللّٰه و رسوله. كما أنّ السيل ينحدر من الأماكن العالية و الطير لا يرقي إليها؛ لذروة رفعتها.

و الأمر عندي دار بين أن اقاتل معه بلا عِدّة و لا عُدّة- كأنّي مقطوع اليدين-، و بين أن أصبر علي فتنة مظلمة عمياء. ففكّرت و تأملت، فرأيت أنّ الصبر و ترك القتال أقرب إلي العقل و أحفظ لنواميس المسلمين و اقتدارهم و دمائهم فصبرت حال كوني، كمن اعترض العظم في حلقة و الشوك في عينه من شدّة ألم التحمّل و الصبر علي هذه الفتنة الصعبة و المصيبة الشاقّة.

و مقصود الامام عليه السلام: أنّي فكّرت و تأملت عند ما ابتُليت بالدوران بين المحذورين- المذكورين في كلامه- فرأيت ترجيح الصبر و ترك القتال مع عدم العدّة و العُدّة، أقرب إلي حكم العقل و مقتضي التأمّل؛ لما في الاجتناب عن الفتنة و الاحتراز عن سفك دماءِ

المسلمين- من غير نتيجة و لا تحصيل الغرض الواجب- من الأهمية، و إن كان الجهاد و قتال أهل البغي أيضاً واجب مهمّ. و بهذا التقريب تتمّ دلالة هذه الخطبة علي القاعدة المبحوث عنها في المقام. و عموم التعليل بأقربية أحد طرفي الدوران و أهميته ينفي اختصاص الترجيح المزبور بشخص الامام عليه السلام في تلك الواقعة، بل يقتضي التعميم و تسرية ترجيح الأهم في جميع موارد الدوران بين الأهم و المهمّ. فلا يُعبأ باحتمال مثل هذا الترجيح بالامام المعصوم عليهم السلام.

هذا من جهة الدلالة و فقه الحديث.

و أما من جهة السند:

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 195

فقد رواه الصدوق في العلل و معاني الأخبار بطريقين عن عكرمة عن ابن عباس، أحدهما: بقوله: و حدثنا محمد بن علي ماجيلويه، عن عمّه محمد بن أبي القاسم، عن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال عليه السلام: «و اللّٰه لقد تقمّصها … الخ» «1».

لا إشكال في رجال هذا السند، إلّا عكرمة مولي ابن عباس؛ لعدم توثيقه من جانب مشايخ رجالنا. و لكن ورد في شأنه رواية عن الصادق، عن أبي جعفر أنّه عليه السلام قال في حق الرجل بعد موته: «لو أدركت عكرمة عند الموت لنفعته. قيل لأبي عبد اللّه عليه السلام بما إذا ينفعه؟ قال: كان يلقّنه ما أنتم عليه. فلم يدركه أبو جعفر و لم ينفعه» «2».

و استظهر الكشي من هذه الرواية ذمّ عكرمة؛ حيث إنّه قال: - بعد نقل الرواية-: «و هذا

نحو ما يُروي: لو اتخذت خليلًا لاتخذت فلاناً خليلًا. لم يوجب لعكرمة مدحاً، بل أوجب ضدّه» «3».

و لكن الظاهر عدم دلالة الجملة المزبورة علي ذم الرجل لو لم يُفد مدحه من حيث غير فساد العقيدة، بل هو الظاهر؛ لأنّ حسن حاله من ساير الجهات أوجب استحقاق الرجل لإيصال النفع إليه من جانب الامام بتلقينه مسألة الامامة و الولاية، و لعدم دلالة الرواية علي أكثر من فساد عقيدة الرجل من حيث الولاية و الامامة. مع عدم ورود ذمّ في الرجل من أحد، بل الظاهر تلقّي الأصحاب هذه الخطبة بالقبول.

______________________________

(1) معاني الاخبار: ص 361 و علل الشرائع: ج 1، ص 151.

(2) معجم رجال الحديث: ج 12، ص 177.

(3) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 196

و أيضاً رواها الشيخ الطوسي بسنده في الأمالي «1». و رواه في الاحتجاج بقوله: «و روي جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس» «2».

و أيضاً رواها أهل العامة بطرقهم العديدة، مع كونها عليهم.

فلا يبقي شك في صدور هذه الخطبة. و لا ريب في اشتهار روايتها بين الخاصّة و العامة.

و منها: قول أمير المؤمنين عليه السلام في توبيخ بعض أصحابه: «و إنّي لَعالِمٌ بما يُصلحكم و يقيم أودَكم، و لكنّي لا أري إصلاحكم بافساد نفسي» «3». و رواه الشيخ المفيد في الارشاد «4». و قد دلّ علي تقديم حفظ نفسه عن الاعوجاج لأهمّيته من إصلاح جَهلَة أصحابه.

و منها: معتبرة مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد عليه السلام يقول: «و كان أبي رضي اللّٰه عنه يقول في دعائه: ربِّ أصلح لي نفسي؛ فانّها أهم الأنفس إليّ. ربّ أصلح لي ذريتي؛ فإنّهم يدي و عضدي. ربِّ و أصلح لي

أهل بيتي؛ فانّهم لحمي و دمي. ربِّ أصلح لي جماعة إخواني و محبّي؛ فانّ صلاحهم صلاحي» «5». و دلالة هذه المعتبرة علي المطلوب واضحة؛ حيث إنّه عليه السلام علّل دعائه و طلبه إصلاح نفسه من اللّٰه بأنّها أهمّ من ساير الأنفس.

و من هذا القبيل ما دلّ من النصوص علي تقديم الفريضة علي النافلة و تقديم الفرائض بعضها علي بعض.

______________________________

(1) أمالي الشيخ الطوسي: ص 372- 373.

(2) الاحتجاج: ج 1، ص 281- 283.

(3) نهج البلاغة، صبحي الصالح: ص 99 خ 69.

(4) الارشاد: ص 272.

(5) قرب الاسناد: ص 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 197

مثل صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهم السلام، قال: «سألته عن صلاة الكسوف في وقت الفريضة، فقال: أبدأ بالفريضة، فقيل له: في وقت صلاة الليل، فقال: صلّ صلاة الكسوف قبل صلاة الليل» «1».

و نحوه صحيحه الآخر و صحيح ابراهيم بن عثمان. «2»

و مثله ما دلّ علي تقديم فريضة الحج- في المال الموصي به للحج و العتق و الصدقة-؛ معلّلًا بأنها فريضة، كما في صحيح معاوية بن عمّار، قال: «دخلت عن أبي عبد اللّه عليه السلام، فقلت له: إنّ امرأة من أهلي ماتت و أوصت إليّ بثلث مالها، و أمرت أن يعتق عنها و يحجّ عنها و يتصدّق، فنظرت فيه فلم يبلغ، فقال: أبده بالحجّ فانّه فريضة من فرائض اللّٰه عزّ و جلّ، و اجعل ما بقي طائفة في العتق، و طائفة في الصدقة، فأخبرت أبا حنيفة قول أبي عبد اللّه عليه السلام فرجع عن قوله و قال يقول أبي عبد اللّه عليه السلام» «3».

و في صحيحة الآخر عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «في امرأة أوصت بمال في عتق

و حجّ و صدقة فلم يبلغ، قال: ابدأ بالحج فانّه مفروض فان بقي شي ء فاجعل في الصدقة طائفة و في العتق طائفة» «4».

و من هذا القبيل ما دلّ علي الابتداء باخراج الكفن ثمّ الدين ثمّ الوصية ثمّ الميراث من الدين.

مثل معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «أوّل شي ءٍ يبدأ به من المال الكفن، ثمّ الدين ثمّ الوصية ثمّ الميراث» «5».

______________________________

(1) الوسائل: ب 5، من صلاة الكسوف، ح 1.

(2) المصدر: ح 2 و 3.

(3) الوسائل: ب 65، من أحكام الوصايا، ح 1.

(4) المصدر: ح 2.

(5) الوسائل: ب 28، من الوصايا، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 198

و صحيح محمد بن قيس، عن أبي جعفر 7، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ الدين قبل الوصية، ثمّ الوصية علي أثر الدين، ثمّ الميراث بعد الوصية فانّ أوّل القضاء كتاب اللّٰه» «1».

و النصوص الدالة علي كبري قاعدة الاهمية و صغراها كثيرة جدّاً، يجدها المتتبع في روايات أهل البيت عليهم السلام الواردة في مختلف أبواب الفقه. و سوف يأتي ذكر نصوص اخري واردة في تعيين صغري هذه القاعدة.

ملاكات الأهمية و مواردها الكلية

إنّ ملاكات الأهمية مختلفة باختلاف الموارد و عمدتها هي الموارد التالية:

1- كون أحد الواجبين مندوباً و الآخر واجباً.

2- كون أحد الواجبين أكثر احتراماً و أوجب حفظاً في نظر الشارع، كالدوران بين الصلاة و بين حفظ نفس محترمة من الهلاك، أو بين انقاذ أمير الجيش و بين الجندي في الحرب، أو بين انقاذ عالم ربّاني و مرجع ديني و إنقاذ بين شخص عامّي.

3- إذا كان أحدهما واجباً موسعاً و الآخر مضيقاً، فلا ريب في تقديم المضيق؛ لفوته بتقديم الموسع، دون العكس.

______________________________

(1) المصدر: ح 2.

مباني الفقه

الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 199

4- إذا كان أحدهما واجباً مخيّراً و الآخر معيناً، كما لو دار الأمر بين سفر منذور و بين صوم الكفارة. فالسفر هو الأهم؛ لامكان ابدال صوم الكفّارة باطعام المسكين، دون السفر المنذور. و غير ذلك من أنحاء موجبات الأهمية في نظر الشارع.

هذا في العبادات، و كذا في المعاملات، كما لو توقّف أداء دين واجب أو الوفاء بنذر أو علاج مريض علي معاملة. فاذا دار الأمر بين مثل هذه المعاملة و بين ما ليس فيه الخصوصية المزبورة تُقدَّم المعاملة الاولي؛ لأهميتها. و ملاكات الأهمية و مواردها كثيرة خارجة عن حدّ الاحصاء.

موارد الأهمية في لسان النصوص

ثمّ إنّ الملاك في إحراز أهمية أحد الواجبين علي الآخر، إما بحكم الشرع أو بحكم العقل.

أما الشرع فمن ملاكات الأهمية المستفادة من النصوص الشرعية، ما دلّ منها علي تقديم الواجب بحكم اللّٰه علي الواجب بشرط المكلف و عهده و نذره.

فمن هذه النصوص قول أبي جعفر عليه السلام: «إنّ شرط اللّٰه قبل شرطكم» في موثق محمد بن قيس. و أيضاً رواه العياشي عن ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام «1».

و أيضاً قد وردت النصوص من الشارع في بعض الواجبات و المحرّمات دلّت علي أهميتها، كما في الدماء و الفروج و أعراض المؤمنين كما ورد أنّ المؤمن أعظم حرمة من الكعبة، بل من جميع حُرمات اللّٰه. مثل ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام:

«إنّ اللّٰه حرّم حراماً غير مجهول، و أحلّ حلالًا غير مدخول و فضّل حرمة المسلم من الحُرُم كلّها» «2». و كذا ورد في الكبائر ما دلّ علي أهميتها من ساير المحرّمات.

فمن هذه النصوص:

صحيحة عبيد بن زرارة، قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الكبائر فقال:

هنّ في

______________________________

(1) الوسائل: ج 15، ص 290، ب 13، ح 2، و ص 47 ب 38، ح 1 و ص 31 ح 6.

(2) نهج البلاغة/ للشيخ محمد عبده: ج 2، ص 79، الخطبة 167.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 200

كتاب علي عليه السلام سبع: الكفر باللّٰه و قتل النفس و عقوق الوالدين و أكل الربا بعد البيّنة و أكل مال اليتيم ظلماً و الفرار من الزحف و التعرُّب بعد الهجرة. قال: فقلت: هذا أكبر المعاصي؟ فقال عليه السلام: نعم. قلت: فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلماً أكبر أم ترك الصلاة؟

قال عليه السلام: ترك الصلاة، قلت: فما عددت ترك الصلاة في الكبائر؟ قال عليه السلام: أيُّ شي ء أوّلُ ما قلت لك؟ قلت الكفر، قال عليه السلام: فانّ تارك الصلاة كافر، يعني من غير علّة» «1».

بل دلّت النصوص علي أهمّية بعض الكبائر علي بعضها، كصحيح عبد العظيم الحسني قال: «حدّثني أبو جعفر الثاني عليه السلام، قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبي موسي بن جعفر يقول: دخل عمرو بن عبيد علي أبي عبد اللّه عليه السلام. فلمّا سلم و جلس تلا هذه الآية: الذين يجتنبون كبائر الاثم و الفواحش، ثمّ أمسك، فقال له أبو عبد اللّٰه عليه السلام ما أسكتك؟ قال: احبّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللّٰه عزّ و جلّ، فقال: نعم يا عمرو أكبر الكبائر الاشراك باللّٰه. يقول اللّٰه: و من يشرك باللّٰه فقد حرم اللّٰه عليه الجنّة. و بعده الأياس من روح اللّٰه عزّ و جلّ يقول: و لا ييأس من روح اللّٰه إلّا القوم الكافرون، ثمّ الأمن من مكر اللّٰه لأنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول: و لا يأمن مكر اللّٰه

إلّا القوم الخاسرون … الحديث» «2».

و في خبر الكراجكي، قال عليه السلام: «الكبائر تسعٌ أعظمهنّ الاشراك باللّٰه عزّ و جلّ و قتل النفس المؤمنة، و أكل الربا، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات و الفرار من الزحف و عقوق الوالدين و استحلال البيت الحرام، و السحر. فمن لقي اللّٰه عزّ و جلّ و هو بري ءٌ منهنّ، كان معي في جنةٍ مصاريعها الذهب» «3».

و خبر محمد بن مسلم- في حديث-، قال: «قلت: فأيُّ شي ءٍ الكبائر؟ قال عليه السلام:

أكبر الكبائر الشرك باللّٰه، و عقوق الوالدين، و التعرب بعد الهجرة، و قذف المحصنة و

______________________________

(1) الوسائل: ب 46، من أبواب جهاد النفس، ح 4.

(2) المصدر: ح 2.

(3) المصدر: ح 37.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 201

الفرار من الزّحف و أكل مال اليتيم ظلماً، و الربا بعد البيّنة، و قتل المؤمن» «1».

و قال الصدوق في ذيل الخبر المزبور: «الأخبار في الكبائر ليست مختلفة؛ لأنّ كل ذنب بعد الشرك كبير بالنسبة إلي ما هو أصغر منه، و كل كبير صغير بالنسبة إلي الشرك باللّٰه» «2».

و نظيره عن الطبرسي- ناسباً له إلي الأصحاب-؛ حيث قال: «قيل: كلّ ما نهي اللّٰه عنه، فهو كبيرة، عن ابن عباس. و إلي هذا ذهب أصحابنا، فانهم قالوا:

المعاصي كلها كبيرة من حيث كانت قبائح، لكن بعضها أكبر من بعض. و ليس في الذنوب صغيرة، و إنّما يكون صغيراً بالاضافة إلي ما هو أكبر منه و يستحق العقاب عليه أكثر» «3».

و من هذا القبيل ما دلّ علي أهمية بعض الواجبات؛ كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كقول الباقر عليه السلام في خبر جابر: «و لو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم و أبدانهم، لرفضوها،

كما رفضوا أسمي الفرائض و أشرفها، إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض» «4».

و في صحيحة طلحة بن زيد و عبد اللّه بن محمد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «إنّ رجلًا من خثعم جاءَ إلي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله فقال: يا رسول اللّٰه أخبرني ما أفضل الاسلام؟

قال صلي الله عليه و آله: الايمان باللّٰه. قال: ثمّ ما ذا؟ قال صلي الله عليه و آله: صلة الرحم. قال: ثمّ ما ذا؟ قال صلي الله عليه و آله: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. قال: فقال الرجل: فأخبرني أيّ الأعمال أبغض إلي اللّٰه:

قال صلي الله عليه و آله: الشرك باللّٰه. قال: ثمّ ما ذا؟ قال صلي الله عليه و آله: ثمّ قطيعة الرحم. قال: ثمّ ما ذا؟ قال صلي الله عليه و آله: الأمر

______________________________

(1) المصدر: ح 35.

(2) المصدر: ذيل الحديث المزبور.

(3) تفسير مجمع البيان: ج 4- 3، ص 38.

(4) الوسائل: ب 1، من أبواب الأمر و النهي، ح 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 202

بالمنكر و النهي عن المعروف» «1».

و منه ما دلّ علي أهمية الجهاد في سبيل اللّٰه و الواجبات الخمسة المبني عليهما الاسلام، و الولاية المعلَّلة أهمّيتها بأنّها مفتاحهنّ.

فمن هذه النصوص قول أبي عبد اللّه عليه السلام: «الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض» في خبر حيدرة «2».

و منها: معتبرة السكوني عن جعفر عليه السلام عن أبيه عليه السلام عن آبائه عليهم السلام «إنّ النبي صلي الله عليه و آله قال: فوق كلِّ ذي برٍّ برٌّ، حتي يقتل في سبيل اللّٰه. فاذا قتل في سبيل اللّٰه، فليس فوقه برٌّ. و فوق كلِّ ذي عقوق

عقوقٌ، حتي يقتل أحد والديه. فاذا قتل أحد والديه، فليس فوقه عقوق» «3».

و منها: معتبرة منصور بن حازم، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها و برّ الوالدين و الجهاد في سبيل اللّٰه» «4».

و من هذه النصوص:

صحيح أبي حمزة بن أبي جعفر عليه السلام، قال: «بُني الاسلام علي خمس: علي الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الولاية و لم يناد بشي ء كما نودي بالولاية» «5».

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «بُني الاسلام علي خمسة أشياء: علي الصلاة و الزكاة و الحج و الصوم و الولاية، قال زرارة: فقلت: و أيّ شي ء من ذلك أفضل؟

فقال: الولاية أفضل، لانّها مفتاحهنّ و الوالي هو الدليل عليهنّ، قلت: ثمّ الذي يلي ذلك في

______________________________

(1) المصدر: ح 11.

(2) الوسائل: ب 1، من أبواب جهاد العدوّ، ح 9.

(3) المصدر: ح 21.

(4) المصدر: ح 28.

(5) اصول الكافي، ج 1، ص 18، ح 1 و 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 203

الفضل: فقال: الصلاة إنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله قال: الصلاة عمود دينكم قال: قلت: ثمّ الذي يليها في الفضل؟ قال: الزكاة لانّه قرنها بها و بدأ بالصلاة قبلها و قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله الزكاة تذهب الذنوب. قلت: و الذي يليها في الفضل؟ قال عليه السلام: الحج» «1».

و أما موارد إحراز الأهمية بحكم العقل، فمثل إنقاذ النفس علي الغير، أو تقديم إنقاذ الوالدين و الولد علي انقاذ الغير، أو تقديم حفظ المال الكثير علي المال القليل، و غير ذلك من موارد تقديم ما هو أهمّ في نظر العقل؛ حيث إن ما استقل له

العقل يحكم به الشرع قطعاً فيما إذا لم يرد منه نص بخلاف حكم العقل.

و ذلك لأنّ العقل حجّة من اللّٰه علي العباد، كما نطقت بذلك الآيات القرآنية و النصوص المتواترة، و لا مجال هاهنا إلي ذكرها. و من هنا اتفق الفقهاء و الاصوليون علي كون العقل من أحد الأدلة الأربعة التي هي من مصادر التشريع الاسلامي.

مقتضي القاعدة في محتمل الأهمية

وقع الكلام في أنّ مقتضي القاعدة عند احتمال أهمية أحد الواجبين، هل هو حكم العقل بتقديم محتمل الأهمية؟ أو لا حكم له بتقديم أحدهما حينئذٍ بعد عدم إحرازه أهمية شي ءٍ منهما. و عليه فالقول بوجوب تقديم محتمل الأهمية خلاف مقتضي القاعدة و لا يمكن الالتزام به. و ذلك لأنّ موضوع حكم العقل الحكم بوجوب طاعة أمر المولي و امتثاله؛ تحصيلًا للمؤمّن من العقاب المحتمل. و ذلك إنّما إذا أحرز العقل أهمية أحد الواجبين في نظر الشارع، و إلّا فلا موضوع لحكمه.

يظهر من المحقق الهمداني القول الثاني؛ حيث إنّه قال: «لا يبعد دعوي القطع

______________________________

(1) المصدر: ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 204

من طريقة الشارع و المتشرعة عملًا و فتوي بعدم الاعتناء باحتمال الأهمية و أن المرجع في مثل الفرض و نظائره التخيير …؛ إذ لم يثبت أهمية أحد الأمرين، فمن الجائز مساواتهما في الواقع» «1».

و يظهر من بعض المحققين تقديم محتمل الأهمية بحكم العقل؛ نظراً إلي العلم بعذرية العمل بمحتمل الأهمية عن الآخر دون العكس.

قال: «و حيث يُعلم بكون محتمل الأهمية عذراً عن الآخر و لا يُعلم العكس، تعيّن التحفظ علي محتمل الأهمية عقلًا» «2»

و فيه: أنّ تعلُّق أمر الشارع بكل واحد منهما و عدم إحراز الأهمية يكفي في العذرية، و لا دخل لاحتمال الأهمية في

العذرية؛ لمكافأته باحتمال المساواة.

و لكن مقتضي التحقيق وجوب تقديم محتمل الأهمية. و هذا الوجوب ثابت بحكم العقل فيما إذا احتمل أهمية أحد الواجبين بعينه دون الآخر. و لا حكم له بذلك فيما إذا احتمل أهمية كلّ واحد منهما أو احتمل أهمية أحدهما لا بعينه.

و الوجه في حكمه بوجوب تقديم محتمل الأهمية في الصورة الاولي- من الصور الثلاث المزبورة- أنّه لا يري المؤمّن من العقاب المحتمل حاصلًا في الاتيان بما لا يحتمل أهميته، بل إنّما يراه حاصلًا في الاتيان بخصوص محتمل الاهمية؛ لانه بترك محتمل الاهمية و تقديم الآخر لا يزال يحتمل العقاب، حيث يحتمل كون المأمور به محتمل الأهمية دون الآخر؛ لتعلّق الأمر بالأهمّ، فلا يحصل له حينئذٍ اليقين بطاعة المولي، بل يحتمل مخالفته. و من هنا لا يري المؤمّن من العقاب المحتمل حاصلًا. و لمّا يحكم العقل بلزوم تحصيل المؤمّن و

______________________________

(1) مصباح الفقيه: ج 2، ق 1، ص 104.

(2) مصباح المنهاج للسيد محمد سعيد الحكيم: ج 2، ص 47.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 205

يري تحصيله متوقفاً علي الاتيان بمحتمل الأهمية، فمن هنا يحكم بوجوب تقديم الأهم. و مع تقديمه يحصل له الأمن و لا يحتمل العقاب بترك المهم؛ حيث إنّه لمّا لا يحتمل أهميته، لا يحتمل الأمر بخصوصه، فلا يحتمل بتركه مخالفة أمر الشارع.

و بعبارة اخري: إنّ في فرض تعلّق الأمر بكلٍّ منهما، بعد العلم بكون تقديم الأهم مطلوب الشارع و احتمال أهمية أحدهما بعينه دون الآخر، إنّما يري العقل الأمن من العقاب بتقديم محتمل الأهمية، دون العكس.

و يشهد لما قلناه كلمات فحول الفقهاء في ذلك منهم السيد الحكيم، فانّه قد حكم بوجوب تقديم محتمل الأهمية في موارد عديدة، و

علّل التقديم في موردٍ بقوله: «و أن عُلِم بأهميته أحدهما بعينه أو مساواته للآخر، فقد عُلِم بوجود الملاك في محتمل الأهمية و شُك في وجوه في الآخر» «1».

و علّله في موضع آخر بقوله: «مع احتمال الأهمية في أحد الطرفين بعينه يُعلم بوجود الملاك في محتمل الأهمية؛ إمّا تعييناً أو تخييراً بينه و بين الآخر فيجب بعينه عقلًا، دون الآخر» «2».

و ممن صرّح بتقديم محتمل الأهمية في مواضع عديدة من مختلف الفروع الفقهية، هو السيد الخوئي.

و قد علّل تقديمه في موضع بقوله: «و إذا كان أحد الحكمين محتمل الأهمية وجب الأخذ به، و سقط الإطلاق في غيره قطعاً.

و الوجه في ذلك: أنّه لا يجوز للمكلّف تفويت الغرض الملزم- بعد إحرازه-

______________________________

(1) مستمسك العروة: ج 1، ص 551.

(2) المصدر: ص 550.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 206

إلّا بعجزه عن الامتثال تكويناً أو بتعجيز المولي إياه: بأن يأمره بما لا يجتمع معه في الخارج و إذا لم يوجد شي ءٌ من الأمرين حكم العقل بقبح التفويت. و استحقاق العقوبة عليه.

و علي هذا فاذا كان أحد الحكمين المتزاحمين معلوم الأهمية فلا شبهة في وجوب الأخذ به، لأنّ الملاك في الطرف الآخر و إن كان ملزماً في نفسه، إلّا أن تفويته مستند إلي تعجيز المولي، ضرورة أن المولي قد أمر المكلّف بصرف قدرته في الأهمّ، فاذا أتاه المكلّف كان معذوراً في ترك المهم، و تفويت ملاكه، و هذا بديهي لا ريب فيه.

و إذا كان أحد الحكمين المتزاحمين محتمل الأهمية فأيضاً لا شبهة في لزوم الأخذ به، و ذلك لما عرفته- قريباً- من أنّه لا يجوز للمكلّف عقلًا أن يترك الملاك الملزم- بعد إحرازه- إلّا بالعجز عن الامتثال تكويناً، أو

تشريعاً و من الواضح أنّ المكلّف قادر علي الامتثال بمحتمل الأهمية، و لو بترك الآخر و إذن فلا يجوز ترك محتمل الأهمية، لحكم العقل بالاشتغال، و استحقاق العقاب علي تحركه من غير عذر» «1».

التنبيه

علي نكتتين

ينبغي التنبيه علي نكتتين في المقام:

إحداهما: إنّ منشأ احتمال الأهمية إنّما هو لسان الخطابات الشرعية و دلالتها إمّا بالمطابقة و الصراحة أو بالظهور السياقي من شدّة مرتبة العقوبة و الوعيد و الآثار السيئة علي ترك الواجبات و إتيان المحرمات. و لا ينشأ احتمال الأهمية من حكم العقل؛ نظراً إلي عدم تطرّق

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: ج 3، ص 311- 312.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 207

الاحتمال في حكمه.

ثانيتهما: أنّه لا تأتي قاعدة تقديم محتمل الأهمية في باب التعارض؛ لأنّ هناك يكون الدوران بين المتعارضين راجعاً إلي اشتباه الحجة باللاحجّة و إلي تعارض الحجتين في إثبات أصل التكليف و لا مناص في ذلك من تبعية الشارع في ملاك الترجيح.

و إنّما تأتي في باب التزاحم؛ لأنّ الدوران من ناحية عدم تمكن المكلّف من الامتثال بواجبين ثبت فيهما أصل التكليف، و هو يستدعي الفراغ اليقيني. و حينئذٍ يأتي التوجيه المتقدّم في تقديم محتمل الأهمية. و لا يخفي أنّ هذا الكلام إنّما يأتي في التخيير الاصولي قطعاً.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 208

مجاري القاعدة و تطبيقاتها الفقهية

اشارة

1- تقديم اليومية علي الآيات و الفريضة علي النافلة.

2- لو دار الأمر بين القيام و الركوع و السجود.

3- لو دار الأمر بين الوضوء و رفع العطش.

4- لو دار الأمر بين الواجب المالي و بين الواجب البدني.

5- لو دار الأمر بين الصلاة عرياناً و بين الصلاة في غير مأكول اللحم.

6- لو دار الأمر بين تطهير مصحف الغير و بين

الاستيذان منه.

7- لو دار الأمر بين الصلاة عارياً و بين الصلاة في الثوب المعلوم نجاسته اجمالًا.

اتضح في تبيين مفاد هذه القاعدة أنها تجري عند التزاحم بين كل واجبين أحدهما أهمّ ملاكاً في نظر الشارع. و من مجاري هذه القاعدة موارد دفع الأفسد بالفاسد.

و قد اشتهر بين الفقهاء و الاصوليين لزوم دفع الأفسد بالفاسد و جعل ذلك من موارد جريان قاعدة الأهمية، كما نسب إليهم الفقيه المحقق السيد الخوانساري في توجيه قبول الولاية من قبل الجائر؛ حيث قال: «و أما ما ذكر من أنّ الولاية إن كانت محرّمة …، فالظاهر أنّ نظر المستدل إلي ما هو المشهور، من لزوم دفع الأفسد بالفاسد في بعض الصور و لزوم حفظ الأهمّ الواجب، و إن

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 209

كان مستلزماً لفعل الحرام في بعض الصور» «1».

و قد تمسك الفقهاء بقاعدة الأهميّة في جميع أبواب الفقه، من العبادات و المعاملات و في فروع كثيرة لا تُحصي. و نكتفي هاهنا بذكر نماذج منها.

فمن هذه الفروع:

تقديم اليومية علي الآيات و الفريضة علي النافلة

مسألة تقديم الصلاة اليومية علي الآيات؛ لأهميتها عند الدوران بينهما. فقد حكم جماعة حينئذٍ بتقديم اليومية. و تردد بعض.

قال الشهيد الأوّل: لو اشتغل بالكسوف لظنّه سعة الحاضرة فتبيّن ضيق وقتها، ففي تقديم أيهما وجهان للفاضل، من سبق انعقاد الكسوف فيُتمّها للنهي عن إبطال العمل، و من أهمية الحاضرة» «2».

و منها: ما لو كان أحد مشتغلًا بالنافلة فأحرم امام الجماعة للصلاة فحكم الفقهاء بجواز قطع النافلة للدخول في صلاة الجماعة. كما صرّح بذلك المحقق النراقي بقوله: «لو كان أحد في نافلة فأحرم الامام للصلاة قال جماعة: إنّه يقطع

______________________________

(1) جامع المدارك: ج 3، ص 60.

(2) الذكري: ص 247.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية

الأساسية، ج 3، ص: 210

النافلة إن خاف الفوات، و يدخل الفريضة مع الامام … و استُدِلّ له تارةً بأنّ فيه تحصيلًا لما هو أهمّ في نظر الشارع فإنّ الجَماعة في نظره أهمّ من النافلة» «1».

______________________________

(1) مستند الشيعة: ج 8، ص 139.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 211

لو دار الأمر بين القيام و الركوع و السجود

و منها: ما لو دار الأمر بين القيام و بين الركوع و السجود لم يتعذّر رفع رأسه عن الركوع و السجود لمرض أو مانع آخر. فمقتضي القاعدة حينئذٍ- كما قال في الجواهر- تقديم القيام لأنّه مقدّم علي الركوع؛ نظراً إلي ترتّبهما عليه. فاذا تمكّن من القيام وجب عليه، و إذا وصل إلي الركوع و السجود و لم يتمكّن سقطا عنه، كما أفتي المشهور بذلك و عملوا بمقتضي القاعدة.

و لكن حكم في كشف اللثام بتقديم الركوع و السجود علي القيام؛ نظراً إلي أهمّيتها و تبعه جماعة و قوّاه في الجواهر. و قد أجاد في الجواهر في تحرير ذلك؛ حيث قال:

«و لو دار أمره بين الركوع و السجود جالساً و بين القيام خاصة لتعذّر الجلوس عليه بعده للسجود أو للركوع و الانحناء قائماً قام و أو ما بهما كما صرح به بعضهم، بل يظهر من آخر أنّه المشهور بل المتفق عليه، بل في الرياض عن جماعة دعوي الانفاق عليه، لاشتراط الجلوس بتعذر القيام في النصوص و لأنّ الخطاب بأجزاء الصلاة مرتب، فيراعي كل جزء حال الخطاب به بالنسبة إليه و بدله، ثمّ الجزء الثاني و هكذا إلي تمام الصلاة، و لما كان القيام أول أفعالها وجب الاتيان به مع القدرة عليه. فاذا جاء وقت الركوع و السجود خوطب بهما، فإن استطاع و إلّا فبدلهما.

و يحتمل كما مال إليه

في كشف اللثام تقديم الجلوس و الاتيان بالركوع و السجود، بل قال: و كذا إذا تعارض القيام و السجود وحده، و لعله لأنّهما أهم من القيام، خصوصاً بعد أن ورد أن الصلاة ثلث طهور، و ثلث ركوع، و ثلث سجود و أن أول الصلاة الركوع و نحو ذلك. و لأنّ أجزاء الصلاة، و إن كانت مرتبة في الوقوع، إلّا أنّ الخطاب بالجميع واحد حاصل من الأمر بالصلاة. فمع فرض تعذر الاتيان بها كما هي اختياراً، وجب الانتقال إلي بدلها الاضطراري. و لما كان متعدداً؛ ضرورة كونه إما القيام وحده أو الجلوس مع استيفاء باقي الأفعال، وجب الترجيح بمرجح شرعي. و لعلَّ الأهمية و نحوها منه، و أنّها أولي بالمراعاة من السبق؛ لما عرفت- إلي أن قال-: و المسألة لا تخلوا من إشكال، و إن كان احتمال تقديم الجلوس قوياً» «1».

لو دار الأمر بين الوضوء و رفع العطش

و منها: من كان معه ماءٌ و دار أمره بين الوضوء به و بين رفع شربه لخوف العطش، فقد أفتي الفقهاء حينئذٍ سقوط الوضوء و جواز الاكتفاء بالتيمّم؛ مستدلّاً بهذه القاعدة.

كما علّل بها في الجواهر:

«لو كان معه ماءٌ للشرب و خاف العطش علي نفسه أن استعمله في الحال أو المآل إجماعاً محصلًا و منقولًا عن علمائنا، بل و عن كل من يحفظ عنه العلم مستفيضاً و سنة بالخصوص كذلك فضلًا عن عمومها و عمومات الكتاب، و علي رفيقة المسلم المحترم الدم، سيما إذا كان ممن تجب نفقته عليه بلا خلاف أجده فيه أيضاً: لأهمية حفظ النفس في نظر الشارع بدليل تقديمه علي غيره من الواجبات كقطع الصلاة لانقاذها و غيره مما لا بدل له، فضلًا عما له بدل مساو له في الطهورية» «2».

______________________________

(1) جواهر الكلام:

ج 9، ص 256.

(2) جواهر الكلام: ج 5، ص 114.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 212

لو دار الأمر بين الواجب المالي و بين الواجب البدني

و منها: ما لو وقع التزاحم بين الواجب المالي و بين الواجب البدني في العمل بالوصية بهما باخراجهما من الثلث. فقد نُسب إلي المشهور تقديم الواجب المالي؛ نظراً إلي جواز إخراجه من أصل التركة في غير مورد الوصية، بخلاف الواجب البدني، فانّه يُخرج من الثلث.

و لكن حَكمَ في المسالك بتقديم الواجب البدني في مفروض الكلام و تعجّب منه الشيخ الأعظم بعد الاشارة إلي مخالفته للمشهور مع التفاته إلي كلام المحقق الثاني؛ حيث إنّه صرّح بكون ذلك لازم قول المشهور بجواز اخراج الواجب المالي من أصل لتركة، دون البدني.

فانه قدس سره،- بعد الاشارة إلي ما صرّح به المحقق الكركي و إلي مخالفة صاحب المسالك- وجّه كلام صاحب المسالك بكون الواجب البدني أهم من المالي، ثمّ أشكل في احراز صغري الأهمية. قال: «و بالجملة فلا إشكال في كون هذا القول خلاف المشهور، بل الظاهر تفرّد صاحب المسالك به، و إن كان عجيباً مع التفاته قدس سره إلي كلام المحقق الثاني كما هو عادته في غير موضع.

نعم، يمكن الاستدلال عليه بانّه أهمّ، و بالتعليل في الرواية السابقة بكون الحج فريضة، و أنّ ما بقي من الفريضة يجعل في النوافل.

و يمكن التفصّي عن الأهمية بأنّها اعتبار عقلي لا يصلح لأن يرفع به اليد عمّا يقتضيه القاعدة الشرعية من كون نسبة الوصيّة التي هي السبب في الاخراج من الثلث إلي الواجب البدني و غيره علي السواء؛ إذ المفروض أنّه لا سبب لخروجه من المال سوي الوصيّة، بل لا وجه لمزاحمة غيره به عند تأخّر

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3،

ص: 213

الوصية به عن الوصية لغيره؛ لأنّ مقتضي القاعدة- كما سيجي ء- تقديم الأوّل فالأوّل» «1».

لو دار الأمر بين تطهير مصحف الغير و بين الاستيذان منه

و منها: مسألة تطهير مصحف الغير إذا تعذّر الاستئذان منه و لم يلزم من ترك التطهير هتك المصحف؛ حيث لا إشكال في وجوب تطهيره بلا اعتبار إذن صاحبه.

فقد أشكل السيد في العروة «2» في جواز تطهيره بغير اذنه في مفروض الكلام.

و قد أدرج السيد الشهيد الصدر المسألة في باب التزاحم و قاعدة الأهمية إذا كان متعلق الوجوب تحصيل الطهارة و في باب التعارض إذا كان متعلق الوجوب نفس التطهير بما أنّه فعلٌ و حكم بدخول الشق الثاني في محتمل الأهمية باعتبار ملاك وجوب التطهير و سمّاه بالتزاحم الملاكي و جزم بعدم كفاية احتمال الأهمية فيه لتقديم محتملة، بل إنّما المعتبر فيه العلم بالأهمية.

قال قدس سره: «و أما إذا تعذّر الاستئذان و تحصيل الاذن، فتارة: يفرض عدم ترتب الهتك و المهانة علي ترك التطهير. و اخري: بفرض ترتب ذلك علي الترك.

فعلي الأوّل يقع التنافي بين دليل وجوب التطهير و دليل حرمة التصرف في مال الغير و قد قيل إنّ هذا التنافي يدخل في باب التزاحم و يقدم الحكم بحرمة التصرف في مال الغير؛ لاحتمال أهميته. و لكن إذا فرض أنّ متعلق الوجوب

______________________________

(1) رسالة الوصايا و المواريث/ إعداد لجنة التحقيق: ص 72.

(2) العروة الوثقي: المسألة 29، من أحكام النجاسات.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 214

نفس التطهير بما هو فعل المكلّف، لا الاثر الحاصل منه. فالمقام يدخل في باب التعارض فدخوله في مسألة اجتماع الأمر و النهي؛ لأنّ التطهير و التصرف في مال الغير ينطبقان علي شي ءٍ واحد. فلا بد من تطبيق قواعد باب التعارض، اللّهم إلّا أن يدَّعي كون

ملاك كل من الحكمين محرزاً في مادة الاجتماع فيدخل في التزاحم الملاكي. و في التزاحم الملاكي يقدَّم معلوم الأهمية و لا يكفي احتمال الاهمية لتقديم كما حققناه في محله من الاصول» «1».

و فيه أنّ مقصوده قدس سره من الملاك لو كان هو مصلحة جعل الحكمة و ما فيه من الحكمة فلا يكفي معلومه للتقديم فضلًا عن محتمله.

و إن كان مقصوده الملاك المنصوص أهميته من جانب الشارع أو الذي يستقل به العقل- كما قلنا في بيان مدرك القاعدة- فانما يكفي محتملة لحسن الاحتياط لا وجوبه فضلًا عن كفايته للفتوي بوجوبه؛ لعدم حجّيةٍ للاحتمال و لا دليلية له و من هنا يشكل الحكم بكفاية احتمال الأهمية لوجوب التقديم مطلقاً.

لو دار الأمر بين الصلاة عرياناً و بين الصلاة في غير مأكول اللحم

و منها: ما لو دار أمر المصلّي بين الصلاة عرياناً و بين الصلاة في غير مأكول اللحم، فحكم الفقهاء في المقام بجريان قاعدة الأهمية، كما صرّح بذلك السيد الحكيم؛ حيث قال: «و حينئذٍ يدور الأمر بين الخلل الحاصل من وجود المانع علي تقدير لبس غير مأكول اللحم و بين الخلل الحاصل بفقد الساتر فقط علي تقدير نزعه، أو مع فوات الركوع و السجود لو فرض أن حكم العاري الايماء، فيرجع حينئذٍ إلي قواعد التزاحم من ترجيح الأهم

______________________________

(1) شرح العروة الوثقي: ج 4، ص 332.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 215

المعلوم الأهمية و كذا محتمل الأهمية» «1».

لو دار الأمر بين الصلاة عارياً و بين الصلاة في الثوب المعلوم نجاسته إجمالًا

و منها: ما لو دار أمر المصلّي بين الصلاة عرياناً و بين الصلاة في غير مأكول اللحم، فحكم الفقهاء في المقام بجريان قاعدة الأهمية، كما صرّح بذلك السيد الحكيم؛ حيث قال: «و حينئذٍ يدور الأمر بين الخلل الحاصل من وجود المانع علي تقدير لبس غير مأكول اللحم و بين الخلل الحاصل بفقد الساتر فقط علي تقدير نزعه، أو مع فوات الركوع و السجود لو فرض أن حكم العاري الايماء، فيرجع حينئذٍ إلي قواعد التزاحم من ترجيح الأهم المعلوم الأهمية و كذا محتمل الأهمية» «2».

[لو دار أمر المصلي بين الصلاة عارياً و بين الصلاة في أحد الثوبين- المعلوم نجاسة أحدهما اجمالًا- معيّناً أو مخيّراً.]

و منها: ما لو دار أمر المصلي بين الصلاة عارياً و بين الصلاة في أحد الثوبين- المعلوم نجاسة أحدهما اجمالًا- معيّناً أو مخيّراً.

فحكم السيد الامام بتقديم الصلاة عارياً لأهمية الطهارة في الصلاة من الستر فيها؛ لإجماع الفقهاء علي تقديم الصلاة عارياً علي الصلاة في الثوب المقطوع نجاسته، فكذلك في المقام. لكنه احتمل أهمية الستر عند تعدد المطلوب في فرض عدم العلم بنجاسة أحد الثوبين بعينه.

قال قدس سره: «يمكن أن يقال: إنّ الأوجه وجوب الصلاة عارياً، لأنّ أهمية مراعاة المانع كما أوجبت الصلاة عارياً مع النجس المحرز توجب تقديم الموافقة الاحتمالية فيه علي الموافقة الاحتمالية في الستر عقلًا في مقام الامتثال، فيجب

______________________________

(1) مستمسك العروة: ج 5، ص 389.

(2) مستمسك العروة: ج 5، ص 389.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 216

الصلاة عارياً، إلّا أن يقال: إنّه مع احتمال تعدد المطلوب يأتي احتمال أهمية الستر من المانع كما يحتمل العكس فالقاعدة التخيير» «1».

______________________________

(1) كتاب الطهارة: ج 3، ص 591.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 217

«قاعدة» «القرعة»

اشارة

منصة القرعة في الفقه و كلمات الفقهاء

تعريف القرعة و ماهيتها

مدرك القاعدة

شرائط القرعة

مجاري القاعدة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 218

«منصة القرعة» «في الفقه و كلمات الفقهاء»

اشارة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 219

1- منصّة القرعة في الفقه.

2- الاستدلال بها في كلمات الفقهاء.

3- أوّل من عبّر عنها بالقاعدة.

4- هل القرعة قاعدة اصولية أو فقهية.

منصّة القرعة

في الفقه

إنّ تشريع قاعدة القرعة يبتني علي أساس رفع المشاكل و الصعوبات التي يواجهها الناس في شئون العيش و مختلف المجالات من امورهم و تعاملاتهم، كما يُشعره التعابير الواردة في نصوص القرعة، كقوله عليه السلام: «كل أمر مشكل ففيه القرعة». «1»

و عليه فيكون تشريع هذه القاعدة مبنياً علي سياسة التسهيل علي العباد في أمر الدين و التيسير لهم في جعل أحكام الشريعة.

ثمّ إنّ قاعدة القرعة قد بحث عنها فحول الفقهاء و الاصوليين في علمي الاصول و الفقه كليهما.

ففي علم الاصول قد بحث عنها الاصوليون في مواضع.

منها: تعيين المشتبه بالمغصوب، كما عن الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين. «2»

و منها: تعيين الحرام المشتبه في الشبهات الموضوعية الخارجية كالغنم

______________________________

(1) عوالي اللئالي: ج 2، ص 112، ح 308.

(2) هداية المسترشدين: ص 460.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 220

الموطوءة المشتبهة و نحوها، كما عن الشيخ الأعظم قدس سره؛ حيث بحث عن جريان القرعة و وجه جريانها في المسألة. «1» و المحقق النائيني تعرّض لها في فوائده. «2»

و منها: مسألة تعارض الاستصحاب مع القرعة. فقد تعرَّض فيها الشيخ الأعظم «3» لقاعدة القرعة و بحث عنها و تبعه في ذلك من تأخّر عنه من الاصوليين. «4»

و منها: مسألة تعارض البينات في باب التعادل و الترجيح. فقد تعرَّض فيها الشيخ الأعظم لقاعدة القرعة و بحث عن وجه

جريانها و كيفية حجيتها. «5»

و أما الفقه فقد بحث الفقهاء عن قاعدة القرعة في مواضع عديدة؛ منها: باب القسمة، و منها: باب القضاء. و قد بحثنا عن هذه القاعدة إجمالًا في أحكام القسمة من كتابنا «دليل تحرير الوسيلة».

و بما بيّناه قد اتضح لك أهمية هذه القاعدة. و أما سابقتها التاريخية، فيكفي لاثبات قدم سابقتها التعرّض لها في نصوص أهل البيت عليهم السلام، بل لها جذر في الشرائع السالفة، كما ستعرف من الكتاب ما يدل علي ذلك.

و لكن هاهنا مشكلة و هي أنّ الفقهاء ربما يتمسّكون بهذه القاعدة في موارد،

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 2، ص 105 و 208 و 210 و 223. و كذا بحث عن ذلك صاحب الكفاية و المحقق العراقي و السيد الخوئي و السيد الامام في أواخر الاستصحاب.

(2) فوائد الاصول: ج 4، ص 678.

(3) راجع فرائد الاصول/ طبع مجمع الفكر الاسلامي: ج 3 ص 385.

(4) كفاية الاصول: ج 2، ص 358- 359 و نهاية الافكار: ج 4، ص 104- 108 و مصباح الاصول: ج 3، ص 341- 343 و الرسائل للسيد الامام الخميني: ج 1، ص 337- 352.

(5) راجع فرائد الاصول: ج 4، ص 31.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 221

و لكنّهم لم يعملوا بها و لم يعتنوا بعموماتها و إطلاقاتها في موارد اخري مشابهة، مع عدم الفرق بينها من جهة ملاك جريان القرعة من وقوع الاشتباه في الموضوع و تردّد الحقوق بين منازعيها. و من هنا اشتبه الأمر علي كثير حتي اقتصر جماعةٌ في حجية القرعة و اعتبارها علي موارد عمل الأصحاب بها و لم يجوّزوا التعميم في جريانها.

و السر في هذه التشويشات و الاضطرابات عدم تنقيح مفاد نصوص

القرعة و نطاقها و شرائط جريانها و ما هو المعيار و الملاك في الرجوع إليها.

و من هنا ينبغي استيفاءُ البحث عن هذه القاعدة و تنقيح الجهات المهمة و النقاط الأساسية منها.

الاستدلال بها في كلمات الفقهاء

قد استدل الفقهاء في فتاواهم بقاعدة القرعة و حكموا بالقرعة في مختلف أبواب الفقه. و لا اختصاص للاستدلال بها في كلمات المتأخرين بل يوجد في كلمات أقدم القدماء، كالمحدث الأجلّ و الفقيه الأقدم الشيخ الصدوق؛ حيث حكم بالقرعة في ولد ولدتها جارية واقعاها رجلان.

قال قدس سره: «و إذا اشتري رجلان جارية، فواقعاها جميعاً فأتت بولد، يُقرع بينهما فمن أصابته القرعة الحق به الولد» «1».

و نظيره في هذا الفرع كلام الفقيه الأجلّ الأقدم الشيخ المفيد «2».

و قال في الجواب عن السؤال حول تعيين المعتَق من العبيد: «مسألة اخري:

______________________________

(1) المقنع/ للشيخ الصدوق: ص 401.

(2) المقنعة/ طبع جماعة المدرسين: ص 544.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 222

رجل كان له ثلاثون عبداً، فأعتق ثلثهم عند موته، فلم يعلم من العتيق منهم.

الجواب: يقرع بينهم. فمن خرجت القرعة عليه، عُتِق» «1».

و أما شيخ الطائفة و المحقق الحلّي و غيرهما من القدماء، فقد حكموا بالقرعة في مواضع عديدة من كلماتهم، سيأتي ذكر بعضها في التطبيقات الفقهية.

أوّل من عبّر عنها بالقاعدة

و لا يخفي أنّ القرعة- رغم كثرة التعرّض إليها و التعبير بلفظها في كلمات القدماء و المتأخرين- لم يُعبّر عنها بالقاعدة.

و أول من رأيته عبّر عنها بالقاعدة، هو الفقيه المحقق السيد المراغي (المتوفي بسنة: 1250 ه ق) في كتابه العناوين. فانه- بعد ما نقل عن قواعد الشهيد أنّ القرعة لا تستعمل في الفتاوي و الأحكام المشتبهة إجماعاً- قال: «و ليس ذلك تخصيصاً لقاعدة القرعة، بل إنّما هو اختصاص و عدم شموله من أصله». «2»

و لكن في كلمات من بعده من الفقهاء جاء التعبير بقاعدة القرعة كثيراً، بل ألّفوا رسائل في هذه القاعدة.

هل القرعة قاعدة اصولية أو فقهية

قد عرفت أنّ الفقهاء و الاصوليين تعرّضوا للبحث عن قاعدة القرعة في مواضع من علمي الفقه و الاصول كليهما.

______________________________

(1) العويس/ طبع المؤتمر العالمي: ص 51.

(2) العناوين/ للسيد المراغي: ج 1، ص 354.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 223

و أما كونها قاعدة فقهية أو اصولية دائر مدار تحقق ملاك أيّهما.

و قد بحثنا في المجلد الأوّل من كتابنا «بدائع البحوث» عن الفرق بين القاعدة الاصولية و بين القاعدة الفقهيّة. و بعد نقل مباني فحول الاصوليين و تحقيقها و تنقيح رأي المشهور، بيَّنّا مقتضي التحقيق في الفرق بينهما بأنّ نتيجة البحث عن القاعدة الاصولية تحصيل الحجة علي الاحكام الكلية الشرعية و لكن القاعدة الفقهية إنّما تنتج نفس الحكم الكلّي الشرعي لا الحجة عليه.

ففي المثال قاعدة «ما يضمن … » ليست إلّا حكماً كلياً منطبقاً علي مصاديقه و هي الحكم الكلي بضمان كل عقد يضمن بصحيحة، و قاعدة الالزام لا تفيد إلّا جواز إلزام كل من دان بدين أو خصوص المخالفين.

و أما قاعدة اليد، فانما تفيد حجية اليد و أماريتها علي ملكية ما في

اليد لصاحبها و جواز شرائه. و كذا قاعدة السوق و نحوها، فهذه القواعد تشبه قاعدة حجية الخبر الواحد؛ حيث لا تفيد إلّا حجية خبر الثقة.

فالفارق الأصلي أنّ الحكم الكلي بنفسه نتيجة القاعدة الفقهية. و أما في القاعدة الاصولية، فانّما تكون النتيجة حجية موضوع القاعدة و الحكم الكلي إنّما يثبت بواسطة نتيجة القاعدة الاصولية.

و مقتضي التحقيق: أنّه ينبغي عدّها من القواعد الاصولية؛ نظراً إلي تحقق ملاك القاعدة الاصولية فيها؛ لأنّ نتيجة البحث عنها إثبات حجيتها علي تعيين كل مشتبه؛ إما واقعاً كما يشعر به قول أبي جعفر عليه السلام: «إلّا خرج سهم المحق» في صحيح أبي بصير «1» و قول الامام الكاظم عليه السلام: «كل ما حكم اللّٰه به فليس

______________________________

(1) الوسائل: ب 13 من ابواب كيفية الحكم ح 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 224

بمخطئٍ» «1»؛ نظراً إلي ما لهذين التعبيرين من الاشعار بطريقية القرعة إلي الواقع، و لو بارادة تكوينية و تقدير واقعي من اللّٰه تعالي.

و إما ظاهراً برفع التحيّر عن المكلّفين عند مواجهة المشكلة تعبّداً، كما يشعر بذلك قوله عليه السلام: «كلّ أمر مشكل فيه القرعة». «2» و ما نقله في الدعائم عن أمير المؤمنين عليه السلام و أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السلام: أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل». «3»

و علي الأوّل تكون من الأمارات و علي الثاني من الاصول. و لكنّها علي أيّ حال حجّة علي الحكم الكلي الشرعي؛ إمّا الواقعي أو الظاهري.

فعلي أيّ حال تكون القرعة قاعدة ممهدة لتحصيل الحجة علي الحكم الكلي الشرعي. و هو إما حكم وضعي كملكية الشي ء الخارج بالقرعة لمن خرج باسمه، أو حكم تكليفي مترتب علي الموضوع الثابت بالقرعة، كوجوب الاجتناب

عن الغنم الموطوءة المشتبهة الخارجة بالقرعة. و لا فرق في ذلك بين كون الحكم الوضعي أو التكليف الثابت بالقرعة واقعياً أو ظاهرياً، فعلي أيّ حال يكون حكماً شرعياً كلياً وضعياً. و ذلك مثل ملكية كل ما خرج بالقرعة لمن خرج له في الأموال و الحقوق المشتبهة، أو نجاسة كل ما خرج بالقرعة في المشتبه بالنجس. أو تكليفاً مثل حرمة كل ما خرج بالقرعة و وجوب الاجتناب عنه في المشتبه بالحرام، و نحو ذلك.

______________________________

(1) المصدر: ح 11.

(2) عوالي اللئالي: ج 2، ص 112، ح 308 و ص 285، ح 25.

(3) مستدرك الوسائل: ب 11 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 225

و أما وجه عقد البحث لهذه القاعدة في ضمن القواعد الفقهية، فلما جرت عادة الفقهاء المحققين، و لا سيّما المعاصرين علي البحث عنها في ضمن القواعد الفقهية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 227

«تعريف القرعة» «و ماهيتها»

اشارة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 228

1- الجذر اللغوي و المعني الاصطلاحي.

2- هل القرعة أمارة أو أصل؟

3- الفرق بين القرعة و بين ساير الأمارات.

4- ما هو الواقع الذي تكشف عنه القرعة؟

الجذر اللغوي

لفظ القرعة اسم مصدر من تقارع القوم و اقترعوا، كما قال في المصباح: تقارع القوم و اقترعوا و الاسم القرعة. و مأخوذ من القرع بمعني الضرب، كما قال في المقائيس: قَرَعتُ الشي ء أقرَعُه:

ضربته … و الإقراع و المقارعة، هي المساهمة. و سمِّيت بذلك؛ لأنّها شي ءٌ كأنّه يُضرب. و لا يخفي أنّ الضرب هنا متحقق بمعناه المجازي، كما في قوله تعالي: «كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اللّٰهُ الْحَقَّ وَ الْبٰاطِلَ». «1»

فانّ السهام المكتوبة علي قطعات القرطاس أو علي البنادق و ما شابهها لا يكون كلها سهم المحق، بل انما يكون واحدٌ منها سهم المحق، فهو حق و الباقي باطل. و إن ضرب بعضها ببعض و تشويشها من قبيل ضرب الحق و الباطل.

______________________________

(1) الرعد: 17.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 229

المعني الاصطلاحي

المراد من القرعة في الاصطلاح عملية هو الاقتراع و المساهمة لتمييز شي ءٍ من مال أو حق مشتبه مجهول. فكلّ ما إذا اشتبه شي ءٌ- يترتَّب عليه حقٌّ أو حكمٌ- و كان مجهولًا، و أشكل الأمر في تشخيصه و لم يمكن تمييزه بأمارة أو أصل و لا بغيرهما، يتوسّل لتمييزه و تعيينه إلي عملية الاقتراع. و يعبّر عن هذه العملية بالقرعة.

فاتضح بهذا البيان أنّه يعتبر في قاعدة القرعة ثلاثة أمور:

أحدها: أن الشي المشتبه المجهول- الذي أخذ في موضوع قاعدة القرعة- يعتبر فيه كونه مشكلًا. و من الواضح أنّه إذا كان هناك طريق عقلائي أو شرعي لرفع الاشتباه و الجهل و تمييز الشي ء المجهول و تعيينه، لا يصدق عليه عنوان المشكل حقيقةً.

فليس كلّ شي ءٍ مشتبه مجهول مأخوذاً في موضوع قاعدة القرعة، بل يُعتبر كونه مشكلًا، كما أشار إلي ذلك الفقيه المحقق السيد المراغي بقوله:

«إنّ المراد من المشكل و المشتبه

و المجهول واحد، و هو كونه كذلك من حيث هو كذلك، بمعني: كون الشي ء مشتبهاً لا سبيل إلي رفع ذلك بطريق معتبر شرعاً حتّي يكون مخرجاً للحكم في تلك الواقعة. فمتي كان له سبيل مثبت، لم يكن ذلك من الاشكال و الاشتباه في شي ءٍ، بل هو معلوم بالمآل و إن كان مشكلًا ابتداءً. و هذا هو مقتضي النصوص و مؤدّي النظر السليم». «1»

ثانيها: أنّ المراد من الاشتباه هو الشبهات الموضوعية لا الحكمية؛ لأنّ المرجع في الشبهات الحكمية هو الأدلّة و الاصول الشرعية. و قد أشار إلي ذلك

______________________________

(1) العناوين الفقهية: ج 1، ص 352.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 230

الشهيد الأوّل في القواعد بقوله:

«و لا تستعمل القرعة في الفتاوي و الأحكام المشتبهة إجماعاً». «1»

هذا، مع دلالة الآيات و النصوص الواردة في القرعة علي تشريعها في موارد الاشتباه في الموضوعات، كما سيأتي بيانها.

مضافاً إلي أنّه لا موضوع للقرعة بعد حلّ العويصة و رفع المشكلة في الشبهات الحكمية بالأمارات الشرعية الرافعة للجهل بالحكم الواقعي؛ نظراً إلي تنزيلها منزلة العلم. كما لا تصل النوبة إليها بعد رفع الشك بالاصول الشرعية الرافعة للتحيّر عند الشك في الحكم.

ثالثها: كون الشي ء المشتبه المجهول مما يترتب عليه حق أو حكم شرعيّ، و إن شئت فقل يترتب عليه أثرٌ مالي أو حقوقي أو حكم شرعي. فما لا يترتب عليه شي ءٌ من الآثار المذكورة، خارج عن موضوع القرعة، و إن كان مشتبهاً مجهولًا مشكلًا.

و ذلك لأنّ القرعة قاعدة تعبّدية تتوقف في أصل مشروعيتها و كيفية حجيتها و سعة نطاقها علي ما يستفاد من أدلتها و نصوصها الشرعية. و إنّ المستفاد من نصوصها اعتبار ذلك، كما سيأتي في البحث و التحقيق عن مدرك

القاعدة.

هل القرعة أمارة أو أصل؟

قبل الورود في البحث ينبغي التنبيه علي نكتة، و هي بيان ثمرة الفرق بين كون القرعة أمارةً أو أصلًا.

و تلك الثمرة هي حجية مثبتات الأمارات، دون الاصول. و أنّه بناءً علي

______________________________

(1) القواعد و الفوائد: ج 2، ص 23.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 231

حجية متثبتات الأمارات، لا بد في المقام من القول بحجية مثبتات القرعة و الالتزام بحجيتها في لوازمها العادية و العقلية.

لكن ليس هذا المبني بهذه البساطة، بل فيه تفصيل. و قد حقّقناه في المجلد الأوّل من كتابنا «مباني الفقه الفعال» «1» في تنقيح قاعدة أصالة الصحة و توجيه عدم حجيتها في مثبتاتها العقلية و العادية: لكونها من الأمارات التعبّدية المحضة.

و حاصل ما قلنا هناك:

إنّ مقتضي التحقيق التفصيل بين الأمارات العقلائية التي أمضي الشارع اعتبارها و بين الأمارات التعبدية التأسيسية، كما أشار إلي ذلك الامام الراحل قدس سره و فصّل بذلك في المقام. «2» كما لا بد من هذا التفصيل بين الأمارات التعبدية و بين ما ثبت اعتباره بالدليل اللفظي.

و تحرير كلامه قدس سره: أنّ الأمارات العقلائية التي أمضاها الشارع، لم تستقرّ سيرة العقلاء علي العمل بها، إلّا لأجل كشفها عن الواقع وجداناً، لا للتعبّد بها. و ذلك لأنّ في هذه الأمارات كاشفية ناقصة توجب مرتبةً من الوثوق و الظن بالواقع وجداناً و هي توجب الظن الوجداني بلوازمه. و لذا تري العقلاء يرتّبون الأثر علي لوازمها. و هذا بخلاف الأمارات التعبّدية التأسيسية التي لا توجب الظن الوجداني بمؤداها بمقتضي ذاتها، فضلًا عن لوازمها العقلية و العادية، كالاجماع و نحوه.

و الحاصل: أنّ مثبتات الأمارات العقلائية و الامضائية و التي ثبت اعتبارها

______________________________

(1) مباني الفقه الفعال: ج 1، ص 68.

(2) الرسائل: ج 1،

ص 178 و 181.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 232

بالدليل اللفظي حجة، بخلاف الأمارات التعبدية.

و ذلك لأنّ في الأمارات العقلائية، لمّا جري بناؤهم علي ترتيب الأثر عليها بما أنّها طرق إلي الواقع وجداناً، يأخذون بلوازمها العادية و العقلية، و جرت سيرتهم علي ترتيب هذه الآثار. و أما الأمارات الثابتة بالأدلة اللفظية، فلدخول اللوازم العادية و العقلية في نطاق إطلاقها بحسب المتفاهم العرفي، كما هو المتفاهم من قولهم عليهم السلام «صدّق العادل». و لا يتوقف ترتيب آثار اللوازم علي العلم بالملازمة بينها و بين المعلوم بالتعبد، بل علي المتفاهم العرفي من الخطاب. و هذا بخلاف الأمارات التعبدية المحضة كالاجماع.

و لا يخفي أنّ القرعة و إن لا كشف وجداني لها عن الواقع بمقتضي ذاتها و لو كشفاً ناقصاً كخبر الثقة، إلّا أنّ أماريتها قد ثبتت بالدليل اللفظي؛ حيث إنّ الشارع قد أخبر عن إصابتها إلي الواقع و كشفها عن سهم المحق.

فليست القرعة من الأمارات العقلائية. و ما يري في سيرتهم من العمل بالقرعة فهو من باب الرجوع و الالتجاء إليه عند اليأس عن الواقع و التحيّر بعد فقدان الطريق، فلا يأخذون بها من أجل كشفها عن الواقع.

كما أنّها ليست من قبيل الأمارات التعبدية المحضة مما لا كاشفية ذاتية لها و لم تُستفَد أماريتها من دليل لفظي، كالاجماع، بناءً علي عدم كاشفية ذاتية له.

بل إنّما القرعة من قبيل ما استفيدت كاشفيته و طريقيته بدلالة الدليل اللفظي. فتكون حجة في آثارها العقلية و العادية؛ لدخولها في نطاق إطلاق دليلها اللفظي. و من أجل ذلك يستفاد حجية القرعة في لوازمها العادية و العقلية من دليل أماريتها بحسب المتفاهم العرفي.

و أما الأمارات التعبدية المحضة لا كاشفية لها عن

الواقع و لا تستفاد

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 233

أماريتها من دليل لفظي- بل استُفيدت من دليل لبّي كالاجماع أو سيرة المتشرعة- ليست حجة في مثبتاتها العقلية و العادية، كأصالة الصحة.

و أما الآثار الشرعية، فلا فرق بين الأمارات بأنحائها و بين الاصول في ترتّبها، فانّ ذلك من لوازم أصل حجيتها الشرعية علي مؤدّياتها، كما هو واضح.

و لا فرق في هذه الجهة بين الاصول و بين الأمارات التعبدية المحضة؛ إذ الاصول و إن كانت عقلائية، إلّا أنّه أخذ الشك في موضوعها. و إنّ بناء العقلاء و سيرتهم قد قامت علي العمل بالأصل بعد اليأس عن العلم بالواقع و الشك فيه، و هذا بخلاف الأمارات العقلائية، فانّ بناء العقلاء قد قام علي الأخذ بها بلحاظ أنّهم يرونها طريقاً إلي الواقع.

ثمّ إنّ أمارية القرعة لا تنافي تقدم بعض الاصول عليه و ذلك لما بيّناه من اعتبار صدق المشكل في موضوعها؛ بأن لم يكن هناك طريق شرعي من أمارة أو أصل لحلّ العويصة و رفع المشكلة. فان القرعة جعلت آخر مخلصٍ للمكلّف من عويصة الشبهات الموضوعية.

و سيأتي في البحث عن مدرك القرعة أنّ ظاهر صحاح أبي بصير و جميل و محمد بن حكيم أنّ القرعة أمارة؛ لدلالة قوله عليه السلام: «إلّا خرج سهم المحق» في الأوّلين و قوله: «فليس بمخطئٍ» في الثالث علي طريقية القرعة إلي الواقع، كما هو واضح.

و أيضاً يدل علي ذلك قوله عليه السلام: «رجم به- يعني ساهم- فأصاب» في معتبرة عبد الرحيم، و قوله عليه السلام: «فيرجمه فتصيب ذلك» في معتبرة موسي البجلي «1» فانّ

______________________________

(1) بصائر الدرجات: ص 409، ح 4، و ص 410، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية،

ج 3، ص: 234

الإصابة إلي الواقع إنّما هو شأن الأمارة، دون الاصول.

و لا ينافي ذلك كون موردها وقوع الاشتباه و التردد و المشكل في الأمر.

فانّ لسان نصوصها تحكي عن طريقيتها إلي الواقع، لا أنّها مجرد جعل حكم ظاهري تعبدي لرفع التحيّر في مقام العمل. فلا تكون أصلًا، بل هي أمارة.

و بعبارة اخري: إنّ ظاهر التعبير بخروج سهم المحق ثبوت سهم للمحق واقعاً و إنّما القرعة تُخرجه عن ستار الواقع و يكشف عن الواقع المستور و هذا عين الطريقية. و أيضاً إنّما يتصور الخطأ و الاصابة بالنسبة إلي ما كان طريقاً إلي الواقع. و من هنا لا يتصور الخطأ في الاصول العملية؛ لأنها- بعد اليأس عن الواقع و مع قطع النظر عنه- إنّما جُعلت لتعيين الوظيفة الظاهرية.

اللهم إلّا أنّ يقال: إنّ مقصود الامام عليه السلام أنّ القرعة لا تخطئ من حيث إنّها حكم اللّٰه، فهي لا تخطئ بما أنها حكم اللّٰه، لا بما أنها كاشفة عن الواقع. و لكنه خلاف ظاهر قوله: «خرج سهم المحق» كما قلنا، بل هذا التعبير يعطي الظهور لقوله: «فليس بمخطئ» في طريقية القرعة إلي الواقع، بل إصابتها اليه.

الفرق بين القرعة و بين ساير الأمارات

و لا يخفي أنّ أمارية القرعة ليست علي وزان ساير الأمارات، بل تفترق عنها. و ذلك لأنّ ساير الأمارات لها جهة كشف عن الواقع بحسب ذاتها؛ حيث أنّها من الظنون و الظن بمقتضي ذاته غالب المطابقة أو أغلب المطابقة مع قطع النظر عن دليل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 235

الاعتبار، كما أشار إليه الشيخ الأعظم في رسائله. «1»

و إنّما دليل الاعتبار شأنه إلغاءُ ما في الظنون من احتمال الخلاف تعبّداً.

و هذا بخلاف القرعة؛ لعدم جهة كاشفية في ذاتها بل إنّما صارت

كاشفة عن الواقع و مصيبة إليه بدليل اعتبارها تعبداً. و ذلك لأنّ نصوص اعتبارها دلّت علي ثبوت أمرين لها، أحدهما: أصل اعتبار القرعة و حجيتها، ثانيهما: إصابتها إلي الواقع و عدم خطأها بارادة اللّٰه تعالي.

فاتضح بذلك أنّ إصابة القرعة إلي الواقع بارادة اللّٰه تعالي بعد تفويض الأمر إليه لا يُخرجها عن الأمارية، كما يظهر من السيد الامام الراحل؛ حيث قال:

«ثمّ إنّ الظاهر من قوله: ما يقارع قوم فوضوا أمرهم إلي اللّٰه إلا خرج سهم المحق، أنّ القرعة ليست أمارة علي الواقع بل اللّٰه تعالي إذا فوض الامر اليه يخرج سهم المحق بارادته و اسباب غيبية و هذا غير أماريتها» «2».

كما أنّ اعتبار التفويض في إصابتها، لا ينافي أماريتها؛ نظراً إلي تعلّق إرادة اللّٰه باصابتها إذا فَوَّض المتقارعون الأمر إلي اللّٰه.

و أما اختصاصها بموارد الاشتباه و وقوع المشكلة فلا ينافي جعلها طريقاً إلي الواقع بارادة اللّٰه؛ بأن تتعلّق مشيته و ارادته بإصابتها إلي الواقع لكل قوم وقعوا في مشكلة اشتباه الحق، ثمّ فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه و تقارعوا، كما هو ظاهر نصوص القرعة. و من هنا اعتبرنا التفويض و توكيل الامر إلي اللّٰه في مشروعية القرعة و لزومها.

ما هو الواقع الذي تكشف عنه القرعة؟

و هل يكون وجوب تبعية القرعة لأجل التعبّد المحض؟ أو لأنّ القرعة كاشفة بارادة اللّٰه عن الواقع الثابت في الخارج الذي وقع النزاع فيه و معلوم عند مستحقّه؟ أو

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 1، 112- 113.

(2) الرسائل: ج 1، ص 354.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 236

لدوران الواقع- الثابت في اللوح المحفوظ المعلوم عند اللّٰه تعالي مدار حكم اللّٰه؛ بمعني أنّ الخارج بالقرعة لمّا كان بحكم اللّٰه كان هو الحق الواقعي الثابت في علم اللّٰه و

إن كان مخالفاً لما يظن صاحب الحق أنّه له واقعاً؛ لأنّ الواقع في موارد القرعة إنّما هو ما خرج بالقرعة؛ لأنّه الخارج بحكم اللّٰه، دون ما كان ملكاً لأحد المتنازعين قبل القرعة؟ فههنا ثلاثة وجوه:

و مقتضي التحقيق أنّ ظاهر قوله: «خرج سهم المحق»، هو الثاني؛ إلّا أنّ ذلك الحق الثابت قبل القرعة إنّما يعتبر كونه لأحد المتنازعين فيما إذا كان هناك تنازع في حق مشتبه بينهم. و أما في غير موارد التنازع، فيكفي كونه حقاً ثابتاً في علم اللّٰه و اريد العلم به؛ لما يترتب عليه من الأثر لمستحقه الواقعي أو لكل من يرجع نفعه المادّي أو المعنوي إليه. فأشكل الأمر للجهل به، فالظاهر مشروعية القرعة فيه؛ نظراً إلي شمول عمومات القرعة لذلك، كقول الامام الكاظم عليه السلام: «كلّ مجهول ففيه القرعة. قلت له: القرعة تُخطئ و تصيب. قال عليه السلام: كلّ ما حكم اللّٰه به، فليس بمخطئٍ» «1» و قوله: «كل أمر مشكل فيه القرعة» «2».

نعم في موارد عدم تطابق الحق الثابت لصاحبه في الخارج الحق الواقعي الثابت في علم اللّٰه، يمكن القول بالوجه الثالث؛ بأن تكشف القرعة عن الحق الواقعي الثابت في علم اللّٰه تعالي، و إن كان مخالفاً لما كان ثابتاً لصاحبه قبل القرعة؛ لما في مكسبه من الشبهة و الحرام و الظلم أو الشراء من الأيادي الغاصبة و نحو ذلك من المحرّمات الخفيّة علي المالك الفعلي الذي أحد المتقارعين.

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم، ح 11.

(2) عوالي اللئالي: ج 2، ص 112، ح 308.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 237

و قد اتضح من ضوء ما بيّناه أن القرعة إنّما ترفع المشكلة بتعيين الواقع و الاصابة إلي الحق.

فليست كبعض موازين القضاء، كما يظهر من السيد الامام الراحل «1»، و إن اعترف بأنه احتمال مخالف لظاهر بعض روايات القرعة، و لكنه قويّ هذا الاحتمال مستشهداً ببعض نصوص لا يخلو من الضعف إما سنداً أو دلالةً أو من كلتا الجهتين.

و قد اتضح أيضاً وجه ظهور ثمرة هذا البحث في حجية القرعة علي لوازمها و مثبتاتها العقلية و العادية بناءً علي أماريتها؛ إذ القرعة و إن ليست من الأمارات العقلائية التي لها كشف وجداني عن الواقع و لو ناقصاً، إلّا أنّ أماريتها استُفيدت من الدليل اللفظي تكون حجة في مثبتاتها العقلية و العادية؛ نظراً إلي دخولها دليلها اللفظي، و استفادة حجية القرعة في لوازمها العادية و العقلية بحسب المتفاهم العرفي. فليست القرعة في نطاق إطلاق من الأمارات التعبدية المحضة التي هي كالأُصول في عدم حجيتها في مثبتاتها، كما بيّنا وجه ذلك آنفاً.

هذا كله في الآثار العقلية و العادية. و أما الآثار الشرعية فلا فرق بين الأمارة و الأصل في حجيتها علي ترتيبها، كما قرّر في محله؛ نظراً إلي دخولها في نطاق مدلول أدلّتها.

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 354.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 238

«مدرك القاعدة»

اشارة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 239

قد استدل علي حجية القرعة بالكتاب و السنة و سيرة العقلاء و الاجماع.

1- الاستدلال بالاجماع.

2- الاحتجاج بالكتاب.

3- الاستدلال بنصوص أهل البيت عليهم السلام.

4- سيرة العقلاء و إزاحة الشبهة من سيرة المتشرعة.

الاستدلال بالاجماع

أما الاجماع، فقد استدلَّ به الأصحاب، كما جعل الشيخ قدس سره في المبسوط «1»: القرعة من مقتضيات مذهبنا في تداعي الرجلين في ولد. و حكم في الخلاف «2»: بأن القرعة مذهبنا في كل أمر مجهول.

و قد نسب ابن ادريس إلي الأصحاب بقوله: «إنّ أخبارهم ناطقة متظافرة متواترة في أنّ كلّ أمر مشكل فيه القرعة، و هم مجمعون علي ذلك» «3». و حكم الشهيد بثبوتها عندنا في القواعد «4». و هذه التعابير ظاهرةٌ في الاجماع، بل كلام ابن ادريس صريح في الاجماع الأصحاب علي مشروعية القرعة لكلّ أمر مشكل.

و لكن الاجماع التعبدي الكاشف عن رأي المعصوم غير متحقق في المقام؛

______________________________

(1) المبسوط: ج 8، ص 306.

(2) الخلاف: ج 3، ص 319، م 32.

(3) السرائر: ج 1، ص 87.

(4) القواعد و الفوائد: ج 2، ص 183.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 240

نظراً إلي استناد الفقهاء من القدماء و المتأخرين في حجيتها إلي نصوص الكتاب و السنة.

الاحتجاج بالكتاب

اشارة

قد استُدلّ بآيتين من القرآن الكريم لاثبات حجية القرعة.

الاولي: قوله تعالي: «وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ.

فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» «1».

نزلت هذه الآية في يونس عليه السلام؛ حيث كذّبه قومه و دعا عليهم بالعذاب و أوعدهم بنزوله عليهم، ثمّ فرّ منهم إلي ساحل البحر؛ فاذا سفينة مملوّة من الناس و الأحمال فركبها، فأشرفت السفينة علي الغرق لكثرة رُكبانها و أحمالها، أو لاعتراض حوت عظيم و عدم التمكن من المسير. فالتجئوا إلي إلقاء أحد ركبانه إلي البحر لدفع مزاحمة الحوت أو لاستخفاف وزن السفينة. فاتفقوا علي الاقتراع لذلك، و اقترعوا فخرج اسم يونس ثلاث مرّات. فألقوه في البحر. إلي آخر القصّة.

قال الطبرسي في تفسير مجمع البيان

في قوله تعالي: و إنّ يونس لمن المرسلين إذ أبق إلي الفلك المشحون: «أي فرّ من قومه إلي سفينة مملوّة من الناس و الأحمال؛ خوفاً من أن ينزل العذاب بهم و هو مقيم فيهم».

فساهم يونس القوم؛ بأن ألقوا السهام علي سبيل القرعة؛ أي قارعهم فكان من المدحضين؛ أي من المقروعين، عن الحسن بن عباس.

و قيل من المسهومين، عن مجاهد. و المراد من الملقين في البحر.

______________________________

(1) الصافات: 140- 139.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 241

و اختلف في سبب ذلك فقيل: إنهم أشرفوا علي الغرق، فرأوا أنّهم إن طرحوا واحداً منهم في البحر لم يغرق الباقون.

و قيل: إنّ السفينة احتبست، فقال الملّاحون إنّ هاهنا عبداً آبقاً، فانّ من عادة السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري، فلذلك اقترعوا، فوقعت القرعة علي يونس ثلاث مرات، فعلموا أنّه المطلوب، فألقي نفسه في البحر.

و قيل: إنّه لما وقعت القرعة عليه ألقوه في البحر، فالتقمه الحوت؛ أي ابتلعه.

و قيل: إنّ اللّٰه سبحانه أوحي إلي الحوت أنّي لم أجعل عبدي رزقاً لك و لكني جعلت بطنك مسجداً له، فلا تكسِرن له عظماً و لا تخدِشنّ له جلداً.

و هو مليم؛ أي مستحق للوم؛ لوم العتاب، لا لوم العقاب علي خروجه من بين قومه من غير أمر به» «1».

وجه الاستدلال بهذه الآية واضحٌ؛ حيث يستفاد منها تأييد المساهمة المذكورة فيها عند الشارع؛ إذ لم يردّها. مع أنّ المساهمة اسند في هذه الآية إلي يونس النبي عليه السلام بقوله تعالي: «فساهم»؛ أي ساهم يونس عليه السلام.

هذا مضافاً إلي أنّه مقتضي استصحاب الحكم الثابت في الشرائع السابقة مع عدم ردعه في شريعة الاسلام، كما في المقام، بل ثبت إمضاؤها بنصوص أهل البيت عليهم

السلام.

و بذلك يندفع المناقشة في دلالتها بأنّها في مقام نقل القصة و لا يدل علي إمضائها، و بأنها إنّما دلّت علي جواز المساهمة المذكورة فيها في خصوص الشريعة السابقة.

وجه الاندفاع: ما قلنا من استناده إلي يونس النبي عليه السلام و هو المعصوم، و أنّ

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان: ج 7- 8، ص 458.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 242

الآية في مقام تأييد أصل المساهمة في الاسلام، و إلّا لردّها، مضافاً إلي استصحابه إلي زمان الاسلام، و إن لا تصل النوبة إلي الاستصحاب مع تمامية دلالة الآية، كما هو الحق. هذا مضافاً إلي ما ورد من النصوص المعتبرة الدالة علي إمضائها في شريعة الاسلام.

الثانية: قوله تعالي: «وَ مٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلٰامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ مٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» «1».

نزلت هذه الآية في منازعة علماء بني اسرائيل و تشاحّهم في كفالة مريم ابنة عمران «2». و كانت القصة أنّ مريم لمّا وُلدت أتت بها امها إلي المسجد ملفوفة في خرقة، و تنافس الأحبار في كفالتها- كما اشير إلي ذلك بقوله: «إِذْ يَخْتَصِمُونَ» - لأنّ مريم كانت بنت إمامهم. فقال زكريا: أنا أحقّ بها؛ لأنّ خالتها عندي. فقالت الأحبار: إنّها لو كان أمر كفالتها إلي أحق الناس بها لكانت امها التي ولدتها أحق بها من غيرها، لكنّا نقترع.

فذهبوا إلي نهر- و هم تسعة و عشرون رجلًا- فألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، أو أقداحهم المعدّة للاقتراع- كما قيل هي المرادة من الأقلام- فارتفع قلم زكريا فوق الماء و رسبت أقلامهم أو جرت بجريان الماء فذهب بها

______________________________

(1) آل عمران: 44.

(2) عمران هذه هو عمران بن الهشم من ولد سليمان بن داود أو

عمران بن ماثان علي ما نُقل عن ابن عباس. و أنّه- علي أيّ حال- غير عمران أبي موسي عليه السلام. و بينهما ألف و ثمانمائة سنة و كان بنو ماثان رءوس بني اسرائيل. و كان حَنّة امرأة عمران فنذرت كون ولدها محرّراً للعبادة أو في خدمة البيعة و الكنيسة، و كانت اخت حنة امرأة زكريا و اسمها أشياع. فكان يحيي عليه السلام ابن خالة مريم. كل ذلك قاله في تفسير مجمع البيان: ج 1، ص 434.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 243

الماء، علي اختلاف الأقوال، ثمّ كفّلها زكريّا «1».

قال الطبرسي في ذيل الآية المزبورة: «و في هذه الآية دلالة علي أنّ للقرعة مدخلًا في تميّز الحقوق. و قد قال الصادق عليه السلام: ما تقارع قوم ففوّضوا أمورهم إلي اللّٰه تعالي إلّا خرج سهم المحق. و قال عليه السلام: أيّ قضية أعدل من القرعة إذا فُوّض الأمر إلي اللّٰه تعالي؛ يقول: فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. و قال الباقر عليه السلام:

أوّل من سوهم عليه مريم ابنة عمران، ثمّ تلا: و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم، الآية. و السهام ستة. ثمّ استهموا في يونس. ثمّ كان عبد المطلّب ولد له تسعة بنين، فنذر في العاشر إن يرزقه اللّٰه غلاماً أنّ يذبحه. فلما ولد له عبد اللّه، لم يقدر أن يذبحه و رسول اللّٰه في صلبه. فجاء بعشرة من الابل فساهم عليها و علي عبد اللّه فخرجت السهام علي عبد اللّه فزاد عشراً، فلم تزل السهام تخرج علي عبد اللّه، و يزيد عشراً، فلما أن اخرجت مائة، فخرجت السهام علي الابل. فقال عبد المطلب: ما أنصفت ربي. فأعاد السهام ثلاثاً، فخرجت علي الابل. فقال: الآن

علمت أنّ ربي قد رضي بها فنحرها» «2».

و رواه الصدوق في الفقيه و الخصال بسنده «3».

و وجه التقريب عين ما عرفته في تقريب الآية السابقة. و دفع المناقشة بنفس البيان السابق آنفاً.

______________________________

(1) ذكر ذلك الطبرسي في مجمع البيان: ج 2- 1، ص 436.

(2) تفسير مجمع البيان: ج 2- 1، ص 442- 441.

(3) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم، ح 12.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 244

نقاش و جواب

هذا، و قد يناقش ببيان آخر في دلالة الآيتين: بأنّ غاية مدلولهما مشروعية القرعة في الشرائع السابقة. و أما دلالتهما علي حجيتها في شرعنا بحاجة إلي كلام صادر من الشارع يدل علي حجيتها. و لا يكفي لذلك مجرد نقل قضية واقعة في بعض الشرائع السابقة.

و يمكن دفع هذه المناقشة بأنه قد وردت في تفسير الآيتين نصوص بعضها صحيحة دلّت علي امضاء مضمونهما في شريعة الاسلام. و هي صحيح منصور بن حازم قال: «سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّه عليه السلام عن مسئلة فقال:

هذه تخرج في القرعة ثمّ قال: فأيُّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه تعالي؟ أ ليس اللّٰه يقول: فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ؟» «1».

و نحوه مرسل الصدوق قال: «و قال الصادق عليه السلام: ما تنازع قوم ففوضوا أمرهم إلي اللّٰه تعالي، إلّا خرج سهم المحق، و قال: أيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلي اللّٰه، أ ليس اللّٰه يقول: فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ؟» «2».

و ما رواه العياشي في تفسيره عن الثمالي عن أبي جعفر في حديث يونس عليهم السلام قال: «فساهمهم فوقعت السهام عليه، فجرت السنة أنّ السهام إذا كانت ثلاث مرات أنّها لا تخطي، فألقي نفسه، فالتقمه الحوت» «3».

و

ما رواه الصدوق بسنده في الفقيه و الخصال عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من سوهم عليه مريم بنت عمران، و هو قول اللّٰه عز و جل: و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم

______________________________

(1) الوسائل: ب 13 من كيفية الحكم، ح 17.

(2) المصدر: ح 13.

(3) المصدر: ح 22.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 245

أيّهم يكفل مريم، و السهام ستة، ثمّ استهموا في يونس لما ركب مع القوم فوقفت السفينة في اللجة فاستهموا فوقع علي يونس ثلاث مرات قال: فمضي يونس إلي صدر السفينة فاذا الحوت فاتح فاه فرمي نفسه، ثمّ كان عند عبد المطلّب تسعة بنين فنذر في العاشر إن رزقه اللّٰه غلاماً أن يذبحه، فلما ولد عبد اللّه لم يكن يقدر أن يذبحه و رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله في صلبه، فجاء بعشر من الابل فساهم عليها و علي عبد اللّه فخرجت السهام علي عبد اللّه، فزاد عشراً، فلم تزل السهام تخرج علي عبد اللّه و يزيد عشراً، فلما أن خرجت مائة خرجت السهام علي الابل، فقال عبد المطلّب: ما أنصفت ربي، فأعاد السهام ثلاثاً فخرجت علي الابل فقال: الآن علمت أنّ ربي قد رضي، فنحرها» «1».

و مع ورود هذه النصوص في تفسير الآيتين و دلالتها الواضحة علي امضاء مدلولهما لا ينبغي الاشكال في تماميته دلالتهما علي المطلوب.

و عليه فالعمدة في الاستدلال علي حجية القرعة هي النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام.

الاستدلال بنصوص أهل البيت عليهم السلام

دلّت علي اعتبار القرعة و حجيتها عدة نصوص بعضها صحيح معتبر.

و يمكن تقسيم هذه النصوص إلي طائفتين.

الطائفة الاولي: ما ورد في وقائع و موارد خاصة، كصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا وقع

الحرّ و العبد و المشرك علي امرأة في طهر واحد و ادّعوا الولد اقرع بينهم، و كان الولد للذي يقرع» «2».

______________________________

(1) المصدر: ح 12.

(2) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 246

و خبر المختار قال: «دخل أبو حنيفة علي أبي عبد اللّه عليه السلام، فقال له أبو عبد اللّٰه عليه السلام:

ما تقول في بيت سقط علي قوم فبقي منهم صبيّان؛ أحدهما حرّ و الآخر مملوك لصاحبه، فلم يعرف الحرّ من العبد؟ فقال أبو حنيفة: يعتق نصف هذا و نصف هذا. فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: ليس كذلك، و لكنه يقرع بينهما فمن أصابته القرعة فهو الحرّ، و يعتق هذا فيجعل مولي لهذا» «1».

و صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد، فولدت، فادّعوه جميعاً، أقرع الوالي بينهم، فمن قرع كان الولد ولده و يُرَدُّ قيمة الولد علي صاحب الجارية. قال عليه السلام: فان اشتري رجل جارية فجاء رجل فاستحقها، و قد ولدت من المشتري ردّ الجارية عليه، و كان له ولدها بقيمته» «2». و مثله صحاح الحلبي و سليمان و ابن مسلم «3».

و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل قال: «أوّل مملوك أملكه فهو حرّ، فورث سبعة جميعاً. قال عليه السلام: يقرع بينهم و يعتق الذي خرج سهمه» «4». و المقصود أنّ الرجل نذر عتق أوّل مملوك يملكه. فملك سبعة عبيد في آن واحد فحكم الامام بتعيين متعلّق النذر بالقرعة.

و من هذا القبيل النصوص الواردة في تعارض البينتين «5» و غير ذلك من

______________________________

(1) المصدر: ح 7.

(2) المصدر: ح 14.

(3)

التهذيب: ج 6، ص 240، ح 26، و ج 8، ص 169، ح 15، و ج 9، ص 348، و الكافي: ج 5، ص 490.

(4) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم: ح 15.

(5) راجع الكافي: ج 7، ص 420، و التهذيب: ج 6، ص 235، ح 9 و 8، و ص 334، ح 7، و ص 236، ح 13.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 247

النصوص الواردة في مختلف الأبواب. و سيأتي الإشارة إلي هذه النصوص في بيان مجاري القاعدة. و هذه النصوص الخاصة الدالة علي مشروعية القرعة في الجملة متواترة، بل فوق حدّ التواتر.

الطائفة الثانية: ما دلّ بعمومه أو إطلاقه علي حجية القرعة في مطلق موارد الاشتباه و التردد.

فمن هذه الطائفة صحيحة أبي بصير رواه الصدوق باسناده عن عاصم بن حميد عن أبي بصير عن أبي جعفر- في حديث- قال عليه السلام: «قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله: ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوَّضوا أمرهم إلي اللّٰه، إلّا خرج سهم المحقّ» «1».

لا إشكال في صحة سندها؛ نظراً إلي صحة سند الصدوق إلي عاصم و وثاقته و وثاقة أبي بصير، كما لا إشكال في تماميته دلالتها.

و مثله ما ورد في صحيح جميل- في حديث- عن زرارة أنّه قال: «إنّما جاءَ الحديث بأنه ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه، ثمّ اقترعوا، إلّا خرج سهم المحق» «2».

و منها: صحيح محمد بن حكيم قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن شي ءٍ. فقال لي كلُّ مجهول ففيه القرعة، قلت له: إنّ القرعة تخطئ و تصيب. قال عليه السلام: كلّ ما حكم اللّٰه به فليس بمخطئ» «3».

هذه الرواية لا إشكال في دلالتها علي حجية القرعة،

بل يستفاد منها: بقرينة المقابلة إصابة القرعة إلي الواقع. و من هنا يمكن الاستدلال بها علي أمارية القرعة.

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من أبواب كيفية الحكم، ح 5 و 6.

(2) المصدر: ح 4.

(3) المصدر: ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 248

إن قلت: إنّ الامارة لا بدّ لها من كاشفيته و طريقية إلي الواقع، و لو ناقصةً، كما في الظنون. و لا كاشفية للقرعة و لو ناقضةً، فكيف يكون أمارة؟!.

و من هنا استظهر السيد الامام الراحل عدم أمارية القرعة من صحيحة أبي بصير؛ حيث قال: «إنّ الظاهر من قوله: ما يقارع قوم فوضوا إلي اللّٰه إلا خرج سهم المحق، إن القرعة ليست أمارة علي الواقع بل اللّٰه تعالي إذا فوض الأمر إليه يخرج سهم المحق بارادته و أسباب غيبة و هذا غير أماريتها» «1».

قلت: إن الكاشفية و الطريقية كما تكون بمقتضي ذات الأمارة، كذلك يمكن أن تكون بارادة اللّٰه تعالي الذي إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون. و عليه فكون القرعة كاشفةً عن الواقع في موارد تعلّق إرادة اللّٰه بمكان من الامكان ثبوتاً. و أما وقوع ذلك و إثباته، فقد ثبت باخبار الشارع عن ذلك في الصحيحة المزبورة و ما سيأتي من نظائرها.

و الملاك في الأمارية نفس الطريقية و الكاشفية عن الواقع، سواءٌ كان وجدانياً محضاً كالقطع، أو وجدانياً ناقصاً بتتميم كشفه الناقض تعبّداً كما في الظنون المعتبرة، أو التعبّد المحض، كما في القرعة؛ حيث يستفاد ذلك من النصوص المعتبرة المستفيضة الواصلة من الشارع، منها الصحيحة المزبورة.

و أما سنداً، فلا إشكال في صحة طريق الصدوق إلي محمد بن حكيم. و أما محمد بن حكيم فالأقوي ثبوت وثاقته؛ نظراً إلي عدم ورود أيّ

قدح فيه مع ما له من الاشتهار و المعروفية؛ حيث كانت له كتاب و روايات كثيرة و روي عنه أجلّاءُ الأصحاب. و يدل علي وثاقته ما نقله الكشي بطريق صحيح عن حمّاد، قال: «كان أبو الحسن عليه السلام يأمر محمد بن حكيم أن يجالس أهل المدينة في مسجد رسول

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 354.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 249

اللّٰه صلي الله عليه و آله و أن يكلّمهم و يخاصمهم حتي كلّمهم في صاحب القبر فكان إذا انصرف إليه قال له: ما قلت لهم و ما قالوا لك و يرضيٰ بذلك منه». «1» وجه الدلالة أنّه لو لم يكن ثقة عند الامام عليه السلام لم يكن عليه السلام يأمره ببيان أمر المذهب و الاحتجاج مع المخالفين.

فان الاحتجاج ربما يقتضي نقل حكم و بيان أمر من أحكام المذهب.

فالأقوي وثاقة الرجل.

و منها: صحيح منصور بن حازم قال: «سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّه عليه السلام عن مسئلة فقال: هذه تخرج في القرعة ثمّ قال: فأيُّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه تعالي أ ليس اللّٰه يقول: فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» «2».

لا إشكال في تمامية دلالة هذه الصحيحة علي حجية القرعة، بل قوله عليه السلام:

«فأي قضية أعدل من القرعة؟» بالاستفهام الانكاري، يدل علي قوة اعتبارها.

و منها: قول الصادق عليه السلام في صحيحة إبراهيم بن عمر بن أبي عبد اللّه عليه السلام- في حديث- قال عليه السلام: «و القرعة سنّة» «3». وجه الدلالة أنّها لا يمكن أن تكون سنة مع عدم اعتبارها شرعاً، بل إنما تكون سنّة إذا كانت حجّة في نظر الشارع. و ذلك لأنّ القرعة ليست في ماهيتها إلّا لتعيين الشي ء

المشتبه و لا تُستعمل إلّا لتمييز الحق المتنازع فيه، فاذا كانت مستحبة و ندب إليها الشارع و جرت سنة النبي صلي الله عليه و آله عليه، لا مناص من الالتزام بمشروعيتها و إمضائها عند الشارع. و معني ذلك ترتيب الآثار عليها في نظر الشارع، و ليس ذلك إلّا حجّيتها شرعاً.

و منها صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام- في حديث- قال: «كان

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ب 11، من كيفية الحكم، ح 1.

(2) المصدر: ح 17.

(3) المصدر: ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 250

علي عليه السلام سهم بينهم» «1». فانه يدل علي استمرار الاقتراع في تعيين بعض المملوكين للعتق. فلا بد من كونه حجة شرعاً.

و منها: ما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللئالي بقوله: و روي في الصحيح عن النبي 9، قال: «في كل أمر مشكل القرعة». «2»

و قال في موضع آخر: «و نقل عن أهل البيت:: «كل أمر مشكل فيه القرعة». «3»

و منها: ما رواه في دعائم عن أمير المؤمنين و أبي جعفر و أبي عبد اللّه صلي الله عليه و آله، أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل. قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «و أيُ حكم في الملتبس أثبت من القرعة أ ليس هو التفويض إلي اللّٰه جل ذكره؟» ثمّ ذكر قصة يونس و مريم و عبد المطلّب «4».

قوله عليه السلام: «أوجبوا الحكم بالقرعة … » أي حكموا بالالتزام و العمل بما خرج بالقرعة، و بعبارة اخري: أنفذوا الحكم بمؤدّي القرعة و ألزموا المقترعين علي العمل بما أخرجته القرعة.

و ليس ذلك بمعني وجوب أصل القرعة. فلا ينافي استحبابها المستفادة من قوله: «و القرعة سنّة»، و لا

إناطة الاقتراع بتراضي المتنازعين علي القرعة، كما عليه جماعة من الفقهاء. فليست القرعة واجبة بالوجوب التكليفي، بل إنّما تجب بالوجوب الوضعي بمعني حجيتها وجوب ترتيب الأثر علي مؤدّاها. و لا ينافي ذلك استحبابها التكليفي.

______________________________

(1) المصدر: ح 3.

(2) عوالي اللئالي: ج 2، ص 285، ح 25.

(3) المصدر: ص 112، ح 308.

(4) مستدرك الوسائل: ب 11، من كيفية الحكم، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 251

نعم لا إشكال في وجوب الاقتراع علي الحاكم إذا توقف فصل الخصومة و انقاذ حق المستحق عليها، بهذا العنوان، لا بمعني وجوب القرعة بذاتها، و لو في مواردها و مع تحقق شرائطها.

و منها: ما رواه محمد بن الحسن الصفار عن احمد بن محمد عن الحسين بن سعيد و البرقي عن النضر بن سويد عن يحيي الحلبي عن عبد اللّه بن مسكان عن عبد الرحيم، قال: «سمعت ابا جعفر عليه السلام يقول: إنّ علياً عليه السلام إذا ورد عليه أمرٌ لم يجي ء به كتاب و لا سنة، رجم به- يعني ساهم-، فأصاب. ثمّ قال عليه السلام: يا عبد الرحيم و تلك من المعضِلات» «1». هذه الرواية معتبرة بلحاظ عبد الرحيم القصير؛ إذ لم يرد فيه أيّ قدح و لا ذمّ من أحد. مع أنّه من المعاريف و نقل عنه أجلّاء الأصحاب كما في سند هذه الرواية مع ورود روايات دلّت علي حسن حاله، مضافاً إلي وقوعه في طريق تفسير القمي.

و مثلها روايات اخري مروية بطريق عبد الرحيم «2».

و دلّ علي ذلك صحيح موسي بن القاسم البجلي رواه محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن موسي عن موسي البجلي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه

السلام إذا ورد عليه ما ليس في كتاب و لا سنة نبيه، فيرجُمُه، فتصيب ذلك، و هي من المعضِلات» «3».

و جاء في متن السند موسي الحلبي؛ و لكنه غلط و الصحيح البجلي؛ حيث لم يعهد موسي الملقب بالحلبي في الرواة. و أما موسي بن القاسم البجلي فهو

______________________________

(1) بصائر الدرجات/ لمحمد بن الحسن الصفار: ص 409، ح 4.

(2) المصدر المزبور: ص 410- 409.

(3) بصائر الدرجات: ص 410، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 252

من اجلّاء الرواة و صاحب الكتب. و روي محمد بن الحسن الصفار كتبه كما صرح به النجاشي و الشيخ «1».

هذه الطائفة من النصوص لا إشكال في دلالتها علي مشروعية القرعة و لزوم العمل بها في كل معضل؛ نظراً إلي عموم التعليل الوارد في ذيلها بقوله عليه السلام:

«و هي من المعضلات». و هي تشمل بعمومها و إطلاقها كلّ مورد اشتبه الحقوق، و اشكل إخراج سهم المحق و لم يمكن تعيينه بتنصيف أو تراضٍ علي تعديل السهام أو مصالحة و نحو ذلك. و تدل علي مشروعية القرعة في هذه الموارد. و ذلك لصدق المشكل و تحقق موضوع القرعة بذلك.

و يدل علي أمارية القرعة بدلالة قوله: «فيرجمه فتصيب ذلك» أي فيقترع فتصيب الواقع. في نظير صحيحة محمد بن حكيم في الدلالة.

و قد يشكل علي عمومية قاعدة القرعة و العمل بعموم النصوص الواردة فيها، بلزوم تخصيص الأكثر من ذلك؛ إذ ربّ مشكل و مشتبه و ملتبس و مجهول لم يلتزم الأصحاب بالقرعة فيه.

و الجواب: أنّ عموم «كل مجهول» لا بد من تفسيره بمجهول لم يرد فيه كتاب و لم تجر فيه سنة فصار من المعضلات كما صرّح بذلك في معتبرة عبد الرحيم و

صحيح موسي البجلي، و قد تقدّم ذكرهما آنفاً.

سيرة العقلاء

اشارة

و أما سيرة العقلاء، فلا إشكال في استقرار سيرتهم علي الاقتراع في الامور المشكلة التي لا سبيل للعقل و القانون إلي حلّها، و لا يوجد ساير الامور المرجّحة لحلّ المشكلة و التخلص

______________________________

(1) راجع معجم رجال الخوئي: ج 20، ص 78.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 253

من العويصة في موارد اشتباه الحقوق.

كما أشار إليه السيد الامام قدس سره بقوله: «و محصّل الكلام: أنّه لا إشكال في بناءِ العقلاء علي العمل بالقرعة في موارد تزاحم الحقوق، مع عدم الترجيح عندهم …

و بالجملة: القرعة لدي العقلاء أحد طرق فصل الخصومة، لكن في مورد لا يكون ترجيحٌ في البين و لا طريق لاحراز الواقع» «1».

و أما الاستدلال بقصة يونس النبي صلي الله عليه و آله المحكية في القرآن لإثبات جريان سيرة العقلاء في القرعة، كما عن السيد الامام الراحل قدس سره «2»، فيمكن المناقشة فيه بأن أصحاب السفينة لعلّهم كانوا متشرعين ببعض الأديان السالفة. فان احتمال ذلك يهدم أساس الاستدلال المزبور. و كذا قضية تكفّل مريم عليها السلام و مقارعة بني يعقوب و عبد المطلّب. فكلّ ذلك يحتمل كونه من أحكام الأديان السالفة.

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 346.

(2) حيث قال: و يشهد لما ذكرنا مضافاً إلي وضوحه: قضية مساهمة أصحاب السفينة التي فيها يونس فعلي نقل كانت المقارعة من قبيل الأوّل و العثور علي العبد الآبق و علي نقل كانت من قبيل الثاني لأنّهم أشرفوا علي الغرق فرأوا طرح واحد منهم لنجاة الباقين و هذا أقرب إلي الاعتبار، و معلوم أن مساهمتهم لم تكن لدليل الشرعي بل لبناء عملي عقلائي بعد عدم الترجيح بينهم بنظرهم، و قضية مساهمة

أحبار بيت المقدس لتكفّل مريم عليها السلام كما أخبر بها اللّٰه تعالي إذ قال: و ما كنت لديهم إذ يلقون اقلامهم أيّهم يكفّل مريم و ما كنت لديهم إذ يختصمون، تدل علي أنّ العقلاء بحسب ارتكازهم يتشبثون بالقرعة عند الاختصام و عدم الترجيح، و هذه من قبيل الثاني كما أنّ غالب المقارعات العقلائية لعلها من هذا القبيل كالمقارعات المتداولة في هذا العصر.

و كذا يشهد لتعارفها قضية مقارعة بني يعقوب و مقارعة رسول اللّٰه قريشاً في بناء البيت، بل مقارعته بين نساءه، فان الظاهر أنّها كانت من جهة الأمر العقلائي لا الحكم الشرعي./ الرسائل: ج 1، ص 346.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 254

و العمدة في إثبات السيرة جريانها بين العقلاء في زماننا هذا، و استقرار سيرتهم علي ذلك. و لا دليل علي عدم وجودها في زمان المعصومين صلي الله عليه و آله. بل الشواهد الروائية تثبت إمضاؤها.

و لكن الالتزام بكون سيرة العقلاء دليلًا مستقلًا علي مشروعية القرعة مشكلٌ.

و ذلك لأنّه يستفاد من النصوص المعتبرة الواردة في القرعة أولًا:

طريقيتها إلي الواقع، بل إصابتها إليه دائماً مع تحقق شرائطها المستفادة من النصوص.

و ثانياً: اشتراط تفويض الأمر إلي اللّٰه في أمارية القرعة و إصابتها إلي الواقع و خروج سهم المحق بها، بل يستفاد اعتبار ذلك في أصل مشروعيتها؛ بمعني أن أراده اللّٰه تعالي لم تتعلق باراءة الواقع و إخراج سهم المحق بالقرعة فيما إذا لم يفوّض المتقارعون أمرهم اللّٰه و لم ينقطعوا إلي ساحته تعالي.

و لكن شي ءٌ من هاتين الخصوصيتين ليس داخلًا في مجري سيرة العقلاء؛ حيث إنّ سيرتهم إنّما جرت علي القرعة لأجل تعيين المشتبه و حلّ المشكل ظاهراً؛ نظراً إلي عدم افادتها الظن

بالواقع و عدم طريقية ذاتية لها إلي الواقع؛ حتي يعاملوا معها معاملة الطريق إلي الواقع و الكاشف عنه.

كما أنّ تفويض الأمر إلي اللّٰه ليس داخلًا في مجري السيرة العقلائية الجارية في القرعة؛ حيث لا يرون لذلك دخلًا و لا اعتباراً في القرعة.

و عليه فما جرت عليه سيرة العقلاء في باب القرعة ليس مورد امضاء الشارع، بل إنّما دلّت النصوص علي مشروعية القرعة علي نحو آخر مقيد بقيد خاص، أعني به طريقيتها إلي الواقع و الاصابة إلي الحق بشرط تفويض الأمر

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 255

إلي اللّٰه تعالي.

و عليه فليست السيرة العقلائية الجارية في باب القرعة ممضاةً للشارع علي ما هي عليها من الخصوصية، بل يستفاد من نصوص القرعة تخطئتها.

فتحصّل من ذلك عدم كون السيرة العقلائية الجارية في القرعة دليلًا مستقلًا في المقام؛ لأنّ القرعة الشرعية غير القرعة العقلائية، و إن لم تصل إلي حدّ الحقيقة الشرعية.

إزاحة شبهةٍ من سيرة المتشرعة

قد يقال: إنّه لم يُر في مورد من الموارد المنصوصة المفتي بها من موارد القرعة أن يقترع الفقهاءُ فيها و يكتفوا بها. و لم يسمع في مورد أن يحكم قاض من قضاتنا باستناد القرعة في زماننا.

بل في ارتكاز المتشرعة ليست القرعة في مورد من هذه الموارد بعنوان دليل شرعي قابل للاحتجاج. و لأجل ذلك قد يناقش في أصل حجية القرعة.

و الجواب: أنّ النصوص المعتبرة المتظافرة قد دلّت علي اعتبار القرعة و مشروعيتها، و أفتي فقهاؤنا بها و لم يعرضوا عن العمل بنصوصها في مقام الفتوي، بل اتفاق فقهاء الشيعة الامامية علي وجوب العمل بالقرعة في مواردها، من القطعيات و المسلّمات، و غير قابل للانكار.

و مع اتفاق نصوص الكتاب و السنة و فتاوي الأصحاب علي مشروعية

القرعة، لا يضرّ باعتبارها عدم التزام المؤمنين و المتشرعين بالعمل بها. و لا سيّما أنّ فقهاء زمان الغيبة لم يكونوا مبسوطي الأيدي في إجراء الأحكام و رفع الخصومات حتي يمكن إحراز اتصال السيرة المدّعاة بزمن المعصومين عليهم السلام.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 256

و أما قضاتنا المعاصرين و متشرعي عصرنا، لا ربط لعملهم بالسيرة الكاشفة عن نظر الشارع؛ لعدم ملازمةٍ بينهما؛ حيث لا طريق لنا إلي إحراز اتصالها بزمان الشارع.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 257

«شرائط القرعة»

اشارة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 258

1- هل يعتبر تفويض الأمر إلي اللّٰه في القرعة.

2- هل يشترط كون الاقتراع بيد الامام عليه السلام أو نائبه؟

إنّ من أهمّ شرائط جريان القرعة ثبوت واقع لموردها؛ بأن عُلم وجود حق معيّن في الواقع، و لكن لم يعلم بعينه، فالقرعة إنّما تكشف عن ذلك الواقع المعلوم إجمالًا و تعيّنه. فلا تجري فيما لا واقع له كما لو طلق الزوج إحدي زوجاته و لم يقصد واحدة منهنّ بعينها أو أعتق المولي أحد عبيده كذلك، فلا تجري حينئذٍ قاعدة القرعة لتعيين الزوجة المطلقة أو العبد المعتق. كما أشار إلي ذلك السيد الخوئي بقوله:

«إنّ المستفاد من أدلّة القرعة اختصاصها بموارد اشتباه الواقع، بأن يكون له تعين. و اشتبه علي المكلّف، كما في المثال الذي ذكرناه. و يدل عليه قوله عليه السلام:

ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه، ثمّ اقترعوا إلّا خرج سهم المحق و قوله عليه السلام في ذيل رواية بعد قول الراوي: إنّ القرعة تخطي و تصيب، كلما حكم اللّٰه به فليس بمخطئ.

فلا يرجع إلي القرعة في مورد لا تعين له في الواقع أيضاً، كما إذا

أطلق أحد إحدي زوجاته بلا قصد التعيين. بأن يقول إحدي زوجاتي طالق، فعلي القول بصحة هذا الطلاق لا يمكن الرجوع إلي القرعة، لتعيين المطلقة. هذا إذا لم يرد نص خاص. و إلّا فلا مانع من الرجوع إلي القرعة، و إن كان المورد مما ليس له تعيين واقعي كما ورد النص- في رجل قال: أوّل مملوك أملكه فهو حر، فورث ثلاثة- أنّه يقرع بينهم. فمن أصابه القرعة أعتق» «1».

و لكن كلام هذا العَلَم قد ينقض بصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل

______________________________

(1) مصباح الاصول: ج 3، ص 343.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 259

قال: «أوّل مملوك أملكه فهو حرّ، فورث سبعة جميعاً. قال عليه السلام: يقرع بينهم و يعتق الذي خرج سهمه» «1»؛ نظراً إلي أنّ الرجل ملك العبيد كلّهم في آن واحد و بسبب واحد، فلا أوّل بين العبيد المملوكين في الواقع في مفروض الرواية مع أنّها دلّت علي تعيين الأوّل بالقرعة.

و لكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ في مورد هذه الرواية بعد صحة شراء العبيد و تحقق الملاك يثبت حق العتق لأحدهم في الواقع و إن لم يعلم المستحق للعتق واقعاً. و هذا بخلاف ما لو لم يكن في الواقع شيئاً. كمثل قوله: «إحدي زوجتي طالق»؛ حيث لم يتحقق هناك أصل الطلاق، حتي يعيّن الطلاق منهنّ.

هل يعتبر تفويض الأمر إلي اللّٰه في القرعة و هل يعتبر في القرعة تفويض الأمر إلي اللّٰه تعالي أم لا؟

يظهر من نصوص المقام اعتبار تفويض الأمر إلي اللّٰه في القرعة بتوطين النفس علي تسليم أمر اللّٰه و قبول ما خرج بالقرعة معتقداً بأنه حكم اللّٰه تعالي. فلو كان الاقتراع لداعي آخر كالتجربة أو دواعي مادّية- من دون توكيل و لا تفويض إلي اللّٰه تعالي- لا ينكشف بها الواقع. و الدليل علي

ذلك تعليق خروج سهم المحق علي تفويض الأمر إلي اللّٰه في صحيح أبي بصير و جميل «2».

و مما دلّ علي ذلك جواب زرارة عن سؤال طيّار في صحيح جميل قال: «قال الطيّار لزرارة ما تقول في المساهمة أ ليس حقاً؟ قال: زرارة: بلي هي حق، فقال الطيّار:

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم: ح 15.

(2) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم، ح 4 و 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 260

أ ليس قد ورد أنّه يخرج سهم المحق؟ قال: بلي، قال: فتعال حتي ادّعي أنا و أنت شيئاً ثمّ نساهم عليه و ننظر هكذا هو؟ فقال له زرارة: إنّما جاء الحديث بأنه ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه ثمّ اقترعوا إلّا خرج سهم المحق، فأما علي التجارب فلم يوضع علي التجارب» «1».

و يدل علي ذلك عدة نصوص معتبرة اخري سبق ذكرها الاستدلال بالنصوص العامة.

وجه الاستدلال بها ظهورها في تفريع خروج سهم المحق و تعلق إرادة اللّٰه به علي تفويض الأمر عليه.

و لا سيما بقرينة المقابلة في قوله: «و أما علي التجارب فلم يوضع … » أي إنّما وضعت علي ما ليس للتجارب؛ بأن كان الاقتراع لتعيين سهم المحق المتنازع فيه جدّاً بعد تفويض الأمر إلي اللّٰه.

و قد أجاد السيد المراغي في بيان ذلك؛ حيث قال: «إنّ ظاهر اعتبار تفويض الامر إلي اللّٰه تعالي في صحة القرعة بمعني: أن يوطّن المتقارعون أنفُسهم علي تسليم ما أمر به اللّٰه و إطاعته حتّي ينكشف لهم الحق؛ فلو اتفق ذلك منه تجربةً أو من دون التفاتٍ إلي اللّٰه تعالي بطلب البيان فلا عبرة بذلك.

و يدل علي ذلك قيد التفويض المأخوذ في الروايات، و صرح ببعض

ذلك زرارة في جواب الطيار، كما عرفت» «2».

و يظهر من المحقق المزبور كون التفويض واجباً تكليفاً؛ حيث قال: «و الظاهر وجوب هذا التوكل و التفويض علي أهل المقارعة عند تعيّن القرعة

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم، ح 4.

(2) العناوين: ج 1، ص 372.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 261

مقدمةً للواجب» «1». وجه الاستظهار تعبيره بمقدمة الواجب و لمّا بني علي وجوب القرعة في موردها واجباً تكليفياً فلا مناص له من الالتزام بكون التفويض أيضاً واجباً تكليفياً؛ لوجوب ما لا يتم الواجب إلّا به.

و لكنّه غير وجيه بل الظاهر كونه واجباً غيرياً وضعياً؛ حيث يستفاد من النصوص شرطيته للقرعة.

و ذلك لأنّ مقدمة الواجب إنّما تجب تكليفاً إذا كان ذو المقدمة واجباً تكليفاً.

و القرعة ليست من الواجبات التكليفية حتي تجب مقدمتها تكليفاً، كما يجب شراء الماء للوضوء إذا توقف عليه الوضوء لإتيان صلاة الفريضة المضيّق وقتها و ذلك لوجوب نفس الوضوء حينئذٍ تكليفاً.

هل يشترط كون الاقتراع بيد الامام عليه السلام أو نائبه؟

قال في العناوين: «و هل القرعة وظيفة الامام عليه السلام خاصة أو تعمّ كلَّ أحدٍ؟ وجهان» «2».

و الأقوي جواز القرعة لكل أحد و عدم اختصاصها بالامام عليه السلام بل لا إشكال في ذلك. و ذلك لانه مقتضي عمومات القرعة فانّ عموماتها- كما ستعرفها- تنفي اعتبار ذلك في القرعة، بل تنفي اعتبار كل شي ءٍ غير تفويض الأمر إلي اللّٰه تعالي. و لصراحة بعض النصوص الدالة بالخصوص علي مشروعية القرعة من غير الامام عليه السلام.

كصحيحة الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في مولود ليس له ما للرجال و لا له ما للنساء، قال عليه السلام: يقرع الامام أو المقرع به يكتب علي سهم عبد اللّه و علي سهم

______________________________

(1) المصدر.

(2)

العناوين: ج 1، ص 364.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 262

أمة اللّٰه ثمّ يقول الامام أو المقرع: … » «1».

و صحيحة محمد بن عيسي عن الرجل: «أنّه سئل عن رجل نظر إلي راع نزا علي شاة. قال: ان عرفها ذبحها و أحرقها، و إن لم يعرفها قسّمها نصفين ابداً حتي يقع السهم بها فتذبح و تحرق و قد نجت سائرها» «2».

و أما مرسلة حماد عن أحدهما عليهما السلام قال: «القرعة لا تكون إلّا للامام عليه السلام»، «3» ضعيفة بالارسال.

و أما النصوص الخاصّة الواردة في اقتراع النبي صلي الله عليه و آله و الامام عليه السلام، فانها حاكية عن قضايا واردة في وقائع و لا تدل علي الاختصاص.

فمن هذه النصوص صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد، فولدت، فادّعوه جميعاً أقرع الوالي بينهم.

فمن قرع كان الولد ولده و يردُّ قيمة الولد علي صاحب الجارية» «4». حيث قال: «أقرع الوالي بينهم» فان اسناد الاقتراع إلي الوالي بلحاظ كون سؤال الراوي عن مورد النزاع و المخاصمة.

و منها: معتبرة اسماعيل بن مرّار عن يونس قال: «في رجل كان له عدّة مماليك، فقال: أيّكم علّمني آية من كتاب اللّٰه فهو حرّ، فعلّمه واحد منهم ثمّ مات المولي و لم يدر أيهم الذي علمه أنّه قال: يستخرج بالقرعة، قال لا يستخرجه إلّا الامام لأنّ له علي القرعة كلاماً و دعاءً لا يعلمه غيره» «5». و قد عبّرنا عنها بالمعتبرة لعدم ورود

______________________________

(1) الكافي: ج 7، ص 158، ح 2.

(2) التهذيب: ج 9، ص 43، ح 182.

(3) التهذيب: ج 6، ص 240، ح 23.

(4) الوسائل: ب 13،

من أحكام كيفية الحكم، ح 14.

(5) الوسائل: ب 34، من كتاب العتق، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 263

توثيق صريح في اسماعيل بن مرّار، و إنّما حكما باعتبار ثمانية، فلو كان فيه قدح و ضعف لبان و ظهر.

هذا، مع اعتماد ابن الوليد علي رواياته، مع وقوعه في أسناد تفسير علي ابن إبراهيم.، و إن ناقشنا في أمارية الأخيرين وحدهما علي الوثاقة إلّا أن مجموع هذه القرائن لا إشكال في كشفها عن وثاقة الرجل و لا أقل من اعتبار رواياته.

بناءً علي المبني المختار، إلّا أنّ الكلام في دلالتها علي اعتبار كون الاقتراع بيد الامام عليه السلام أو نائبه؛ نظراً إلي ما ورد فيه من التعليل؛ حيث إنّ اعتبار دعاءٍ أو كلام خاص في القرعة لا شاهد له من النص و الفتوي، بل إنّهما متفقان علي خلافه و لم يلتزم به أحدٌ فيحمل علي الاستحباب؛ نظراً إلي ما قلنا من ظهور العمومات في نفي اعتبار أيّ شي ء- غير تفويض الأمر إلي اللّٰه تعالي و وقوع المشكل و المعضل- في مشروعية القرعة، و إلي صراحة بعض النصوص الخاصّة في مشروعية قرعة غير الامام عليه السلام ممن وقعت له المشكلة.

بل إنّ قوله عليه السلام: «ليس من قوم تقارعوا» في صحيح أبي بصير، و قوله عليه السلام «ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه ثمّ اقترعوا … » في صحيح جميل ظاهرٌ في عدم اختصاص القرعة بالامام عليه السلام و نائبه.

و لا سيما بدلالة قوله عليه السلام: «القرعة سنة»؛ لظهورها لفظ السنة في الاستحباب عند عدم القرينة علي شمولها للوجوب.

و لا يخفي أنّ للقرعة موارد من العبادات و الحقوق و المعاملات و المخاصمات، سيأتي بيانها في

مجاري القرعة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 264

أحكام القرعة

اشارة

1- هل القرعة لازمة أو جائزة؟.

2- كيفية القرعة.

3- هل القرعة تصلح لإيجاد الحق.

4- حكم موارد خطاء القرعة.

5- حكمها مع معارضة ساير الأدلة.

هل القرعة لازمة أو جائزة؟

يقع الكلام تارة: في أنّ القرعة هل هي واجبة تكليفاً في الموارد المشكلة أم لا؟ و اخري: في وجوب ترتيب الأثر عليها بعد إعمالها. فالكلام في مقامين.

أما أصل الاقتراع، فيظهر من السيد المراغي وجوبه تكليفاً في موارد القرعة و أنه علي نحو العزيمة، لا الرّخصة؛ حيث قال:

«و أما لو كان من المشكلات، فالأقوي لزوم القرعة و أنّها عزيمة؛ لظاهر أغلب ما مرّ من النصوص، فانها قريبة من الصراحة في لزوم إعمال القرعة» «1».

و لكنه خلاف مقتضي التحقيق؛ لعدم دلالة شي ءٍ من نصوص القرعة علي وجوبها تكليفاً؛ بحيث كان الامتناع حراماً و يعاقب عليها الممتنع. و أما توقف حلّ المشكلة عليها، فيمكن حلُّها بالرجوع إلي الحاكم ليجبر الممتنع عليها، فانّ ذلك من شئون ولاية الحاكم. فلو حكم بالقرعة يجب طاعته و يحرم الامتناع عن

______________________________

(1) العناوين: ج 1، ص 369.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 265

القرعة حينئذٍ؛ لا لأنّها واجبة تكليفاً، بل لأنّ الامتناع نقض حكم الحاكم و ردّه، و هو حرام بلا إشكال.

و أما ترتيب الأثر علي القرعة بعد إعمالها، فيظهر من السيد المراغي «1» أنّ وجوبه تابعٌ لوجوب نفس القرعة. فجعل المقام الثاني تابعاً في الحكم للمقام الأوّل.

و فيه أيضاً: أنّ ظاهر إطلاقات القرعة وجوب العمل بها و حرمة مخالفتها في مطلق موارد مشروعيتها. فكل مورد كانت القرعة فيه مشروعة، فاقتُرع، يجب العمل بها و ترتيب الأثر عليها. و الوجه في ذلك دلالة صحاح أبي بصير و جميل و محمد بن حكيم علي خروج سهم المحق بارادة اللّٰه تعالي و

حكمه و أنّ ما خرج بحكم اللّٰه تعالي غير مخطئ. و عليه فلا إشكال في كون مخالفة القرعة مخالفة حكم اللّٰه تعالي. و لا ريب في حرمة مخالفة حكم اللّٰه و وجوب موافقته.

فاتضح بذلك عدم إناطة وجوب ترتيب الأثر علي القرعة و حرمة مخالفتها بوجوب أصل الاقتراع تكليفاً، بل إنّما هو تابع لأصل مشروعيتها.

كيفية القرعة

و لا يخفي أنّه لم ترد كيفية القرعة في نصٍّ خاصٍّ، إلّا نصوص الاستخارة بالبنادق و الرقاع و المساهمة. و هذه الروايات متظافرة و سيأتي ذكر هذه النصوص مفصّلًا في تحقيق الاستخارة. و قد جاءت كيفيتها أيضاً في كلمات الفقهاء، كما ذكرها في الجواهر «2».

و المعيار مراعاة عدم مداخلة إرادة البشر و علمه في تعيين المشتبه. و

______________________________

(1) العناوين: ج 1، ص 370.

(2) جواهر الكلام: ج 40، ص 344- 347.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 266

مراعاة الستر و تعديل السهام و تفويض الأمر إلي اللّٰه و التعيين بالاقتراع فقط، من غير اطلاع أحد علي المكتوب في الأوراق أو ساير الخصوصيات قبل الاخراج.

و قال في الجواهر في بيان كيفية القرعة في القسمة: «بأن يُكتب أسماءُ الشركاء أو السهام، كلٌّ في رقعة و تصان و يؤمر من لم يطّلع علي الحال باخراج إحداها علي اسم أحد المتقاسمين أو أحد السهام، هذا إن اتفقت السهام قدراً. و لو اختلفت، قسّم علي أقل السهام، و جعل لها أول يعيّنه المتقاسمون، و إلّا الحاكم و تكتب أسماؤهم، لا أسماء السهام؛ حذراً من التفريق، فمن خرج اسمه أولًا أخذ من الأوّل، و اكمل نصيبه منها علي الترتيب، ثمّ يخرج الثاني إن كانوا أكثر من اثنين، و هكذا». «1»

و أنت تري أنّه لم يستند في كيفية

القرعة إلي نصّ أو إجماع أو دليل آخر.

و لكن وردت في الاستخارة بالرقاع و البنادق و المساهمة نصوص قد بيّن فيها الامام عليه السلام كيفية هذه الاستخارات بما يكون من قبيل القرعة في ماهيته و كيفيته.

و سيأتي بيان هذه النصوص في الرسالة التي أفردناها في الاستخارة عقيب مباحث القرعة.

و قال في المسالك- في ذيل كلام المحقق في بيان كيفية القرعة- ما لفظه: «و ما ذكره من كتبة الأسماء و السهام و وضعه في بندقة من طين و نحوه، هو المشهور في استعمال الفقهاء، و لكن لا يتعيّن. فلو جعلها بالأقلام و الحصي و الورق و ما جري مجراها مع مراعاة الستر، كفي». «2»

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 26، ص 309.

(2) مسالك الأفهام: ج 14، ص 41.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 267

و قال في الجواهر- بعد نقل كلام صاحب الشرائع في كيفية القسمة-: «و الظاهر عدم وجوب خصوص كتابة الرقاع و عدم الصون في ساتر، بل و عدم وجوب كون المأمور مكلفاً، بل و غير ذلك من القيود المزبورة؛ إذ المراد حصول التعيين من غير اختيارهما أو وكيلهما، بل يفوضان أمره إلي اللّٰه تعالي و يفعلان ما يفيده و إن كان الأولي الاقتصار علي المأثور و المعهود». «1»

و ليس مراده من المأثور ورود كيفية خاصة في رواية بل مراده الكيفية المأثورة في فتاوي الأصحاب.

و حاصل الكلام: أنّ المعيار في كيفية القرعة مراعاة الستر في كتابة السهام و الأسماء و الرُّقَع المكتوبة و كذا في إخراجها. و لا ريب في أولوية ما هو أدقّ رعاية و أقل كلفة و أخصر طريقاً من الطرق المذكورة، كما يستفاد ذلك من كلمات الشهيد «2» و غيره من

فحول المحققين.

هل القرعة تصلح لإيجاد الحق

و مما ينبغي البحث عنه في بيان مفاد نصوص القرعة، أنها تفيد تعيين حق المستحق الواقعي و إخراج سهمه في موارد الاشتباه و التردّد بمشية اللّٰه تعالي و إرادته. و من هنا يمكن استفادة أماريتها؛ حيث أنّها طريق إلي الواقع و كاشفة عنه.

كما أشار إلي ذلك في الجواهر بقوله: «و القرعة لاستخراج خصوص ما لكل منها من المصداق المتردد واقعاً، فتكشف حينئذٍ عن كون حقّه في الواقع ذلك، و لو لسبق علم اللّٰه تعالي بوقوعها عليه، و لا يحتاج بعد إلي عموم، أو عقد

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 40، ص 344- 345.

(2) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 268

آخر يقتضي الملك أو اللزوم فتأمل جيّداً فانّه دقيق نافع» «1».

و أما أنّها هل تصلح لإيجاد الحق بعد ما لم يكن ثابتاً لأحد قبل الاقتراع؟ أم لا، بل إنّما تختص بموارد تعيين الحق المشتبه و تمييزه بعد ما كان ثابتاً واقعاً و في علم اللّٰه لأحد المتنازعين قبل الاقتراع؟

ظاهر الكلام المزبور من صاحب الجواهر الثاني؛ حيث يستفاد من كلامه أنّ شأن القرعة تعيين الحق الثابت لأحد المتنازعين واقعاً لو لا القرعة.

و يستفاد ذلك من بعض نصوص المقام؛ نظراً إلي دلالة قوله عليه السلام: «إلّا خرج سهم المحق» في صحيح أبي بصير و جميل «2». وجه الدلالة أنّه لو لم يكن حقاً ثابتاً لمحقٍّ قبل القرعة، لا يصح التعبير بخروج سهم بالقرعة. فان خروج الشي ء فرع ثبوته في موطنه قبل آن الخروج.

و عليه فليست القرعة مشرّعةً لإيجاد حق لم يكن ثابتاً في الواقع لمحقٍّ قبلها، كما في بعض أنحاءِ الاقتراعات من جانب بعض البنوك لتعيين الجوائز. و بناءً علي هذا الأساس فلا يترتب عليها

أحكامها، من الملكية و اللزوم و عدم جواز الاقالة و غير ذلك.

حكم موارد خطاء القرعة

و أما في موارد العلم بخطإ القرعة كما لو عَلِم من له الحق واقعاً أنّ القرعة أخطأ، فلا إشكال في وجوب تبعيتها.

و مقتضي التحقيق في المقام عدم وقوع الخطاء في القرعة؛ نظراً إلي دلالة

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 26، ص 312.

(2) الوسائل: ب 13 من كيفية الحكم ح 6 و 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 269

النص علي ذلك، كيف و قد أخبرنا الامام المعصوم بأنها لا تُخطئ؟!

و علي فرض عدم تطابق القرعة مع الحق المعلوم عند صاحبه. فلا مناص من الالتزام بأن ما يظن صاحب الحق أنّه حقه غير مطابق للواقع الثابت في علم اللّٰه، فلعلّه اشتراه ممن اشتراه من غاصب كما في موارد الايادي الغاصبة و لكنه لا يعلم بذلك، بل إنّما اشتراه من البائع معتقداً بأنه ملكه، فتكشف الواقع حينئذٍ عن الواقع الثابت عند اللّٰه المستور عن الناس.

أو يكون هناك اختلال في نية المتقارعين؛ بأن اقترعوا علي التجارب أو لدواعي اخري من غير تفويض الأمر إلي اللّٰه، كما عرفت في صحيحة جميل مما جري بين الطيّار و بين زرارة من المباحثة في ذلك «1».

و لكن الذي يقتضيه التحقيق: أنّ ظاهر قوله عليه السلام: «إلّا خرج سهم المحق» و «فليس بمخطئٍ» إصابة القرعة للواقع في الحق المشتبه بين المتنازعين، و أنّه لا يخرج بالقرعة إلّا سهم المحق واقعاً، كما قلنا آنفاً. و علي فرض خطأه في مورد كما لو علم المالك الواقعي بأن سهمه خرج باسم غيره بالقرعة فالتوجيه الصحيح أنّ ذلك الحق إنّما يستحقه ذلك الغير واقعاً و أنّه مستحقه الواقعي في علم اللّٰه. و الوجه في ذلك

دلالة قوله عليه السلام: «كل ما حَكَم اللّٰه به فليس بمخطئٍ» علي دوران الواقع في موارد القرعة مدار حكم اللّٰه تعالي، لا الواقع الخارجي الثابت قبل القرعة.

و قد أجاد في العناوين في بيان ذلك؛ حيث قال: «و من هنا ظهر أنّ القرعة كما تكون كاشفة تكون مثبتةً. يحتملهما رواية ابن حكيم، حيث قال: إنّ القرعة تخطئ و تصيب؟ فقال عليه السلام: كل ما حكم اللّٰه به فليس بمخطئٍ.

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 270

و المراد علي الكشف أنّ ما حكم اللّٰه به مبيِّن للواقع قطعاً و لا يكون مخالفاً للواقع. و علي الاثبات يكون معناه ما حكم اللّٰه به فهو الصواب. فيكون جعلًا للحكم ابتداءً. فالفرض أنّ القرعة ليس بمخطئٍ، بل إمّا كاشف عن الواقع لو كان أحدهما معيّناً في الواقع، أو مثبت ابتداءً، لو لم يكن كذلك، و كلاهما متّبع.

نعم، هل يستفاد منه أنّ صورة تعيّن الواقع لو أخرجت القرعة خلافه يتّبع فيكون كالجعل الابتدائي، أولًا، بل الظاهر أنّ القرعة في هذا المقام لا تخرج إلّا الواقع؟ وجهان.

و الظاهر من قرينة السؤال: الثاني، لأنّ غرض السائل من الإصابة و الخطأ إبراز الواقع و عدمه، لا أنّه لو فرض حكم اللّٰه بخلاف ما كان معيّناً قبل القرعة في الواقع لكان هذا خطأً، فيكون قوله عليه السلام: ليس بمخطئٍ، أنّه لا يقع كذلك، بل لا يخرج إلّا نفس الواقع.

مع احتمال أن يقال: إنّ المراد في الجواب تنبيه السائل علي أنّ إصابة الواقع و العدم لا دخل له في الخطأ و الصواب، بل الميزان في الصواب و الخطأ حكم اللّٰه، فكل ما حكم اللّٰه به هو

الصواب، و لا دخل لكون شي ء معيّناً في نظرنا في ذلك فتأمل. و يصير الحاصل: أنّ حكم اللّٰه يكشف عن تعيّن خلافه» «1».

حكمها مع معارضة ساير الأدلّة

قد عرفت أنّ القرعة إنّما جُعلت لكل أمر مشكل لا مناص منها. و عليه فاذا كانت المشكلة قابلة للارتفاع بقيام أمارة كخبر الثقة أو البينة و نحوهما، لا تصل النوبة إلي القرعة.

و أما الاصول الجارية في موارد الشبهات الحكمية التكليفية أو الوضعية

______________________________

(1) العناوين: ج 1، ص 364- 363.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 271

فلا مساس لها بالقرعة حتي تقع المعارضة بينهما؛ نظراً إلي اختصاص القرعة بالشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي؛ بمعني الشبهات المحصورة و غير المحصورة من موارد الاشتباه في الموضوعات الخارجية من الحقوق و غيرها.

و أما الشبهات الموضوعية الراجعة إلي الشبهة في الأحكام الوضعية، كالطهارة و النجاسة و الشرطية و المانعية، و نحو ذلك فمرجعها إلي الاصول الجارية فيها.

نعم قد يتفق التعارض بين مقتضي القرعة و بين مقتضي الاصل الجاري في مثل الملكية و النجاسة و الطهارة و نحوه كموارد اشتباه الغنم الموطوءة و المال المردّد بين جماعةٍ. ففي هذه الموارد تحكّم نصوص القرعة لأنها موضع النص، و لكن لا بد من الاقتصار بمواردها و لا يمكن التعدي عنها؛ اقتصاراً فيما خالف القاعدة علي موضع النص. و قد بحثنا عن هذه القاعدة في محلها من علم الاصول في المجلد الرابع من كتابنا «بدائع البحوث». و أما كون القرعة أمارة و معارضها أصلًا، لا ينافي تقديم الاصل بل تقدمُه طبعاً، بل وروده علي القرعة؛ لما يستفاد من أدلّة القرعة من اختصاص أماريتها بموارد الاشكال فاذا ارتفع المشكل، لا موضوع للقرعة.

تطبيقها علي محل الكلام أنّ قاعدة الطهارة و أصالة العدم

أو الاستصحاب ربما تقتضيان خلاف ما خرج بالقرعة. فيكون مؤدّي القرعة في مثل هذه الموارد خلاف مقتضي القاعدة. فلا يمكن التعدي حينئذٍ عن مورد النص الدال علي مشروعية القرعة فيه بالخصوص إلي غيره من مجاري تلك القاعدة الأوّلية.

و قد أجاد في بيان ذلك السيد الخوئي قدس سره؛ حيث قال:

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 272

«و الذي يستفاد من مجموع الروايات الواردة في القرعة و مواردها أنّها جعلت في كل مورد لا يعلم حكمه الواقعي و لا الظاهري. و هذا المعني هو المراد من لفظ المشكل في قولهم: إنّ القرعة لكل أمر مشكل. و إن لم نعثر علي رواية بهذا اللفظ، و هو المراد أيضاً من لفظ المشكل المذكور في متن الكتب الفقهية، فان المراد- من قولهم: هو مشكل أو فيه إشكال- عدم العلم بالحكم الواقعي، و عدم الاطمئنان بالحكم الظاهري لجهة من الجهات، لا عدم العلم الاطمئنان بالحكم الواقعي فقط، إذ الاشكال بهذا المعني موجود في جميع الاحكام الفقهية، سوي القطعيات.

و بالجملة، مورد القرعة- نظراً إلي مورد الروايات الواردة فيها- هو اشتباه الحكم الواقعي و الظاهري، فالمراد من المجهول في قوله عليه السلام في رواية: كل مجهول ففيه القرعة. هو المجهول المطلق أي المجهول من حيث الحكم الواقعي و الظاهري.

و ظهر بما ذكرناه أنّه يقدم الاستصحاب علي القرعة تقدم الوارد علي المورود، إذ بالاستصحاب محرز الحكم الظاهري، فلا يبقي للقرعة موضوع بعد كون موضوعه الجهل بالحكم الواقعي و الظاهري علي ما ذكرناه، بل يقدم علي القرعة أدني أصل من الاصول كأصالة الطهارة و أصالة الحل و غيرهما مما ليس له نظر إلي الواقع، بل يعين الوظيفة الفعلية في ظرف الشك في الواقع،

إذ بعد تعيين الوظيفة الظاهرية تنتفي القرعة بانتفاء موضوعه.

و ظهر بما ذكرناه أيضاً أنّه لا أساس لما هو المعروف في ألسنتهم: من أنّ أدلّة القرعة قد تخصصت في موارد كثيرة. و كثرة التخصيص صارت موجبة لوهنها، فلا يمكن الأخذ بها في موارد انجبار ضعفها بعمل الاصحاب فيها. و ذلك، لأنّ الموارد التي لم يعمل فيها بالقرعة إنّما هو لعدم اشتباه الحكم الظاهري

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 273

فيها لجريان قاعدة من القواعد الظاهرية، لا لأجل تخصيص أدلّة القرعة، فلم تثبت كثرة التخصيص فيها الموجبة لوهنها.

نعم قد يعمل بالقرعة في بعض الموارد مع جريان القاعدة الظاهرية، للنص الخاص الوارد فيه، كما إذا اشتبه غنم موطوءٌ في قطيع، فانّه ورد نص دال علي أنّه بنصف القطيع و يقرع، ثمّ يجعل نصفين و يقرع و هكذا إلي أن يعين الموطوء، فيجتنب عنه دون الباقي. و لو لا النص الخاص، لكان مقتضي القاعدة هو الاحتياط و الاجتناب عن الجميع» «1».

كما أنّ قاعدة العدل و الانصاف محكّمة- في موارد جريانها- علي القرعة؛ نظراً إلي ارتفاع المشكلة بجريانها، إلّا فيما ورد النص فيه بالقرعة بالخصوص.

فيجب العمل فيه بالقرعة. و لكنّه لما كان حينئذٍ خلاف مقتضي القاعدة، يجب الاقتصار فيما خالف القاعدة علي موضع النص.

______________________________

(1) مصباح الاصول: ج 3، ص 341- 342.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 274

«مجاري القاعدة»

اشارة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 275

1- عدم اختصاصها بالتنازع في الحقوق.

2- كلام السيد الامام الراحل قدس سره و نقده.

3- الموارد المنصوصة بالخصوص.

4- مقتضي التحقيق في ضابطة جريان القرعة.

قاعدة القرعة إنّما تجري في الشبهات الموضوعية؛ بمعني موارد الاشتباه في الموضوعات الخارجية المقرونة بالعلم الاجمالي التي

لا يمكن فيها رفع الاشتباه و حلّ المعضل بنصّ من الكتاب و السنة. و هذه هي الضابطة الكلية في جريان قاعدة القرعة. و يستفاد ذلك من مجموع النصوص الواردة في القرعة.

و أما الشبهات الحكمية و كذا الموضوعية الراجعة إلي الشبهة في الأحكام الوضعية كالطهارة و النجاسة و الملكية و الشرطية و المانعية و نحوها، فانّ المحكّم فيها الاصول، كأصالة الطهارة و أصالة عدم التذكية و أصالة عدم الانتقال و نحو ذلك ما لم ينجر إلي المخالفة القطعية، و إلّا فلا بد من الاحتياط في الشبهات المحصورة و لو بالاجتناب عن بعض الأطراف، إلّا في موارد ورد النصّ الخاص فيها بالقرعة.

و لمّا كانت القرعة في مجاري الاصول الشرعية خلاف مقتضي القاعدة، فلا بد في جريانها من الاقتصار علي موضع النص. و كذا في موارد جريان الأمارات الشرعية و العقلية و العقلائية، حتي مثل قاعدة العدل و الانصاف، لو بنينا علي حجيتها، كما هو الحق. و قد بحثنا عنها مفصّلًا في المجلّد الأوّل من كتابنا «مباني الفقه الفعّال».

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 276

و أما ما ورد في بعض النصوص المعتبرة، «1» من جريان سيرة أمير المؤمنين عليه السلام علي القرعة في كلّ أمرٍ لم يرد فيه كتابٌ و لا سنّةٌ، فالمقصود ما يعمّ أدلّة الأمارات و الاصول؛ بمعني عدم ورود نصٍّ من الكتاب و السنة و لا الاجماع في ذلك المورد بالخصوص، بلا فرق بين أدلّة الأمارات كخبر العدل و البيّنة، و بين أدلّة الاصول كقاعدة الطهارة و الاستصحاب و نحو ذلك.

و التعبير الوارد في هذه النصوص بيان للأمر المشكل و الملتبس المذكور في ساير نصوص الباب موضوعاً للقرعة، كما يشهد لذلك ما

ورد في ذيل هذه النصوص بقوله عليه السلام: «و هي من المعضلات».

و عليه فالضابطة الأوّلية في باب القرعة اختصاصها بموارد لم يمكن تعيين المشتبه و رفع المشكلة و حلّ المعضل بدلالة نصّ من الكتاب و السنة.

و بناءً علي هذا الأساس فلو أمكن في مورد رفع الاشتباه و حل المعضل بنصّ من الكتاب و السنة، فمع ذلك ورد فيه النص بالقرعة، يكون علي خلاف مقتضي القاعدة و يجب فيه الاقتصار علي موضع النص و لا يمكن التعدي إلي غيره من الموارد الممكن فيها رفع الاشتباه و حلّ المعضل بنص من الكتاب و السنة.

______________________________

(1) بصائر الدرجات/ لمحمد بن الحسن الصفار: ص 409، ح 4، و ص 410، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 277

عدم اختصاصها بالتنازع في الحقوق

إنّ مشروعية القرعة لا تختص بموارد التنازع في الحقوق، كما قد يستظهر من صحاح أبي بصير و جميل و معاوية و الحلبي «1». و ذلك لعدم فرض التنازع في الأوّلين، و عدم دلالة المورد علي الاختصاص في الأخيرين، و كذا ما شابهما من النصوص الواردة في موارد خاصة؛ حيث إنّه لم يرد في هذه النصوص تعبير في كلام الامام عليه السلام يدل علي اختصاص مشروعية القرعة بموارد التنازع في الحقوق، أو بالموارد المذكورة فيها.

و لا ينقض بتفويض الأمر إلي اللّٰه لعدم كونه من قبيل المورد.

و أما الدليل علي التعميم فعموم عدّة من الأخبار الواردة في القرعة، كقوله عليه السلام: «كل مجهول ففيه القرعة» «2» في صحيح محمد بن حكيم. و قوله: «القرعة سنّة» «3» في صحيح إبراهيم. و قوله عليه السلام: «فأيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه عز و جلّ أ ليس اللّٰه يقول: فَسٰاهَمَ

فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» «4» في صحيح منصور بن حازم. و قوله: «و هي من المعضلات» في صحيح موسي البجلي و معتبرة عبد الرحيم؛ حيث يفهم منهما أنّ موضوع القرعة وقوع المعضل، و بما أنّه من مصاديق المعضلات يجوز فيه القرعة.

و بذلك تدل هذه النصوص علي مشروعية القرعة في كل معضل و مجهول و مشكل لم يمكن فيه رفع الاشتباه و حلّ المعضل بنصّ من الكتاب و السنة،

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم، ح 4، 6، 14، 5.

(2) المصدر: ح 11.

(3) المصدر: ح 2.

(4) المصدر: ح 17.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 278

بلا اختصاص بموارد التنازع في الحقوق.

هذا مع استشهاد الامام في ذيله بقضية مساهمة يونس الواردة في القرآن، مع عدم كونها من قبيل التنازع في حق. و مثله ساير النصوص المفسّرة للآية.

كلام السيد الإمام الراحل قدس سره و نقده

ثمّ إنّ للسيد الامام الراحل كلاماً في المقام، حاصله: إنّ سيرة العقلاء إنّما جرت علي القرعة في موارد تزاحم الحقوق مع عدم الترجيح مطلقاً- سواءٌ كان لها واقع معلوم عند اللّٰه أم لا- بعنوان أحد طرق فصل الخصومة عند فقدان ساير الطرق.

و إنّ النصوص الواردة في القرعة كلها ناظرة إلي ذلك واردة في هذا المورد، لا غيره، إلّا ما ورد في اشتباه الغنم الموطوءة، فلا بد من التعبّد بمورده. ثمّ وجَّه هذا المورد بأنّ التعبّد بالقرعة في هذا المورد أيضاً يمكن أن يكون لأجل تزاحم حقوق الشياة أو حقوق أربابها.

قال قدس سره: «و محصّل الكلام أنّه لا إشكال في بناء العقلاء علي العمل بالقرعة في موارد تزاحم الحقوق مع عدم الترجيح عندهم، سواء كان لها واقع معلوم عند اللّٰه أو لا.

و بالجملة القرعة لدي العقلاء أحد طرق فصل الخصومة،

لكن في مورد لا يكون ترجيح في البين و لا طريق لإحراز الواقع …

إلي أن قال: إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المتتبع في الموارد المتقدّمة التي وردت فيها الأخبار الخاصة و كذا المتأمل في كلمات الأصحاب في الموارد التي حكموا بالقرعة يحصل له القطع بأنّ مصبّ القرعة في الشريعة ليس إلّا ما لدي العقلاء طابق النعل بالنعل. فان الروايات علي كثرتها، بل تواترها- باستثناء مورد واحد

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 279

سيأتي الكلام فيه- إنّما وردت في موارد تزاحم الحقوق سواء أ كان لها واقع معلوم عند اللّٰه مجهول لدي الخصمين أو لا؟ …

نعم يبقي مورد واحد- هو قضية اشتباه الشاة الموطوءة- مما لا يمكن الالتزام بها في اشتباهها فلا بد من الالتزام فيه بالتعبد في المورد الخاص لا يتجاوز منه إلي غيره …

و يمكن أن يقال: إنّ التعبّد في هذا المورد أيضاً إنّما يكون لأجل تزاحم حقوق الشياة لنجاة البقية كما أشار إليه في النص بقوله: فان لم يعرفها قسمها نصفين أبداً حتي يقع السهم بها فتذبح و تحرق و قد نجت سائرها، و في رواية تحف العقول: فايهما وقع السهم بها ذبحت و احرقت و نجي سائر الغنم و التعبير بنجاة سائرها لعلّه إشارة إلي أنّ هذا المورد أيضاً من قبيل تزاحم حقوق الشياة في بقاء حياتها. و ربما يحتمل أن يكون مورده من قبيل تزاحم حقوق أرباب الغنم، فان قطيع الاغنام يكون من أرباب متفرقة غالباً فيتزاحم حقوقهم. و بالجملة من تتبع موارد النص و الفتاوي يظهر له أنّ مصب القرعة ليس إلّا ما أشرنا إليه» «1».

هذا، و لكن المناقشة فيه أولًا: بأنّ نصوص القرعة قد دلّت علي اعتبار

قيد التفويض إلي اللّٰه و عدم ورود كتاب و لا سنة في موردها. و هذان القيدان غير معتبرين في بناء العقلاء. فليست نصوص القرعة إمضاءً لما جري في سيرة العقلاء، بل دلّت علي تخطئتها.

و ثانياً: بأنّ المستفاد من نصوص القرعة أنّها طريق إلي الواقع، كقوله عليه السلام:

«إلّا خرج سهم المحق» و «ما حكم للّٰه فليس بمخطئٍ» و «فتصيب» في النصوص

______________________________

(1) الرسائل/ طبع مطبعة مهر: ج 1، ص 348- 346.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 280

الصحيحة المذكورة. و هذا إنّما هو من شأن الأمارات، بل القرعة دائم الاصابة إلي الواقع بارادة اللّٰه بعد تفويض الأمر إليه تعالي. و ليست القرعة لدي العقلاء كذلك، كما هو واضح.

و ثالثاً: بأنّ عمومات القرعة تنفي اختصاص اعتبارها بموارد تزاحم الحقوق. و وقوع المخاصمة فيها، كما عرفت آنفاً.

الموارد المنصوصة بالخصوص

قد وردت نصوص دلّت علي مشروعية القرعة في موارد خاصة. و جاءَ ذكر بعض هذه الموارد في كلام الشهيد و إليك نص كلامه. قال:

«كل أمر مجهول فيه القرعة بالنص و لها موارد، منها: بين أئمة الصلاة عند الاستواء في المرجحات. و بين أولياء الميت في تجهيزه من الاستواء. و بين الموتي في الصلاة و الدفن مع الاستواء في الأفضلية، أو عدمها. و بين المزدحمين في الصف الأوّل مع استوائهم في الورود، و كذا في القعود في المسجد أو المباح، و كذا في الحيازة، و إحياء الموات، و في الدعاوي و الدروس، إلّا أن يكون منهم مضطراً لسفر، أو امرأة. و بين الزوجات في الأسفار، و في الابتداء لو سبق اليه زوجتان دفعةً. و بين الموصي بعتقهم، أو المنجز من غير ترتيب. و عند تعارض البينتين، أو تعارض الدعويين. و لا

تستعمل في العبادات في غير ما ذكرناه، و لا الفتاوي، و الأحكام المشتبهة، إجماعاً» «1».

هذه الموارد- التي ذكرها الشهيد- جملة من موارد القرعة.

و إنّ لها موارد اخري أيضاً وردت فيها النصوص الخاصة و لم تُذكر في

______________________________

(1) القواعد و الفوائد: ص 23.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 281

كلام الشهيد.

و ذلك مثل ما ورد في تعيين الغنم الموطوءة المشتبهة، كما في صحيحة محمد بن عيسي: «محمد بن عيسي عن الرجل أنّه سئل عن رجل نظر إلي راع نزا علي شاة، قال عليه السلام: إن عرفها ذبحها و أحرقها، و ان لم يعرفها قسَّمه نصفين أبداً حتي يقع السهم بها، فتذبح و تحرق و قد نجت سائرها» «1».

و ما ورد في تعيين المعتق المتردّد بين عدة مماليك كما في صحيحة ابن مسلم «2» و غيره «3».

و في تعيين الوارث المشتبه بين صبيين، كما في صحيحة حريز و موثق ابن مسلم و غيرهما «4».

و ما ورد منها في تعيين جنس الخنثي، كصحيح الفضيل و غيرها «5».

و ما ورد في تعيين الولد المولود من وطي عدّة في طهر واحد، كما في صحاح الحلبي و أبي بصير و معاوية بن وهب و سليمان بن خالد و غيرها «6».

إلي غير ذلك من النصوص الواردة في موارد مختلفة. و قد عدّ السيد الامام

______________________________

(1) التهذيب: ج 9، ص 43، ح 182.

(2) التهذيب: ج 6، ص 240، ح 21.

(3) التهذيب: ج 9، ص 171، ح 46.

(4) التهذيب: ج 9، ص 362، ح 11 و 12 و ص 363، ح 18 و 17، و الكافي: ج 7، ص 137، ح 4.

(5) الكافي: ج 7، ص 158، ح 3 و 2، و التهذيب: ج

9، ص 356، ح 7 و ج 6، ص 239، ح 19، و الفقيه: ج 4، ص 329، ح 5705.

(6) الكافي: ج 5، ص 490، و التهذيب: ج 6، ص 240، ح 26، و ص 238، ح 16، و ص 239، ح 20، و ج 9، ص 348، ح 23، و ج 8، ص 169، ح 15 و 14، و الفقيه: ج 3، ص 92، ح 3392، و ص 94، ح 3395، و 3399.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 282

الراحل موارد القرعة التي وردت فيها النصوص بالخصوص و أحصاها إلي اثنين و عشرين مورداً. «1»

مقتضي التحقيق في ضابطة جريان القرعة

مقتضي التحقيق في ضابطة جريان القرعة: اختصاصها بموارد الشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي التي لم يمكن فيها حلّ المشكلة و رفع العويصة بأمارة أو أصل شرعي، كما في المال المتردد بين شخصين تنازعا فيه.

و عليه فلو كان لأحدهما يدٌ تجري قاعدة اليد، أو قامت لأحدهما بينة يتعين العمل بالبينة، أو موارد اشتباه الشي ء النجس إذا جرت قاعدة الطهارة أو أصالة عدم التذكية في موارد اشتباه المذكّيٰ بالميتة، أو أصالة الاحتياط في الشبهات المحصورة، و نحوها من موارد جريان الأمارات و القواعد و الاصول الشرعية.

و السر في ذلك أنّ في موارد قيام الأمارات و جريان الاصول لمّا ترتفع بها المشكلة لا تصل النوبة إلي القرعة. إلّا أن يرد فيها نص خاص بالقرعة، فحينئذٍ إذا دلّ نصٌّ بالخصوص علي تعيّن القرعة في مورد، يجب الاقتصار فيه علي موضع النص و لا يجوز التعدي إلي غيره. و ذلك لقاعدة وجوب الاقتصار فيما خالف القاعدة علي موضع النص. و قد بحثنا عن هذه القاعدة مفصّلًا في المجلّد الثالث من كتابنا «بدائع

البحوث»، فراجع.

و قد عرفت أيضاً عدم اختصاصها بباب التنازع في الحقوق لأعمّية مفاد نصوصها، كما عرفت.

______________________________

(1) راجل الرسائل/ للسيد الامام: ج 1، ص 345- 340.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 283

التطبيقات الفقهية

اشارة

و قد استدل الفقهاء- من القدماء و المتأخرين- بقاعدة القرعة و نصوصها في فروع كثيرة من مختلف أبواب الفقه.

فمن هذه الفروع مسألة الاختلاف في ولد جارية اشتراها رجلان فواقعاها جميعاً.

قال أقدم المحدثين و أجلّهم الشيخ الصدوق: «و إذا اشتري رجلان جارية، فواقعاها جميعاً فأتت بولد، فانّه يقرع بينهما، فمن أصابته القرعة الحق به الولد، و يغرم نصف قيمة الجارية لصاحبه» «1». و نظيره جاءَ في كلام الشيخ المفيد «2».

و منها: مسألة من أعتق بعض عبيده و لم يعلم من المُعتَق.

قال الفقيه الأقدم الأجلّ الشيخ المفيد في رسالته المسمّاة بالعويص: مسألة اخري: «رجل كان له ثلاثون عبداً، فأعتق ثلثهم عند موته، فلم يعلم من المعتق عليه. الجواب: يقرع بينهم، فمن خرجت القرعة عليه عُتِقَ» «3».

و منها: مسألة تردّد حق بين شخصين تساوت الشهود في العدالة و التعداد.

قال مؤسّس الفقه الامامية الشيخ الطوسي في النهاية: «و من شهد عنده شاهدان عدلان علي أنّ حقّاً ما لزيد فان كانت أيديهما خارجتين معاً، فينبغي للحاكم أن يحكم لأعدلهما شهوداً. فان تساويا في العدالة، كان الحكم لأكثرهما

______________________________

(1) المقنع: ص 401.

(2) المقنعة: ص 544.

(3) العويص/ طبع المؤتمر العالمي: ص 51.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 284

شهوداً، مع يمينه باللّٰه تعالي أنّ الحق له. فان تساويا في العدد اقرع بينهم، فمن خرج عليه، حلف و كان الحكم له. فان امتنع من خَرَجَ اسمُه في القرعة من اليمين، حلف الآخر و كان الحكم له». «1»

و قال في الخلاف: «إذا تعارضت البيّنتان علي وجه لا ترجيح لأحدهما علي الاخري اقرع بينهما. فمن خرج اسمه حلف و أعطي الحق. هذا هو المعوّل عليه عند أصحابنا» «2».

و لا يخفي أنّ الشيخ رتّب علي ذلك- أي استعمال القرعة عند تعارض البينتين- فروعاً عديدة في مختلف أبواب الفقه في كتبه المختلفة.

و قال ابن ادريس: «فأما مذهب أصحابنا في هذه المسألة فمعروف، إذا تقابل البينتان و لم يترجح إحداهما علي الاخري بوجه من الوجوه و أشكل الأمر، فانهم يرجعون إلي القرعة؛ لأنّ أخبارهم ناطقة متظاهرة متواترة في أنّ كلّ أمر مشكل فيه القرعة، و هم مجمعون علي ذلك» «3».

و قد عرفت من كلامه إجماع الأصحاب علي استعمال القرعة في كل أمر مشكل من مختلف الفروع و الأبواب.

و منها: مسألة ميراث الخنثي المشكل،

فحكموا فيها بالقرعة.

قال الشيخ الطوسي في النهاية: «إذا وُلد مولود ليس له ما للرجال و ما للنساء اقرع عليه: فإن خَرَجَ سهم الرجال الحِق بهم و ورث ميراثهم. و إن خرج سهم النّساء الحق بهنّ و ورث ميراثهن. و كل أمر مشكل مجهول يشتبه

الحكم

______________________________

(1) النهاية/ من منشورات قدس: ص 344- 343.

(2) الخلاف: ج 6، ص 337.

(3) السرائر: ج 1، ص 87.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 285

فيه فينبغي أن تستعمل فيه القرعة؛ لما روي عن أبي الحسن موسي عليه السلام و عن غيره من آبائه و أبنائه عليهم السلام من قولهم: كل مجهولٍ ففيه القرعة، قلت له: إنّ قرعة تخطئ و تصيب، فقال عليه السلام: كل ما حكم اللّٰه به فليس بمخطئٍ» «1».

و منها: مسألة تردّد البهيمة الموطوءة و اختلاطها بغيرها من البهائم الموجودة في القطيع؛

فحكموا فيها بالقرعة.

قال الشيخ الطوسي: «فان اختلطت البهيمة الموطوءة بغيرها من البهائم و لم تتميّز، قُسِّمَ القطيع الذي فيه تلك البهيمة و اقرع بينهما، فما وقعت عليه القرعة، قُسِّم من الرأس و اقرع بينهما إلي أن لا تبقي، إلّا واحدة» «2».

و منها: مسألة القسمة بالقرعة.

قال الشيخ في الخلاف: «القسمة إذا كان فيها ردٌّ أو لم يكن فيها ردٌّ، لا يدخلها خيار المجلس إذا وقعت القرعة و عُدّلت السهام، سواءٌ كان القاسم الحاكم، أو الشريكين، أو غيرهما» «3».

و قال في الشرائع: «و تكون بتعديل السهام و القرعة» و قال في المسالك في شرحه: «أيّ تكون القسمة الاجبارية تامّةً بذلك. فمتي حصلت القرعة، لزمت» «4».

و لا يخفي أنّ التعريفات المترتبة علي اعتبار القرعة في باب القسمة كثيرة.

و استعمال القرعة في جميعها مورد اتفاق الأصحاب.

______________________________

(1) النهاية: ص 346- 345.

(2) المصدر: ص 709.

(3) الخلاف: ج 3، ص 18.

(4) مسالك الافهام: ج 4، ص 320.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 286

و منها: مسألة اشتباه قتلي المشركين بقتلي المسلمين

فحكم فيها ابن ادريس بالقرعة؛ معلّلًا باتفاق أصحابنا علي ذلك.

قال: «و إذا اشتبه قتلي المشركين بقتلي المسلمين، فقد روي أنّه يُواري منهم من كان صغير الذكر. و هذا رواية شاذة، لا يعضدها شي ءٌ من الأدلّة. و الأقوي عندي أنّه يقرع عليهم؛ لأنّ كل أمر مشكل عندنا فيه القرعة بغير خلاف، و هذا من ذاك» «1». و ليس هذا المورد من قبيل تزاحم الحقوق و من تبع في مطاوي كلماتهم يجد فروعاً فقهية كثيرة ليست من قبيل تزاحم الحقوق.

إلي غير ذلك من الفروع الفقهية الكثيرة المنتشرة في أبواب الفقه و هي أكثر من أن تحصي، و قد عرفت جعله منها في مطاوي ما بيّناه و نقلناه من النصوص و كلمات الأصحاب. و من أراد التتبّع في ذلك فليرجع كتب الأصحاب من القدماء و المتأخرين و المعاصرين.

______________________________

(1) السرائر: ج 2، ص ابن ادريس.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 287

«تحقيق» «في الاستخارة»

اشارة

منصة الاستخارة في الشريعة و أهميتها

شبهات و ردود

معني الاستخارة؛ لغةً و اصطلاحاً

أقسام الاستخارة بمعناها الأخص الشائع

مدرك الاستخارة

شرائط الاستخارة و آدابها

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 288

منصة الاستخارة في الشريعة و أهميّتها

اشارة

1- رفع التحيُّر و تحصيل العزم الراسخ.

2- الخضوع و الخشوع لعظمة اللّٰه و التوكل و تفويض الأمر إليه.

3- دور الاستخارة في فلاح الانسان و نجاحه.

4- الاستخارة من آيات وجود اللّٰه.

5- كلام صاحب الحدائق في الغرض من الاستخارة.

قد استقرّ دأب الفقهاء علي البحث عن الاستخارة في صلاة الاستخارة من أقسام الصلوات المندوبة.

و لكن جرت عادة المحققين الباحثين عن القواعد الفقهية عقد البحث عن الاستخارة في فذلكة البحث عن قاعدة القرعة. و من هنا رأينا الأنسب عن نبحث عن الاستخارة بعد البحث عن قاعدة القرعة، و إن كان نطاق البحث عنها أوسع و مسائلها أكثر من المسائل المبحوث عنها في القرعة؛ لكثرة ما وقع بين فحول الفقهاء من البحث و النزاع في مشروعية الاستخارة المتداولة و مدركها و شرائطها و كيفيتها و ساير خصوصياتها.

ثمّ لا يخفي أنّ الاستخارة و إن كانت من العباديات؛ لما اخذ فيها من الدعاء و التوسل و تفويض الأمر إلي اللّٰه، إلّا أنّ موارد استعمالها لما كانت عامّة شاملة لجميع امور الانسان و عامّة شئون عيشه، فهي تكون في سعة نطاقها كالقرعة، بل هي أوسع منها؛ لعدم كلام و لا نزاع في سعة نطاقها، بخلاف القرعة؛ حيث ذهب جماعة إلي اختصاص القرعة بمواردها المنصوصة، و قد خصّها بعض بالحقوق المتنازع فيها. و ليس شي ءٌ من هذه الاختلافات في سعة نطاق

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 289

الاستخارة.

رفع التحيُّر و تحصيل العزم الراسخ

إنّ من أعظم فوائد الاستخارة رفع التحيُّر في امور العيش و الوصول إلي عزم راسخ و اكتساب قوّة إرادة في الأفعال. و إنّ قوّة الارادة و استحكام العزم و الجزم فيه من أهم عوامل التوفيق و التقدم و الانجازات الملموسة، كما أنّ رفع الحيرة

و إزالة اليأس، و نفث روح التأميل و اضاءة الطريق و تنوير مستقبل الامور، من أعظم اسباب التوفيق و النجاح في صعوبات العيش و مزالّ الأقدام، و إنّ لذلك دوراً كبيراً للفلاح في كل أمر خطير.

و ذلك أنّ كثيراً من امور العيش تختفي مصالحها الواقعية عن فكر البشر، و لا يتمكن الانسان من الخروج عن وادي التحيّر و لا من رفع الشك و الترديد بالفكر و لا بمشاورة الناس.

ففي مثل هذه الموارد أيّ مشاور أعلم و أصلح من الخالق السبحان؟! و ليست الاستخارة، إلّا مشاورة الربّ الجليل، كما أشار إليه الامام عليه السلام في ذيل رواية- واردة في الاستخارة بالرقاع-: «هكذا شاور ربّك» «1».

فالاستخارة في الحقيقة نعمة من جانب اللّٰه تعالي منَّ اللّٰه بها علي المؤمنين لأجل رفع الشك و الحيرة و إزالة اليأس عنهم، و لغرض توجّه القلوب إلي علّام الغيوب و مقلّب القلوب، و تأميلهم لمستقبل الامور.

و بذلك يهديهم إلي الطريق الناجح و يريهم سبيل الرشد و الكمال، و يلهمهم بالاستخارة رموز السعادة و الفلاح في صعوبات امور الدنيا و

______________________________

(1) الوسائل: ب 2، من صلاة الاستخارة، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 290

مشاكلها.

الخضوع و الخشوع لعظمة اللّٰه و التوكل و تفويض الأمر إليه

و من أحسن خصوصيات الاستخارة، الخضوع في مقابل قدرة اللّٰه تعالي و الخشوع لعظمته، و الدعاء و طلب الخير من ساحته المقدسة للتوفيق و النجاح في العمل الذي يريده، و التوكل و تفويض الأمر إليه سبحانه و تعالي.

فانّ لهذه الخصال الجليلة الرفيعة قيمة ذاتية نفسية، مع قطع النظر عن التوصل بها إلي المطلوب؛ مع أنّها من أحسن طرق الوصول و النيل إليه؛ لأنّ فيها إعطاء زمام الأمر إلي من بيده ملكوت السماوات و الأرض و هو

علي كلِّ شي ءٍ قدير.

فانّ اللّٰه تعالي وعد من دعاه الاجابة. بقوله: «وَ قٰالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» «1» و «قُلْ مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لٰا دُعٰاؤُكُمْ» «2»، و قد أخبر سبحانه و تعالي من توكل عليه بالكفاية؛ حيث قال: «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي اللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّٰهَ بٰالِغُ أَمْرِهِ» «3».

و ليس روح الاستخارة، إلّا الدعاء و التوكل علي اللّٰه و طلب الخير منه.

و لا خُلف في وعد اللّٰه تعالي و لا كذب في إخباره جلّ شأنه، كما قال تعالي:

«إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُخْلِفُ الْمِيعٰادَ» * «4»، و قال عزّ و جلّ: «وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّٰهِ حَدِيثاً» «5».

______________________________

(1) غافر: 60.

(2) الفرقان: 77.

(3) الطلاق: 3.

(4) الرعد: 31.

(5) النساء: 87.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 291

و قد ورد عن الصادق عليه السلام: «ما استخار اللّٰه مسلم إلّا خار اللّٰه له البتة» «1».

دور الاستخارة في فلاح الانسان و نجاحه

و قد اتضح من ضوء ما بيّناه أهمّية الاستخارة و دورها الكبير في ظفر الانسان علي صعوبات العيش و مشاكلها و توفيقه و هدايته إلي الرشد و الكمال و الفلاح.

و لا يخفي علي أهل الدراية و البصيرة ما للاستخارة من الدخل الكبير في إضاءة مصير الانسان و التأثير العميق في تعيين مقدّراته، أثراً ناجحاً مُفلحاً سعيداً مباركاً.

و ذلك لأنّ في هذا العالم العصري المملوّ من الفساد و التلوث بأنحاء الذنوب و المغمور بظلمات الجهل و الشهوات و الكفر و الالحاد، أيّة عروة أمتن من الاستخارة يستمسك بها الانسان اليائس المكبوت من المجتمع المنغمس في ورطة الذنوب و الجهالة و الالحاد؟!.

الاستخارة من آيات وجود اللّٰه

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، من صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 292

و قد جعل بعض الأعاظم الاستخارة من أدلة وجود واجب الوجود. و علّل ذلك بأنّه: أيّ ارتباط بين عدد الفرد أو الزوج للسبحة و بين عالم التكوين و الواقع؟ حيث يصيب إلي الخير و المصلحة في صورة و إلي الشر و المفسدة في صورة اخري؟

و كذلك في الاستخارة بالرقاع و بافتتاح المصحف و ساير أنحاء الاستخارات.

كما أشار إلي ذلك المحقق الفقيه الشيخ الكلباسي «1» و السيد البجنوردي «2».

و تبدو أهمية الاستخارة من جهة مهمّة اخري، و هي اتّجاه المستخير في موارد التحيُّر و الترديد في جهة رضوان اللّٰه و ابتغاء مرضاته تعالي، مضافاً إلي رفع التحيُّر و حصول العزم الراسخ له بالاستخارة.

بيان ذلك: أنّ الانسان إذا توكّل علي اللّٰه في الصعوبات و فوّض نفسَه و جميع اموره إلي اللّٰه في مشاكل العيش، و رضي بما قدّره اللّٰه سبحانه و تعالي له في موارد التحيّر و الترديد بالتوسل إلي

الدعاء و الاستخارة التي جعلها اللّٰه وسيلة له عند ذلك، يقدّر اللّٰه له الخير و يوفّقه إلي الفلاح و السعادة حسبما وعد عباده.

______________________________

(1) حيث قال: إنّ من أدلة وجود واجب الوجود الاستخارة، سواء كانت من القرآن المجيد أو غيره، لأنّ بالمواظبة عليها، و انكشاف آثارها، و لا سيّما الآثار التي تقع بعد أزمنة بعيدة غاية البعد، يظهر استناد جودة الاستخارة و رداءتها إلي العالم بالمغيّبات الغريبة و الخفيّات العجيبة، سبحان من لا يخفي عليه شي ء، لا في الأرض و لا في السماء، و يعلم ما تحمل كل انثي، و ما تغيض و ما تزداد أرحام النساء. و نظير ذلك ما قيل: من أدلة وجود واجب الوجود أنّه كثيراً ما يشاهد انحلال عقد المكاره العسر الوعرة بحيث يصل استناد ذلك إلي القادر الذي لا تنتهي عجائب قدرته بالتقصّي و الاحصار. رسالة في الاستخارة للشيخ الميرزا أبي المعالي الكلباسي/ طبع مؤسسة الامام المهدي: ص 61.

(2) حيث قال: و ذلك كما في الاستخارة أقوالهم عليه السلام ما خاب من استخار، يوجب الاطمئنان باصابتها للواقع، و لذلك نُقل لي عن بعض الأعاظم قدس سره أنّ الاستخارة من أقوي الأمارات و أقوي الحجج علي إثبات الصانع؛ لأنّه لو لم يكن صانع كان أيّ ارتباط بين عدد الزوج أو الفرد، و بين ما فيه المصلحة و المفسدة؟ و لكن اللّٰه تعالي شأنه هو الذي يجعل ما فيه المصلحة أو المفسدة زوجاً أو فرداً بعد تفويض الأمر إليه تعالي، و كذلك الأمر في القرعة. القواعد الفقهية/ للسيد البجنوردي: ج 1، ص 69.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 293

و لا ريب أنّ هذا الاتجاه الإلهي المقدّس يؤثّره أثراً معنوياً عجيباً

في جميع أبعاد حياته و زوايا عيشه، و يصبغ نياته و أفعاله بصبغة اللّٰه، حتي يبلغ بذلك إلي درجة عاليةٍ من الانقطاع إلي اللّٰه بحيث لا ينوي و لا يطلب في أفعاله و اموره غير رضوان اللّٰه و مرضاته.

كلام صاحب الحدائق في الغرض من الاستخارة

و قد تبيّن بما سردناه أنّ الغرض من الاستخارة رفع الحيرة و الشك عن المستخير و إيجاد إرادة قوية و عزم راسخ له في العمل؛ ليخرج فكره عن ظلمات التحيّر و يتنوّر بالهامٍ من اللّٰه، و لا يَهِنُ عزمه، و لا يزلّ قدمه و لا يتلجلج لسانه في صعوبات الامور.

و قد أجاد صاحب الحدائق في بيان ذلك؛ حيث قال: «الغرض من الاستخارة طلب ما هو الأصح و الانجح لما في الدخول في الامور و التهجُّم عليها من غير استخارة، من احتمال تطرُّق المهالك و عدم الأمن من المعاطب في جميع المسالك. و أقله احتمال حرمان المطلوب و عدم الظفر بالأمر المحبوب كما جاء في الخبر: من شقاء عبدي أن يعمل الأعمال فلا يستخيرني، و لأنّه بعد الاستخارة يكون آمناً من تطرق أسباب الحرمان و سالماً من آفات العطب و الخذلان، فكان العمل بالاستخارة أمراً راجحاً و طريقاً واضحاً عند كل من له عقل سليم و ذهن قويم» «1». و سيأتي في تحرير كلامه أنّ مراده من الاستخارة ليس مجرّد الدعاء و الصلاة، بل مقصوده الاستخارة المتداولة الشائعة بالمصحف و السبحة و الرقاع و مثلها.

______________________________

(1) الحدائق الناضرة ج 10، ص 530.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 294

شبهات و ردود

اشارة

1- شبهة عدم ارتباط مؤدّي الاستخارة بالواقع و جوابها.

2- شبهة سدّ طريق الفكر و المشورة بالاستخارة.

3- شبهة أنّ الاستخارة بمعناها الأخص بدعة.

4- لو عُلم الواقع بالاستخارة لم تحدث مشكلة للمؤمنين.

5- شبهة الاستقسام بالأزلام.

و هاهنا شبهات حول الاستخارة أوردها بعض الأصحاب و بعض بعض المتنوّرين المادّيّين، و قد أجاب عنها السيد الامام الراحل في كتابه «كشف الاسرار» «1».

و نتعرّض في المقام لأهمّ هذه الشبهات و تحرير جواب

السيد الامام الراحل قدس سره عنها، مع إضافات مكمّلة منّا.

شبهة عدم ارتباط مؤدّي الاستخارة بالواقع و جوابها

الشبهة الاولي:

إنّ الصلاح و الفساد الثابتين لفعل مورد الاستخارة من الواقعيات التكوينية، و لكن الخير أو الشرّ المعلوم بالاستخارة أمر اعتباري؛ بأن يُعتبر الخير لعدد الفرد من السبحة و الشر لعدد الزوج منها في الاستخارة بالسبحة. و ليس أيّ ربط لذلك بالواقعية الخارجية.

و نفس الإشكال المزبور يأتي في الاستخارة بالحصيٰ، و الرقاع، و بافتتاح

______________________________

(1) كشف الاسرار: ص 98- 89.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 295

المصحف. و ذلك لأنّ مضمون الآية المتعيّنة بالاستخارة، لا ارتباط له بالصلاح و الفساد الواقعيين في عالم التكوين و الخارج.

و حاصل الإشكال: أنّ ما أدّت إليه الاستخارة من الخير أو الشر أمر اعتباري، لا ارتباط له بالخير و الشر الواقعيين تكويناً للفعل المقصود من الاستخارة.

و يمكن الجواب عن هذه الشبهة:

بأنّ ثبوت القدرة المطلقة للّٰه تعالي علي جميع امور العالم مما استقلّ به العقل و ثبت بالبرهان، و قد أخبر عنه اللّٰه سبحانه بقوله: «إِنَّ اللّٰهَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» * و «إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «1».

و عليه فمن الممكن تعلّق قدرة اللّٰه تعالي بتسخير إرادة الشخص المستخير؛ بأن يهدي أنامله و بنانه هداية تكوينية في خلط الرقاع و أخذها، أو أخذ مقدار من حبّات السبحة و الحصي و إسقاط بعضها، أو في افتتاح المصحف؛ بحيث يطابق مؤدَّي الاستخارة الواقع الموجود في عالم التكوين. و ليس في ذلك أيّ محذور عقلي، إذا تعلّقت إرادة اللّٰه تعالي بذلك تكويناً.

و قد أخبرنا اللّٰه سبحانه و تعالي بطريق النصوص الواردة في الاستخارة عن تعلّق إرادته التكوينية بذلك. فلا وقع للاشكال المزبور.

نعم ينبغي الكلام في إثبات صحة

مدارك النصوص الواردة في الاستخارة و قيام الحجة الشرعية علي مشروعيتها. و سيأتي البحث عن ذلك في مدرك الاستخارة.

______________________________

(1) يس: 82.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 296

شبهة سدّ طريق الفكر و المشورة بالاستخارة

الشبهة الثانية:

إنّ العقلاء و ذوي الدراية و الفكر في الصعوبات و الامور الخطيرة، إنّما يستمدّون من التفكّر و التعقّل و يستفيدون من الآراء و أنظار ساير العقلاء بمشاورتهم، و بذلك يُزيلون الشك و الترديد عن أنفسهم و يُذلّلون الصعوبات.

و قد اهتمّت الشريعة الاسلامية بالتعقل و التفكر في الامور و المشورة مع ساير المؤمنين.

و قد دلّت علي ذلك نصوص كثيرة متظافرة من الكتاب و السنة.

و إليك بعض نصوص الكتاب، و في ذلك كفاية:

«قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْميٰ وَ الْبَصِيرُ أَ فَلٰا تَتَفَكَّرُونَ» «1».

«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لٰا يَعْقِلُونَ» «2».

«وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَي الَّذِينَ لٰا يَعْقِلُونَ» «3».

«وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» «4».

«وَ أَمْرُهُمْ شُوريٰ بَيْنَهُمْ» «5».

و حاصل هذه الشبهة أنّ الاستخارة تسدّ طريق الفكر و التعقل و المشورة

______________________________

(1) الانعام: 50.

(2) الانفال: 22.

(3) يونس: 100.

(4) آل عمران: 159.

(5) الشوري: 38.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 297

و الاستفادة من آراء الآخرين.

و يمكن الجواب عن هذه الشبهة: بأنّ موضوع الاستخارة و موردها التحيّر و الترديد في الأمر بعد التفكر و المشورة فيما يمكن فيه المشورة.

كما يظهر ذلك من قول السائل: «فلا يوفّق فيه الرأي أفعلُه أو أدَعُهُ» «1» في خبر اليسع القمي.

و من قوله: «الرجل تعرض له الحاجة لا يدري أن يفعلها أم لا؟» في مكاتبة الحميري عن صاحب الزمان «عج» فكتب إليه: «الذي سنّه العالم عليه السلام في هذه، الاستخارة بالرقاع و الصلاة» «2».

بل ورد في بعض النصوص الأمر بالدعاء و الاستخارة- بمعني طلب

الخير- قبل المشورة مع إخوانه المؤمنين، حتي يُجري اللّٰه الحق الواقع علي لسانهم ببركة دعاءِ المستخير، كما في خبر هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا أراد أحدكم أمراً، فلا يشاور فيه أحداً من الناس حتي يبدأ فيشاور اللّٰه تبارك و تعالي، قال: قلت: جعلت فداك و ما مشاورة اللّٰه؟ قال: تبتدأ فتستخير اللّٰه فيه أولًا، ثمّ تشاور فيه؛ فانه إذا بدأ باللّٰه أجري له الخيرة علي لسان من يشاء من الخلق» «3».

بل يستفاد من بعض النصوص جواز الاستخارة- بالرقاع و المصحف و غيرها- و مشروعيتها في صورة عدم وجود مشاور يشاوره المستخير، كقول السائل: «و لا يجد أحداً يشاوره فكيف يصنع؟» في مرفوعة علي بن محمد «4»، فأمره الامام عليه السلام بمشاورة ربّ العالمين حينئذٍ بالاستخارة بالرقاع.

______________________________

(1) الوسائل: ب 6، من صلاة الاستخارة، ح 1.

(2) المصدر: ب 3، ح 1.

(3) المصدر: ب 5، ح 2.

(4) المصدر: ب 2، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 298

و عليه فالاستخارة لا تسدّ طريق الفكر و التعقّل و المشورة، بل هي، طريق شرعي يصون المستخير عن الخطاء و يوصله إلي ما فيه صلاحه و فلاحه، و وسيلة لتنوير ذهنه بالمشورة في جهة الاصابة إلي الواقع.

و حاصل الكلام: أنّ الاستخارة تسهّل للمستخير طريق الوصول إلي المطلوب و تيسّر له الأمر، و بمخالفته العمل بمؤدّاها يقع المستخير في الصعوبة و العنت. كما اشير بذلك في بعض النصوص، كقوله عليه السلام: «فانّك إن خالفت لقيت عنتاً في» «1».

و هل يعتبر المشورة قبل الورد فيها؟ الأقوي عدم ذلك؛ نظراً إلي تعذّر مشاورة الناس في كثير من الامور التي هي من الأسرار و يري المستخير مشاورة

الغير فيه مخالفاً لمصلحة نفسه أو موجباً لهتك عرضه، و إلي عدم دلالة لنصوص الاستخارة علي اعتبار المشورة قبلها في مشروعيتها مطلقاً، كما عرفت هاهنا، و ستعرف تفصيل ذلك في خلال المباحث الآتية.

______________________________

(1) المصدر: ب 2، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 299

شبهة أنّ الاستخارة بمعناها الأخص بدعة

الشبهة الثالثة:

قد جاءَ لفظ الاستخارة في نصوص أهل البيت عليهم السلام بمعني طلب الخير بالدعاءِ و الصلاة.

و هذا المعني هو المقصود مما ورد في النصوص، من الترغيب و التأكيد علي الاستخارة.

و أما ما تعارف في عصرنا من الاستخارة بالقرآن و السبحة و الرقاع، فلا أصل له في الشرع و لا دليل عليه، بل نسبتها إلي الشارع نوعٌ من البدعة؛ لأنّ البدعة إدخال ما ليس من الدين في الدين و لم يثبت كون الاستخارة بهذا المعني من الدين.

هذه الشبهة أوردها بعض أهل العامة. و قد نُقل هذه الشبهة عن الشيخ شلتوت «1». و أيضاً يرجع كلام بعض أصحابنا إلي ذلك.

و الجواب عن هذه الشبهة:

أنّ كون الاستخارة في كثير من النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام بمعني طلب الخير بطريق الدعاء و الصلاة، و كونها بهذا المعني مورد ترغيب الشارع و تأكيده، مما لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه.

و لكن لا ينافي ذلك مجي ءَ عنوان الاستخارة بمعني خاص أيضاً، و هو طلب الخير من اللّٰه تعالي باراءته المستخير ما فيه الخير و المصلحة واقعاً بالقرآن أو السبحة أو بالرقاع علي النحو الذي ورد في النصوص، و لكن كل ذلك بعد الدعاء و التضرّع إلي اللّٰه تعالي، بل بعد الاتيان بصلاة الاستخارة.

______________________________

(1) اللمحات: للشيخ آية اللّٰه الصافي ص 246- 247.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 300

و

قد حدثت هذه الشبهة لابن ادريس، فأنكر مشروعية ساير أنحاء الاستخارات. و وقع بذلك مورد هجمة فحول الفقهاء، كالعلامة الحلي و الشهيد و ابن طاوس و صاحب الجواهر و غيرهم.

و سيأتي بيان أقوالهم و تنقيح آرائهم في البحث عن مدرك الاستخارة.

و أما إسناد ذلك إلي الشارع، فجوازه منوط بورود الدليل عن جانبه علي مشروعية هذا النوع من الاستخارة. و قد وردت عدّة روايات دلّت علي مشروعيته. و سيجي ءُ تحقيق هذه النصوص سنداً و دلالةً في البحث عن مدرك الاستخارة.

هذا، مع أنّ للاستخارة بالمعني الرائج الشائع جذراً في القرعة، بل هي من قبيل حقيقة القرعة. و قد نطق الكتاب العزيز بمشروعية القرعة كقوله تعالي «و إِذْ يُلْقُونَ أَقْلٰامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ … ».

و لا فرق بين المساهمة و القرعة بالأقلام و نحوها و بين الاستخارة بالسبحة أو الحصي أو الرقاع أو المصحف، إلّا ما ورد من الدعاء و الصلاة قبل الاستخارة.

و علي ضوء ما بيّناه اتّضح عدم ابتناءِ الجواب المزبور علي مباني مذهب الامامية و نصوص أهل البيت عليهم السلام، بل يتمّ حتي بناءً علي مسلك أهل العامة؛ لما له من الجذر القرآني في الآيات الواردة في القرعة.

هذا، مع أنّ الأمر في الاستخارة أسهل؛ إذ القرعة إنّما شُرّعت في الحلال و الحرام و في حقوق الناس. و لكن بالاستخارة إنّما يثبت رجحان العمل بمؤدّاها، غاية الأمر يثبت استحبابه، من دون أن يتكفّل لاثبات الحلال و الحرام أو حقوق الناس.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 301

فلمّا كانت الاستخارة الرائجة الشائعة داخلةً في حقيقة القرعة، تكون من الدين و ليست من البدعة، بل الاستخارة الشائعة من مصاديق القرعة، كما سيأتي توضيح ذلك في خلال البحث.

لو عُلم الواقع بالاستخارة لم تحدث مشكلة للمؤمنين

الشبهة الرابعة:

و من تلك الشبهات أنّه لو كانت الاستخارة طريقاً إلي الواقع المستور و لو عُلِمت بها المغيبات لم تحدث أيّة مشكلة في العيش للمؤمنين الذين هم أهل الاستخارة، و لتمكّنوا من كسب منافع و أموال كثيرة ضخمة، و لظفروا في الحروب علي المشركين و المنافقين كلِّهم، و لاستبقوا جميع أهل الدنيا و لَتفوّقوا علي دُوَل العالم في جميع الامور. و لم يكونوا مخلَّفين و منحَطّين من الجهات الثقافية و الاقتصادية و السياسية و النظامية، كما نشاهدهم الآن كذلك. فليست الاستخارة طريقاً للعثور و الاطلاع علي الغيب، كما قال تعالي: «قل لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ مٰا مَسَّنِيَ السُّوءُ» «1».

و أجاب السيد الامام الراحل في كشف الأسرار «2» عن هذه الشبهة بما تحريره:

إنّ جواب هذه الشبهة يُعلم بتوضيح معني الاستخارة. و هي جاءت في الأحاديث بمعنيين.

أحدهما: ما جاءَ في أكثر أحاديث الاستخارة، و هو طلب الخير بالدعاء و

______________________________

(1) الاعراف: 188.

(2) كشف الاسرار/ الطبع القديم: ص 89.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 302

الصلاة. و لم يُعرف هذا المعني عند عامّة الناس بالاستخارة.

و من الواضح أنّ مجرّد الدعاء و الصلاة ليس فيه التخرُّص علي الغيب بأيّ وجه و لا يستلزم المحذور المذكور قطعاً. فهذا المعني خارج عن مقصود المستشكل قطعاً.

ثانيهما: ما هو المعروف عند عامّة الناس و دلّ عليه بعض النصوص و اشتهر بين الأصحاب و هو طلب الخير من اللّٰه، بمعني إراءته تعالي للمستخير ما فيه الخير و الصلاح واقعاً بطريق الاستخارة بافتتاح المصحف أو بالرقاع أو بالسبحة أو بالقرعة.

و ذلك عند ما تحيّر الانسان و لم يتمكّن من تشخيص صلاح الفعل المطلوب و فساده بعد الفكر و المشورة. فبقي

متحيّراً عاجزاً عن تشخيص ما هو الحق الواقع و عن الاستضاءة بنور عقل نفسه بالتفكر و عقل غيره بالمشورة.

فحينئذٍ يبقي هذا الشخص فريداً وحيداً مضطرّاً لا مناص له من اختيار أحد الطرفين؛ إمّا الفعل و إمّا الترك.

فلو وُجد في هذا الحال أحدٌ يهدي هذا الانسان المتحيّر الواله إلي طرفٍ و يقوّي قلبه و يشدّ ظهره للعزم و العمل، لخدمه بذلك خدمة كبيرة و له عليه منّة عظيمة جدّاً.

فعند ذلك يقول علماء الدين و حَمَلة الشريعة أنّ اللّٰه تعالي- الذي هو ربّ العالمين و مجيب دعوة المضطرين و مدرك الهالكين و أمل الراجين- فتح لمثل هذا الانسان المتحيّر الواله المضطر الراجي نافذة رجاءٍ و أمل بالمستقبل بسبب الاستخارة بإحديٰ الطرق المذكورة فيهدي قلبه إلي جهةٍ و أنامله إلي طرف من

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 303

المصحف أو الرقاع أو السبحة، ليأخذ ما يطابق الحق الواقع بعد دعائه و تضرّعه و التجائه إلي ساحة الربوبية في حال تحيّره و شدة اضطراره.

فالاستخارة إنّما ترفع التحيّر و التردّد و الحيرة عن الانسان فيما يريده من الفعل و تُعطي العزم و الاستحكام في الارادة في خصوص الفعل الذي بقي الانسان متحيّراً و متردّداً في فعله.

و بذلك يريه اللّٰه تعالي ما فيه الخير و الصلاح واقعاً، كما أنّه تعالي كان يُري أنبيائه و أوليائه سبيل الرشد و يهديهم طريق الخير و الرشاد، كما قال تعالي:

«وَ كَذٰلِكَ نُرِي إِبْرٰاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ» «1». و قال تعالي: «فَسُبْحٰانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ» «2»

فانّ من شأن اللّٰه عزّ و جلّ اللطف بالعباد و هدايتهم إلي الحق باراءة آياته، كما قال تعالي:

«سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي الْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰي يَتَبَيَّنَ

لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» «3».

«وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ سَيُرِيكُمْ آيٰاتِهِ فَتَعْرِفُونَهٰا» «4».

«كَذٰلِكَ يُحْيِ اللّٰهُ الْمَوْتيٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» «5».

«وَ مٰا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلّٰا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهٰا» «6».

______________________________

(1) الانعام: 75.

(2) يس: 83.

(3) فصّلت: 53.

(4) النمل: 93.

(5) البقرة: 73.

(6) الزخرف: 48.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 304

«وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ فَأَيَّ آيٰاتِ اللّٰهِ تُنْكِرُونَ» «1».

و من راجع الأحاديث الواردة في الاستخارة و تأمّل في مضامينها العالية يُذعن بأنّ ماهية الاستخارة ليست إلّا إراءة الواقع للمستخير ببركة دعائه و تضرّعه و صلاته؛ إما باخطار الواقع في قلبه و إنزال السكينة عليه، أو هداية يده و أنامله إلي طرف من السبحة أو ورقٍ من أوراق المصحف أو الرقاع؛ ليستخرج ما يطابق الحق الواقع.

هذا و لكن مع ذلك كله لا تقنع النفس بهذا الجواب مع تفصيله، و إن كان في غاية المتانة من حيث ترسيم فائدة الاستخارة و تبيين جذرها العقلائي.

و الجواب الصحيح المناسب للإشكال المزبور أن مفاد نصوص تشريع الاستخارة إراءة واقع ما يريده المستخير من الفعل في جريان اموره اليومية.

و ما كان من الأفعال المستحدثة الداخلة في شئونه عيشه و مقتضيات حوائجه اليومية، لا جميع المغيبات و ما لا يرتبط منها بامور عيشه و ما لا يبتلي به بمقتضي جريان العادة المتعارفة، كأن يأخذ سبحة أو مصحفاً و يذهب إلي الصحاري و الفلوات و الديار الخربة ليستخرج الكنز بالاستخارة و نحو ذلك مما هي خارجة عن شئون عيشه و عادته المتعارفة.

و قد أجاد العلامة المجلسي في تحرير ذلك؛ حيث قال- بعد ذكر نصوص أنحاء الاستخارات- «أظنّ أنّه قد اتضح لك مما قرع سمعك و مرّ عليه نظرك في الأبواب السابقة أنّ الأصل في

الاستخارة الذي يدلّ عليه أكثر الأخبار المعتبرة، هو أن لا يكون الانسان مستبداً برأيه، معتمداً علي نظره و عقله، بل يتوسل بربّه

______________________________

(1) غافر: 81.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 305

تعالي و يتوكّل عليه في جميع اموره، و يُقرّ عنده بجهله بمصالحه، و يفوّض جميع ذلك إليه، و يطلب منه أن يأتي بما هو خير له في اخراه و اولاه، كما هو شأن العبد الجاهل العاجز مع مولاه العالم القادر، فيدعو بأحد الوجوه المتقدّمة من الصلاة أو بدونها، بل بما يخطر بباله من الدعاء إن لم يحضره شي ءٌ من ذلك، للأخبار العامة؛ ثمّ يأخذ فيما يريد، ثمّ يرضي بكلّ ما يترتب علي فعله من نفع أو ضرٍّ» «1».

و من تأمل بعين البصيرة يجد الاستخارة آيةً من آيات اللّٰه و من هنا قال بعض الأعاظم «2»: إنّ الاستخارة من آيات إثبات وجود الواجب تعالي.

و لا ريب عند العقل السليم أنّ إراءة الواقع للمستخير، ليس علي اللّٰه، إلّا سهل يسير، بعد ما فهم و أذعن بأنّه الذي خلق السماوات و الأرض بغير عمد ترونها، و هو علي كل شي ء قدير، الذي بيده ملكوت كلّ شي ء، و أنّ أمره إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون.

هذا مضافاً إلي أنّ تحصيل قوّة الإرادة و استحكام العزم و الجزم علي الأمر المطلوب، من أهم أسباب التوفيق و النجاح في الوصول إلي المقصود، كما أذعن بذلك المتنوّرون من العلماء و أخصّائيُّ علم النفس و معرفة الروح.

و لا ريب أنّ بالاستخارة يحصل ذلك بأحسن وجه و أتمّه. و لو لم يكن للاستخارة غير هذا الأثر، من إيجاد العزم المتين و الارادة القوية و إزالة الشك و التحير و الوسوسة، لكفي

ذلك في حسنها، و ملائمتها للعقل و فهم العقلاء.

و قد تبيّن علي ضوء ما بينّاه أنّ الاستخارة ليست بمعزل عن حكم العقل و

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 287.

(2) كالشيخ الفقيه الكلباسي في رسالة الاستخارة/ طبع مؤسسة المهدي: ص 61، و السيد البجنوردي في قواعد الفقهية: ج 1، ص 69.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 306

ما يراه العقلاء و جرت عليه سيرتهم عند التحير و التردد في الأمور و عدم التمكن من العزم الراسخ علي الفعل المطلوب بعد الفكر و المشورة.

شبهة الاستقسام بالأزلام

الشبهة الخامسة:

بقيت هاهنا شبهة، و هي أنّ الاستخارة من قبيل الاستقسام بالأزلام.

و رُدّ بانّه لم يفسر لفظ الأزلام بالاستخارة في رواية و لا بما يشملها، هذا مع أنّ الاستخارة في ماهيتها مغايرة للأزلام التي كانت الجاهلية يطلبون الأرزاق بها، و هي السهام و القداح.

فقوله تعالي: «وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلٰامِ» «1»؛ أي و أن تطلبوا قسمة الأرزاق بالقداح و السهام. و لفظ الأزلام جمع الزَّلَم؛ و هو السهم الذي لا ريش له. كانت الجاهلية عند ما يشترون جزوراً أو بقراً أو ساير الأنعام يقسّمون لحومها بالقداح و السهام علي سبيل الاقتراع، كما نُقل ذلك عن الكشاف «2». و قد نقل ذلك في تفسير مجمع البيان «3» عن تفسير علي بن إبراهيم. و نقل عن بعض أنّ المراد بالأزلام هو آلات القمار التي كانوا يتقامرون بها.

و لا إشكال في خروج الاستخارة عن المعني المقصود من الاستقسام بالأزلام في الآية، بعد ورود نصوص كثيرة في الاستخارة و عمل الأصحاب

______________________________

(1) المائدة: 3، و الآية: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ

النَّطِيحَةُ وَ مٰا أَكَلَ السَّبُعُ إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ وَ مٰا ذُبِحَ عَلَي النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلٰامِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ». المصدر.

(2) الكشاف: ج 1، ص 604، و جامع البيان: ج 6، ص 49.

(3) تفسير مجمع البيان: ج 3- 4، ص 158.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 307

بها، و لا سيما بما ورد في النصوص من الدعاء و التوسل إلي اللّٰه عند التحيّر و طلب الخيرة من اللّٰه تعالي و ما فيه الصلاح و الخير عنده و تفويض الأمر إليه.

هذا مع أنّ الاستخارة أشبه بالقرعة، و قد أثبتنا حجية القرعة، بل لا يمكن الخدشة في حجية أدلّتها من الكتاب و السنة و الاجماع، كما ثبت عمومها لكل أمر مجهول شامل لمورد الاستخارة، مع فرق بينهما. و الفارق من جانب الاستخارة ليس إلّا الدعاء و الصلاة و التوسل و طلب الخير من اللّٰه، مع افتتاح المصحف، أو عدّ حبّات السبحة، أو تشويش الرقاع، و الأخذ بما بقي من السبحة أو خرج من الرقاع و المصحف.

مع أنّ الأمر في القرعة أشكل لإفادتها الحكم الشرعي، و دليلها غير قابل للتشكيك لما له من قوّة الاعتبار.

فتحصل أنّ الشبهة المزبورة لا أساس لها.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 308

تعريف الاستخارة

اشارة

1- تنقيح آراءِ الفقهاء و المحدّثين.

2- تحقيق معني الاستخارة.

3- معاني الاستخارة من منظر النصوص.

إنّ تحقيق معني الاستخارة و تعيين المقصود منها في اصطلاح النصوص و الفتاوي من أهم ما وقع فيه البحث و الكلام في هذا المجال.

و قد اتضح من مطاوي ما بينّاه آنفاً بعض المقصود في المقام. و ينبغي قبل تحقيق معناها اللغوي و الاصطلاحي و نقل كلمات فحول الفقهاء و المحدثين في ذلك و تنقيح

مبانيهم و نقدها و ما يخطر بالبال من المناقشات فيها.

تنقيح آراءِ الفقهاء و المحدّثين

رأي ابن ادريس

قال ابن ادريس في تعريف الاستخارة:

«الاستخارة في كلام العرب الدعاء، و هو من استخارة الوحش. و ذلك أن يأخذ القانص ولد الظبية، فيَعْرُك اذنه، فيبغم. «1» فاذا سمعت امَّه بغامه، لم تملك أن تأتيه، فترمي بنفسها عليه، فيأخذها القانص حينئذٍ.

______________________________

(1) القانص: الصيّاد/ يَعرُك: يدلّك، من عَرَك يَعرُك عَركاً؛ أي تدليكاً/ بغمت الظبية تبغم؛ أي أنَّت، و البغام: أنين الظبية و صوتها الخفي الليّن.

و المقصود أنّ الصياد يأخذ ولد الظبية و يدلّك أذنه و حينئذ يرتفع صوت أنينه و تسمعه أمّه و ترمي بنفسها علي ولدها من غير اختيار. فيصيدها الصيّاد بهذا الطريق.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 309

قال حميد بن ثور الهلالي، و ذكر ظبيةً و ولدها و دعائه لها لمّا أخذه القانص، فقال:

* رأت مستخيراً فاستزال فؤادها*

* بمنيحة تبدوا لها و تغيب* «1».

أراد رأت داعياً. فكان معني استخرت اللّٰه استدعيته إرشادي.

و كان يونس بن حبيب اللغوي يقول: إنّ معني قولهم: استخرت اللّٰه؛ استفعلت من الخير؛ أي سألت اللّٰه أن يوفق لي خير الأشياء التي أقصدها. فمعني صلاة الاستخارة علي هذا؛ أي صلاة الدعاء». «2»

انتهي نصّ كلام ابن إدريس في المقام. ثمّ إنّه أنكر مشروعية الاستخارة بالرقاع و القرآن و السبحة و البنادق، خصّ الاستخارة المشروعة بمعناها اللغوي، و هو طلب الخير بالدعاء. و سيأتي نصّ كلامه علي ذلك.

و قد ردّه العلّامة بالتشنيع عليه، و كذا غيره من الفقهاء كالشهيد في الذكري و ابن طاوس و صاحب الجواهر. و سيأتي نقل كلماتهم في البحث عن مدرك الاستخارة.

______________________________

(1) و المقصود أنّ ظبية رأت داعياً- و هو ولدها- يدعوها ببغامه و أنينه فاحترق كبدها

و زال فؤادها بسبب منيحة؛ أيّ بسماع نياحة ولدها و بُغامه، قد تظهر نياحتُه لُامّه برفع أنينه فتسمعه، و قد تختفي بخفض صوت بغامه.

(2) السرائر/ طبع جماعة المدرسين: ج 1، ص 314.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 310

رأي العلامة الحلي

و قد أشار العلّامة في المختلف إلي حقيقة الاستخارة بعبارة موجزة جامعة؛ حيث قال:

«و أمر الاستخارة سهل يستخرج منه الانسان معرفة ما فيه الخيرة في بعض أفعاله المباحة المشتبهة عليه منافعها و مضارّها الدنيوية». «1»

و يفهم من كلامه اعتبار أربعةِ امور في الاستخارة شرعاً.

1- طلب معرفة ما ينبغي له أن يختاره، ممّا فيه الخير.

2- كون الفعل المورد للاستخارة مباحاً بالمعني الاعم؛ بأنّ لم يكن واجباً أو حراماً فيشمل المستحب و المكروه. و ذلك عند ما تردّد المستخير في فعل شي ء أو تركه لأجل الدوران بين المصالح و المحاذير المحتملة في الفعل و الترك.

و مقصوده موارد لم يرد من الشارع حكم إلزامي منجَّز من الوجوب و الحرمة؛ إذ موارد تنجّز التكليف الالزامي خارجة عن مورد تشريع الاستخارة. فلا يجوز الاستخارة لترك الواجب رأساً أو لفعل الحرام.

نعم يجوز الاستخارة في فعل بعض مصاديقه و ترك مصاديقه الاخري؛ كأن يستخير للاتيان بصلاة الظهر في وقت أو مكان خاص لاحتمال مفاسد و مضار دنيوية في ذاك المصداق، لا للاتيان بأصل طبيعي الواجب و إيجاده.

3- حصول الاشتباه و التحيّر في تشخيص صلاح الفعل و فسادها؛ لما فيه من الدوران بين المنافع و المصالح و بين المحاذير و المفاسد المحتملة.

4- رجوع مضار الفعل و منافعها- التي وقع فيها الاشتباه و التردّد- إلي الامور الدنيوية، لا الاخروية و المعنوية؛ نظراً إلي رجوع ذلك إلي حِكَم تشريع

______________________________

(1) مختلف الشيعة: ج 2، ص

357.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 311

الأحكام الشرعية، و ليست الاستخارة حجة شرعية لتعيين حكم الفعل المقصود من الاستخارة.

و لكن فيه ما لا يخفي؛ لوضوح عدم انحصار التحيُّر و التردّد المورد للاستخارة في ذلك، بل ربّما يكون لأجل احتمال ترتُّب مصالح و مفاسد معنوية علي الفعل الذي يريده، بسبب عوارض و طوارئ خارجية، لا بمقتضي ذات الفعل المستحب أو الواجب الذي يريد أن يفعله. فيقع حينئذٍ في حيرة و تردّد لأجل تكافؤ الاحتمالين. فاتضح بهذا البيان عدم اعتبار كون المضارّ و المنافع المحتملة دنيويةً.

و كيف يختص مورد الاستخارة بالتحير الراجع إلي الامور الدنيوية و لا يشمل التردّد من جهة الامور المعنوية و الاخروية؟ و قد امر في جميع نصوص الاستخارة بأن يدعو المستخير، و يطلب خيرة في عافية، و ما اصطفاه اللّٰه و اختاره له و ما ارتضي به له، و يطلب من ساحته تعالي أن لا يقع فيما يسخطه اللّٰه تعالي و لا يرضي به.

أ فلا يكشف ذلك عن خوف المستخير من وقوعه في سخط اللّٰه و بعده عن ساحته بالفعل المستخار فيه قبل الاستخارة؟

و هلّا يكشف ذلك عن رجوع تردّده و حيرته إلي الامور المعنوية و الاخروية؟!.

بل يمكن أن يقال: إنّ من أهمّ العوامل و الأسباب التي تُلجئُ المؤمن المتحيّر إلي الاستخارة: أنّه يري نفسه و أمره بين سخط اللّٰه و البعد من ساحته و بين مرضاة اللّٰه و القرب إليه. فلا يدري أنّ ما أراد أن يفعله في أيّ الأمرين يوقعه، فانّما يكون تحيّره لأجل ذلك.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 312

ثمّ إنّك قد عرفت من كلامه هذا أنّه لم يفرّق في هذا التعريف بين أنحاء

الاستخارة. فانّ كلامه عام شامل للاستخارة بمعناها الأعم الذي بمعني طلب الخير بمجرد الدعاء و الصلاة، و بمعناها الأخص الذي يكون بافتتاح المصحف أو بالرقاع أو بالسبحة. بل الاستخارة بمعناها الأخص الشائع داخلة في مقصوده قطعاً؛ لأنّه قال بذلك بعد تشنيعه علي ابن إدريس في إنكاره الاستخارة بهذا المعني.

رأي المحدث الكاشاني

و قد عرّف الفقيه العارف المحدّث الكاشاني الاستخارة في تبيين الرواية بقوله: «يعني ما طلب مسلم من اللّٰه الخيرة في أمره بالدعاء قبل أن يرتكبَه، إلّا جَعَل اللّٰه تعالي له ذلك الأمر خيراً.

هذا أحد معاني الاستخارة، و لها معان اخر تستفاد من الأخبار الآتية، كطلب تيسير ما فيه الخيرة، أو طلب تعرّف ما فيه الخيرة، أو طلب العزم علي ما فيه الخيرة. و ما سوي طلب التعرف يكون بالصلاة و الدعاء.

و طلب التعرف قد يكون بانضمام غيره، كالرّقاع و البنادق و القيام إلي الصلاة و فتح المصحف و أخذ السبحة و عدّها و القرعة. و يأتي بيان ذلك كلّه إن شاء اللّٰه تعالي. و الكل حَسَنٌ أيّها يأتي به العبد فقد استخار اللّٰه». «1»

و حاصل ما يستفاد من كلامه أمران:

أحدهما: أنّ الاستخارة جاءت في الأحاديث لأربعة معانٍ.

1- طلب الخِيَرة في أمره من اللّٰه تعالي بالدعاء قبل الشروع في العمل؛ بأن

______________________________

(1) الوافي: ج 9، ص 1409.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 313

يطلب تعلّق إرادته و عزمه علي خير ما ينبغي أن يختاره.

2- طلب تيسير ما فيه الخير و الصلاح واقعاً و تسهيله عليه.

3- طلب التعرّف و الاطلاع علي ما فيه الخير و الصلاح واقعاً.

4- طلب العزم المستحكم و الارادة الجازمة علي فعل ما فيه الخير و الصلاح.

ثانيهما: أنّ ما سوي طلب التعرّف من المعاني

المزبورة- و هو طلب الخيرة و طلب التيسير و طلب العزم- يكون بالدعاء و الصلاة، و طلب التعرّف قد يكون بانضمام غير ذلك، كالرقاع و البنادق و افتتاح المصحف و أخذ السبحة و القرعة. و يفهم من كلامه أنّ كل ذلك داخل في تعريف الاستخارة.

و يرد علي تعريفه أنّه من قبيل تعريف الشي ء بذكر مصاديقه و أقسامه.

فانّ ما ذكره من قبيل أقسام الاستخارة. و كان ينبغي له أن يُعرّفها بيان جامع لجميع هذه الاستخارة و مانع من غيرها، كما فعل العلّامة الحلّي.

و لكن الكلام في أنّه هل يمكن أخذ عنوان جامع لجميع هذه الأقسام الأربعة فيشملها؟

ظاهر كلام المحدّث المزبور أنّها معاني عديدة متغايرة بالفصول و إن كانت مشتركة في الجنس، و هو أصل الطلب و الدعاء.

رأي المحدث البحراني

قال المحدث البحراني في تعريف الاستخارة: «و ينبغي أن يُعلم أوّلًا: أنّ الاستخارة هي طلب الخيرة من اللّٰه تعالي، قاله في القاموس و النهاية و غيرهما. و قال ابن ادريس: الاستخارة في كلام العرب الدعاء، و قال أيضاً معني استخرت اللّٰه، استدعيت إرشادي، قال:

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 314

و كان يونس بن حبيب اللغوي يقول: إنّ معني استخرت اللّٰه، استفعلت اللّٰه الخير؛ أي سألت اللّٰه أن يوفقني خير الأشياء التي أقصدها. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المفهوم من الأخبار أنّها قد جاءت فيها علي معان عديدة». «1»

و قال- بعد ذكر أقسام الاستخارة في ختام كلامه-: «لا ريب أنّ الاستخارة بأيّ المعاني المتقدّمة، ترجع إلي الطلب منه سبحانه». «2»

و يفهم من ذيل كلامه- مع الالتفات إلي ما جاءَ في صدر كلامه في تعريف الاستخارة-، رجوع جميع المعاني المذكورة للاستخارة- بأقسامها التسعة أو العشرة الآتية «3» إلي

معنا جامع مشترك بين الجميع، و هو طلب الخيرة- أي خير ما ينبغي أن يختاره- و تعلُّق جزمه و عزمه به.

و يمكن كون مقصوده أنّ للاستخارة في اصطلاح الأحاديث معاني عديدة علي نحو الاشتراك المعنوي، و المعني الجامع هو أصل الطلب منه سبحانه، و كون ساير المعاني من باب مصاديق المعني الموضوع له. و الوجه في إرجاعه الكلّ إلي أصل الطلب لعلّه مغايره طلب العزم و طلب التعرّف و طلب التيسير مع معني طالب الخير، باعتبار تغاير متعلّق الطلب، و لكن الجميع مشتركة في أصل الطلب.

و علي أيّ حال رأي صاحب الحدائق موافق لرأي العلامة و الفيض في مجي ءِ الاستخارة في النصوص بجميع المعاني المذكورة. لا مجرد طلب الخير بالدعاء و الصلاة، كما زعمه ابن ادريس، و إن يرجع الجميع إلي أصل الطلب

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 524.

(2) المصدر: ص 533.

(3) و سيجي ءُ ذكر هذه الأقسام في البحث عن أقسام الاستخارة إن شاء اللّٰه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 315

بالمآل، كما أشار إليه في ذيل كلامه.

رأي صاحب الجواهر

يظهر من صاحب الجواهر أنّ لفظ الاستخارة في الأحاديث جاء بمعنيين:

أحدهما: طلب الخيرة بمعني أن يطلب من اللّٰه بالدعاء و التوسّل أن يكون ما أراد فعله أو تركه من الأمور خيراً له، لا أن يريه ما فيه الخير و الصلاح واقعاً. و قد استبعد كون هذا المعني مراداً من الاستخارة بالدعاء و الصلاة.

فانه فسّر الاستخارة بطلب الخيرة و استشهد لذلك بكلمات أهل اللّغة و نقل كلام الطريحي عن مجمع البحرين؛ حيث قال في تعريف الاستخارة:

«و هي طلب الخيرة كما في المصباح و عن القاموس و النهاية و مجمعي البرهان و البحرين، قال في الأخير: خار

اللّٰه لك أي أعطاك ما هو خير لك، و الخيرة بسكون الياء اسم منه. و الاستخارة طلب الخِيَرَة كعنبة. و استخيرك بعلمك؛ أي أطلب منك الخير متلبساً بعلمك بخيري و شرّي. و في الحديث: من استخار اللّٰه راضياً بما صنع خار اللّٰه له حتماً أي طلب منه الخيرة في الأمر» «1».

ثمّ قال: «و المراد بطلب الخيرة الدعاء و التوسل في أن يكون ما أراد فعله أو تركه من الامور خيراً له، و من هنا قال في المحكي عن إشارة السبق «2»: يصلي ركعتين- إلي أن قال-: و يسأل الخير فيما قصد إليه، … لكن الانصاف أنّي لم أجد في النصوص ما هو صريح في إرادة ذلك من الاستخارة التي يُصلي لها، نعم يحتمله صحيح عمرو بن حريث، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: صلِّ ركعتين و استخر

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12،، ص 156.

(2) و هي كتاب فقهي لعلي بن أبي الفضل الحلبي، و هو من القدماء.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 316

اللّٰه. فو الله ما استخار اللّٰه مسلم إلّا خار اللّٰه له «1»، بل لعلّه الظاهر منه عند التأمل». «2»

و نظير الصحيح المزبور خبر هارون بن خارجة «3».

ثانيهما: طلب تعرُّف ما فيه الخيرة بقرار نفسه و حصول عزمه علي ما فيه الخير و الصلاح واقعاً.

قال قدس سره: «و قال في الفقيه: قال أبي رضي اللّٰه عنه في رسالته إلي: إذا أردت يا بني أمراً فصل ركعتين و استخر اللّٰه مائة مرة و مرة فما عزم لك فافعل، و قل في دعائك: لا إله إلّا اللّٰه الحكيم الكريم، لا إله إلّا اللّٰه العلي العظيم، رب بحق محمد و آله صال علي محمد

و آله، و خر لي في كذا و كذا الدنيا و الآخرة خيرة في عافية، إلّا أنه و إن كان ظاهر الدعاء فيه يقتضي ما ذكرنا، لكن قوله: فما عزم لك فافعل، قد يشعر بارادة طلب تعرف ما فيه الخيرة باتفاق حصول العزم من المستخير الذي كان متردداً في الفعل و عدمه، كما صرح به في السرائر في كيفية الاستخارة.

و هو مضمون خبر اليسع القمي، قال: قلت لابي عبد اللّه عليه السلام: أريد الشي ء فأستخير اللّٰه فيه، فلا يوفّق فيه الرأي، أفعله أو أدعه؟ فقال عليه السلام: انظر إذا قمت إلي الصلاة- فانّ الشيطان أبعد ما يكون من الانسان إذا قام إلي الصلاة- أيّ شي ء يقع في قلبك فخذ به. و افتتح المصحف، فانظر إلي أول ما تري فيه، فخذ به إن شاء اللّٰه. «4»

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

(2) المصدر.

(3) المصدر: ح 2.

(4) الوسائل: ب 6، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 317

إذ قوله: فلا يوفَّق فيه الرأي، كالصريح في عدم حصول الارادة و العزم؛ كي يتعرَّف ما فيه الخيرة». «1»

و لا يخفي أنّ قوله: «فما عزم لك فافعل» في ذيل خبر معاوية بن ميسرة قول والد الصدوق في رسالته ظاهراً، لا كلام الامام عليه السلام. نعم جاء نظير هذا التعبير في كلام الامام عليه السلام في بعض النصوص «2». و سيأتي بيان ذلك عند تحقيق النصوص.

و مرجع كلامه في المعني الثاني إلي طلب إراءة ما فيه الخير و الصلاح واقعاً و ذلك إنّما يحصل بسكون نفسه و حصول عزمه و جزمه عليه، من فعل أو ترك.

ثالثها: طلب التوفيق لما اختاره اللّٰه

له و تيسيره له، و كون أقسام الاستخارة الشائعة طرقاً لتعرُّف ما اختاره اللّٰه له. و هذا المعني هو الذي قوّاه و استظهره من نصوص الاستخارة.

قال في ختام البحث عن ذلك: «و من هنا يُقوّيٰ أنّ للاستخارة معنيين، لا غير. أحدهما: أن يسأل من اللّٰه سبحانه أن يجعل الخير فيما أراد إيقاعه من الأفعال، و الثاني: أن يوفّقه لما يختاره له و يُيَسِّره له، نعم لتعرُّف الثاني طرق و لعلّها تتبع إرادة المستخير بالمعرفة» «3».

و لكن المعني الأوّل من هذين القسمين هو الذي ذكره أوّلًا في تعريف الاستخارة و استبعد كونه المراد من الاستخارة بالدعاءِ و الصلاة. و لعلّه ذكره

______________________________

(1) المصدر: ص 157- 158.

(2) حيث قال عليه السلام «: ثمّ تستخير اللّٰه مائة مرّة و مرّة، ثمّ تنظر فان عزم اللّٰه لك» / الوسائل: ب 1، من أبواب الاستخارة، ح 5.

(3) المصدر: ص 162.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 318

هنا لبيان حصر معني الاستخارة فيهما ثبوتاً. و لكنّه طبّق أقسام الاستخارة الشائعة علي المعني الثاني، و هو المعني الثالث من المعاني الثلاثة المستفادة من كلامه.

و لا يخفي عليك أنّ ما جاء في كلامه من تفسير الخيرة بالمعني الثاني، مناسبٌ لما ذكره الخليل و ابن الأثير؛ من أنّ لفظ «الخِيَرَة» علي وزن العِنَبَة بمعني ما يُختار.

و يظهر منه أنّ هذا المعني الثاني هو ظاهر أكثر نصوص الاستخارة؛ حيث استشهد لذلك بنصوص عديدة. و سيأتي بيان مرامه في الاستخارة عند البحث عن مدركها.

رأي صاحب العروة و المناقشة فيه

و قال السيد اليزدي في العروة: «الاستخارة بمعني طلب الخير من ربّه و مسألة تقديره له عند التردد … أو مطلقاً … للسفر و كل أمر خطير …، و لا سيّما

عند الحيرة و الاختلاف في المشورة. و هي الدعاء لأن يكون خيره فيما يَستقبل أمره. و هذا النوع من الاستخارة، هو الأصل فيها، بل أنكر بعض العلماء ما عداها مما يشتمل علي التفاؤل و المشاورة بالرقاع و الحصي و السبحة و البندقة و غيرها» «1».

حاصل كلامه: أنّ الاستخارة بمعني طلب الخير من اللّٰه سبحانه و تعالي بالدعاء و الصلاة؛ بأن يقدّر له الخير و الصلاح في مستقبل أمره الذي يريده، في كل أمر خطير، و لا سيّما عند الحيرة بعد الفكر و المشورة. و ظاهر كلامه عدم اختصاص الاستخارة بمورد التحيُّر و التردد في الأمر. بقرينة قوله: «أو مطلقاً»

______________________________

(1) العروة الوثقي/ مقدمة كتاب الحج في آداب السفر: ج 2، ص 411.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 319

و «و لا سيما عند الحيرة».

فيظهر من كلامه ثلاثة امور:

1- كون الاستخارة بمعني طلب تقدير الخير في أمره من اللّٰه تعالي؛ ليحصل بذلك ركون نفسه و قرار قلبه علي ما فيه الخير واقعاً. و هذا غير طلب التعرف علي ما فيه الخير، و غير طلب تيسير ما فيه الخير و تسهيله.

2- خطورة الأمر المورد للاستخارة و أهميته. و يفهم من كلام هذا العَلَم عدم مشروعية الاستخارة في الامور الجزئية.

3- عدم اختصاصها بمورد التحيّر و التردد في الأمر. و لعلّ مقصوده من ذلك ما إذا كانت الاستخارة بمجرّد الدعاء و الصلاة لطلب الخير في ما يريد فعله، لا في مثل الاستخارة بالمصحف و الرقاع و السبحة.

و علي أيّ حالٍ يرد عليه أوّلًا: أنّ المعني الذي ذكره في تعريف الاستخارة، إنّما يلائم بعض المعاني المفسَّر بها لفظ الاستخارة، دون ساير المعاني، كطلب العزم علي خير ما ينبغي أن

يختاره، كما يظهر ذلك من قوله عليه السلام: «فما عزم لك فافعل» «1»، و سبق آنفاً في كلام صاحب الجواهر. و كطلب ما اختاره اللّٰه له من خير الأمرين.

و ثانياً: أنّه لو كانت الاستخارة بمعني محض الدعاء و الاستغاثة من اللّٰه لتقدير الخير له، فأيّ وجه لتخصيصه بالامور الخطيرة، بل في الامور الجزئية الحقيرة اليسيرة أيضاً ينبغي الاستخارة بهذا المعني. فانّ صِغر الشي ءِ الحقير و حقارته لا يوجب كونه بمعزل عن عناية اللّٰه و لا خارجاً عن قضائه و قَدَره و علمه؛ ضرورة أنّه لا يعزب عن محضر ذاته المقدّسة مثقال ذرّة، كما قال تعالي:

______________________________

(1) الوسائل: ب 5، من صلاة الاستخارة، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 320

«وَ مٰا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقٰالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا فِي السَّمٰاءِ» «1».

«يٰا بُنَيَّ إِنَّهٰا إِنْ تَكُ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمٰاوٰاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّٰهُ» «2».

«وَ مٰا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلّٰا يَعْلَمُهٰا وَ لٰا حَبَّةٍ فِي ظُلُمٰاتِ الْأَرْضِ وَ لٰا رَطْبٍ وَ لٰا يٰابِسٍ إِلّٰا فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ» «3».

هذا، مع أنّ الرواية صريحة علي خلاف ذلك مثل ما ورد عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«أنّه إذا كان إذا أراد شراء العبد أو الدّابة أو الحاجة الخفية أو الشي ءِ اليسير، استخار اللّٰه فيه سبع مرّات. فاذا كان أمراً جسيماً، استخار اللّٰه مائة مرّة» «4».

______________________________

(1) يونس: 61.

(2) لقمان: 16.

(3) الأنعام: 59.

(4) الوسائل: ب 5، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 321

تحقيق معني الاستخارة

اشارة

ينبغي لبيان ما هو مقتضي التحقيق في معني الاستخارة؛ أوّلًا: نظرة إلي كلمات أهل اللغة لتحقيق معناها

اللغوي.

و ثانياً: نظرة إلي النصوص و الأحاديث الواردة في الاستخارة، ليعلم معناها الاصطلاحي المقصود في النصوص.

تحقيق المعني اللغوي

ينبغي تحقيق معني لفظ الاستخارة لغة ليتضح المعني المقصود منه في الاحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السلام أكثر وضوحاً.

قال الخليل (المتوفيٰ سنة: 175 ه ق) في كتاب العين: «تقول: هذا و هذه و هؤلاء خِيَرَتي؛ و هو ما تختاره … و الخِيْرَة مصدر اسم الاختيار، مثل ارتاب ريبةً».

قال ابن فارس (المتوفّي سنة: 395 ه ق) في المقائيس: «و الخِيَرة: الخيار. و الخِير: الكرم. و الاستخارة: أن تسأل خيرَ الأمرين لك» «1».

و قال الجوهري (المتوفّي سنة: 393 ه ق):

«الاستخارة الاستعطاف. يقال: هو من الخُوار و الصوت. و أصله أنَّ الصائد يأتي وَلَدَ الظَّبْيَة في كناسه فيَعرك اذنه فيخور أي يصيح، يستعطف

______________________________

(1) مقائيس اللغة: ج 2، ص 232.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 322

بذلك أمَّه كي يصيدها» «1».

قوله: كناسه؛ أي موضع الضبي في خلال الأشجار و محل خفائه و استتاره.

و قال الزمخشري (المتوفّي سنة: 538 ه ق):

«و استخرت اللّٰه في ذلك فخار لي؛ أي طلبت منه خير الأمرين فاختاره لي» «2».

و قال ابن الأثير (المتوفّي سنة: 606 ه ق):

«الخَيْر ضدّ الشر … و خار اللّٰه لك؛ أي أعطاك ما هو خيرٌ لك. و الخِيرة بسكون الياء، الاسم منه. فأما بالفتح، فهي الاسم من قولك: اختاره اللّٰه، و محمد صلي الله عليه و آله خِيَرة اللّٰه من خَلقه. يقال بالفتح و السكون. و الاستخارة: طلب الخِيَرة في الشي ء، و هو استفعال منه. يقال استخر اللّٰه يخرْ لك. و منه دُعاء الاستخارة اللهم خِرْ لي، أي اختر لي أصلح الأمرين و اجعل لي الخِيَرة فيه» «3». و جاءَ نظير

ذلك في صحاح الجوهري في مادّة «خَيَر».

و قال الطريحي (المتوفي سنة: 1085 ه ق):

«و الاستخارة طلب الخِيَرة كعنبة. و استخير بعلمك، أي أطلب منك الخِيَرة متلبساً بعلمك بخيري و شرّي. قيل: الباءُ للاستعانة أو للقِسْم الاستعطافي.

و في الحديث: من استخار اللّٰه راضياً بما صنع اللّٰه خار اللّٰه له حتماً، أي طلب منه الخيرة في الأمر.

______________________________

(1) الصحاح: ج 2، ص 651.

(2) أساس البلاغة: ج 1، ص 272.

(3) النهاية: ج 2، ص 86.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 323

و فيه: استخر ثمّ استشر. و معناه انك تستخير اللّٰه أولًا بأن تقول: اللهم إنّي استخيرك خيرةً في عافية، و تكرر ذلك مراراً ثمّ تشاور بعد ذلك فيه فانّك إذا بدأت باللّٰه أجري اللّٰه لك الخيرة علي لسان من شاء من خلقه.

و خِرْ له و اختر لي، أي اجعل أمري خيراً و ألهمني فعله و اختر لي الأصلح» «1».

و الذي يتحصّل من مجموع كلمات أهل اللغة أنّ لفظ الاستخارة في الأصل جاءَ لثلاثة معان:

1- إنّه من الخوار و الصوت و مأخوذ من مادّة «خوَرَ».

و لفظ الاستخارة بناءً علي هذا الأصل، بمعني الاستعطاف و جلب الغير بالصوت و الأنين، كما جاء في كلام الجوهري في مادّة «خَوَر». و إن شئت فقل بمعني الدعاء، كما أشار إليه ابن ادريس بقوله: «الاستخارة في كلام العرب الدعاء».

2- من الخَيْر و الخَيْرة- بفتح الخاء و سكون الياء-، و هو ضدّ الشر. و لفظ الاستخارة بناءً علي هذا الأصل يكون بمعني طلب الخَيْر. كما اتفق عليه أهل اللغة.

3- من الخِيَرة علي وزن العِنَبة، و الخيرة- بكسر الخاء و فتح الياء و سكونها-؛ بمعني الخيار و الاختيار، كما جاءَ في كلام الخليل و

الجوهري و ابن فارس و ابن الأثير و غيرهم.

و الظاهر أنّ لفظ الاستخارة في أصل اللغة مشتركٌ بين المعاني الثلاثة المذكورة بالاشتراك اللفظي؛ لعدم جامع بينها ظاهراً.

______________________________

(1) مجمع البحرين/ طبع مكتبة المرتضوية: ج 3، ص 297- 296.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 324

فالمتحصّل من كلمات أهل اللغة أنّ الاستخارة في اللغة:

إمّا من الخِيَرة- بكسر الخاءِ و فتح الياء أو سكونها-؛ أي طلب ما اختاره اللّٰه له من خير الأمرين، أو طلب اختيار ما هو الأصلح.

أو من الخَيْر أو الخَيْرة- بفتح الخاءِ و سكون الياء- بمعني طلب ما هو خيرٌ له، أو طلب تقدير خير الأمرين- من الفعل و الترك، و ما هو أصلح منهما بحال المستخير.

و إمّا من الخُوار بمعني صوت الدعاء و أبين المستخير حينما يدعو اللّٰه بالتضرّع و الاستعانة.

و هذه المعاني كلها يمكن أن تكون مقصودة من الاستخارة الواردة في نصوص أهل البيت عليهم السلام، كما سيأتي بيانها، فلا تفاوت بين معناها اللغوي و بين معناها الاصطلاحي، إلّا فيما يرجع إلي مصاديقها و إلي الطرق و العلامات المذكورة في الأحاديث للتوصّل بها إلي خير الأمرين واقعاً.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 325

معاني الاستخارة من منظر النصوص
اشارة

1- المعاني المندرجة تحت طلب الخير.

2- الاستخارة بمعني طلب التعرّف علي الواقع.

المقصود من المعني الاصطلاحي هو المعني المراد من الاستخارة في نصوص أهل البيت عليهم السلام، و كلمات الفقهاء. و قد سبق الكلام في تعاريف الاستخارة الواردة في كلمات الفقهاء. و ينبغي هاهنا تحقيق في نصوص المقام.

فنقول: مقتضي التحقيق أنّ لفظ الاستخارة في النصوص الشرعية و كلمات الفقهاء مشتركٌ لفظي بين معنيين كليّين:

أحدهما: طلب الخير، سواءٌ كان بطلب التوفيق للخير، أو طلب تقدير الخير، أو

طلب العزم علي الخير و سكون النفس و قرارها عليه بالهام، أو طلب تيسيره.

و سواءٌ كان الطلب بالدعاء و الصلاة معاً أو بالدعاء فقط. و لا يبعد صدق طلب الخير علي جميع هذه المعاني الأربعة عرفاً؛ حيث يقال لمن يدعو و يطلب التوفيق للخير و تقديره، و من يطلب تيسير الخير و تسهيله، و من يطلب العزم علي فعل الخير: أنّه يطلب الخير، كما لا يبعد صدق طلب الخِيَرة علي الجميع بلحاظ إرجاع الكل إلي طلب ما يختاره اللّٰه له من الخير.

و ثانيهما: طلب التعرُّف و الاستطلاع علي ما هو خيرٌ واقعاً عند اللّٰه و خِيَرته في الأمر الذي يريده بأحد الطرق المتداولة، و هي الاستخارة بالمصحف أو الرقاع أو السبحة أو المساهمة التي لها جذرٌ في مفهوم الاقتراع، و إن كانت منضمّة بالدعاء و الصلاة عملًا، لكنّها مغايرة مع المعني الأوّل بحسب التبادر و

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 326

الارتكاز. و الشاهد لذلك عدم تبادر الثاني من سماع الأوّل. نعم يشترك القسمان في أصل الطلب. و عليه فلفظ الاستخارة مشترك معنوي بين الجميع؛ أي القسمين بما لهما من الأقسام.

المعاني المندرجة تحت طلب الخير
اشارة

تفصيل القسم الأوّل: أنّ لفظ الاستخارة- بمعني طلب الخير- قد اطلق في نصوص المقام علي أربعة معانٍ:

1- الدعاء لطلب الخير و التوفيق.

و إنّ هذه الطائفة من الروايات كثيرةٌ، و إليك نبذةٌ منها.

فمن هذه النصوص:

خبر معاوية بن ميسرة عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «ما استخار اللّٰه عبد سبعين مرّة بهذه الاستخارة إلّا رماه اللّٰه بالخيرة، يقول: يا أبصر النّاظرين، و يا أسمع السامعين، و يا أسرع الحاسبين و يا أرحم الراحمين، و يا أحكم الحاكمين، و صل علي محمد صلي الله عليه و آله و أهل بيته عليهم السلام و خر لي في كذا و كذا» «1».

وجه الدلالة أنّ قوله عليه السلام: «يقول: … » بيان و تفسير لقوله: «ما استخار اللّٰه عبد سبعين مرّة بهذه الاستخارة». فانّه عليه السلام فسّر الاستخارة بدعاءِ المستخير الواردة في ذيل هذه الرواية.

و منها: صحيح ابن أبي يعفور، قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول في الاستخارة: تعظّم اللّٰه و تمجّده و تحمده و تصلّي علي النبي صلي الله عليه و آله ثمّ تقول: اللهم إنّي أسألك بأنّك عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم و أنت عالم الغيوب، أستخير اللّٰه

______________________________

(1) الوسائل: ب 5، من صلاة الاستخارة، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 327

برحمته» «1».

و منها: صحيح زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الأمر يطلبه الطالب من ربّه، قال عليه السلام: يتصدّق في يوم علي ستّين مسكيناً، كلّ مسكين صاعاً بصاع النبي صلي الله عليه و آله. فاذا كان الليل اغتسل في ثلث الليل الباقي و يلبس أدني ما يلبس من يعول من الثّياب، إلّا أنّ عليه في تلك الثّياب إزاراً، ثمّ يصلّي ركعتين. فاذا وضع

جبهته في الركعة الأخيرة للسجود هلّل اللّٰه و عظّمه و مجّده، و ذكر ذنوبه فأقرّ بما يعرف منها مسمّي، ثمّ رفع رأسه. فاذا وضع في السجدة الثانية استخار اللّٰه مائة مرّة. يقول: اللّهم إنّي أستخيرك، ثمّ يدعو اللّٰه بما شاء و يسأله إيّاه كما سجد، فليفض برُكبتيه إلي الأرض يرفع الازار حتي يكشفها، و يجعل الازار من خلفه بين ألييه و باطن ساقيه» «2». قوله: ألييه تثنية الألية بالفتح من ألية الشاة، و لا تقل الألية بالكسر كما صرّح الجوهري بهذا التنبيه. و الألية في الانسان طرفي مقعده.

و منها: موثقة الحسن بن علي بن فضّال عن حماد بن عيسي عن حَريز عن زرارة، قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: إذا أردت أمراً و أردت الاستخارة كيف أقول؟ فقال عليه السلام:

إذا أردت ذلك فصم الثلثاء و الأربعاء و الخميس، ثمّ صل يوم الجمعة في مكان نظيف ركعتين، فتشهّد ثمّ قل و أنت تنظر إلي السماء: اللّهم إنّي أسألك بأنّك عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم أنت عالم الغيب، إن كان هذا الأمر خيراً فيما أحاط به علمك فيسّره لي و بارك لي فيه، و افتح لي به. و إن كان ذلك لي شرّاً فيما أحاط به علمك، فاصرفه عنّي بما تعلم، فانّك تعلم و لا أعلم، و تُقَدّر و لا اقِّدر، و تقضي و لا أقضي و أنت علّام الغيوب، تقولها مائة مرّة» «3».

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، من صلاة الاستخارة، ح 1.

(2) المصدر: ح 12.

(3) المصدر: ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 328

و منها: صحيح حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنّه قال في الاستخارة: أن يستخير اللّٰه الرجل

في آخر سجدة من ركعتي الفجر مائة مرّة و مرّة، تحمد اللّٰه و تصلّي علي النبي صلي الله عليه و آله و آله، ثمّ تستخير اللّٰه خمسين مرّة. ثمّ تحمد اللّٰه و تصلّي علي النبي صلي الله عليه و آله، و تمّم المائة و الواحدة» «1».

و يدلّ علي هذا المعني من الاستخارة نصوص كثيرة معتبرة، و هي أكثر نصوص المقام، فمن ذلك جميع روايات الباب الأوّل و الرابع و الخامس من أبواب صلاة الاستخارة في الوسائل، و عليه يحمل ما نقله في الباب السابع و التاسع و العاشر.

و حاصل هذا المعني طلب الخير بالدعاءِ و الصلاة؛ بأن يدعو المستخير و يطلب من ساحة ربّه سبحانه و تعالي أن يقدّر له الخير فيما يريد فعله و يجعل فيه البركة و التوفيق.

و هذا مراد صاحب الحدائق من قوله:

«بمعني أنّه يسأل اللّٰه في دعائه أن يجعل له الخير و يوفّقه في الأمر الذي يريده. و علي هذا المعني يحمل ما رواه في الكافي عن عمرو بن حريث في الصحيح علي الأظهر، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام صل ركعتين و استخر اللّٰه فو اللّٰه ما استخار اللّٰه مسلم إلّا خار له البتة. و في رواية اخري عنه عليه السلام: من استخار اللّٰه راضياً بما صنع اللّٰه خار اللّٰه له حتماً. و في معناهما أخبار اخر أيضاً». «2»

و تدلّ علي هذا المعني عدّة نصوص معتبرة؛

منها: صحيحة عمرو بن حريث قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «صلّ ركعتين و

______________________________

(1) الوسائل ب 4، من أبواب الاستخارة، ح 1.

(2) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 525.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 329

استخر اللّٰه فو الله ما استخار اللّٰه

مسلم إلّا خار له البتّة» «1».

و نظيره خبر هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «من استخار اللّٰه راضياً بما صنع خار اللّٰه له حتماً» «2».

هذان الخبران جاءَ في كلام صاحب الحدائق.

و في خبره الآخر، قال: «قال أبو عبد اللّه من استخار اللّٰه تعالي مرّة واحدة و هو راضٍ بما صنع اللّٰه له، خار اللّٰه له حتماً» «3».

وجه دلالة هذه النصوص علي هذا المعني أنّ قوله عليه السلام: «خار له البتّة» و قوله: «خار اللّٰه له حتماً» عقيب الاستخارة، ظاهرٌ في كون مطلوب المستخير من اللّٰه تعالي، جعل الخير و تقديره في الأمر الذي يريده فيخير اللّٰه تعالي له؛ بأن يجعل الخير و يقدّره له في ذلك الأمر.

كما يدل علي ذلك قوله في خبر معاوية: «رماه اللّٰه بالخيرة» فان الرمي بالخير جعله و تقديره. و أيضاً يدلّ علي ذلك قول المستخير في ذيل خبر معاوية: «و خِرْ لي في كذا و كذا»؛ أي اجعل و قدّر لي الخير في كذا و كذا.

و لفظ الاستخارة فيها بمعني طلب الخير و معني ذلك جعل الخير و تقديره فيما أراد المستخير أن يفعله. و يشهد لذلك قوله: «خار له البتة» و «خار الله له حتماً»؛ أي يجعل و يقدر له الخير البتة و حتماً.

إلي غير ذلك من النصوص الظاهرة في هذا المعني، و إن يمكن حملها علي بعض المعاني الآتية أيضاً.

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، من صلاة الاستخارة، ح 1.

(2) المصدر: ح 2.

(3) المصدر: ب 7، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 330

2- طلب تيسير ما فيه الخير واقعاً و تسهيل خير الأمرين، من الفعل أو الترك.

و ذلك بأن يطلب من اللّٰه سبحانه تسهيل فعل ما يريده، إن كان خيراً في الواقع، و صرفه عنه

إن كان شرّاً واقعاً. و هذا المعني من الاستخارة أيضاً يكون بالدعاء و الصلاة.

و يستفاد هذا المعني من عدّة نصوص واردة في الاستخارة.

منها: صحيحة مرازم قال: قال لي أبو عبد اللّٰه: «إذا أراد أحدكم شيئاً فليصلّ ركعتين ثمّ ليحمد اللّٰه و ليثن عليه، و يصلّي علي محمد و أهل بيته و يقول: اللّهم إن كان هذا الأمر خيراً لي في ديني و دنياي فيسّره لي و قدّره، و إن كان غير ذلك فاصرفه عنّي» «1».

و منها: موثق زرارة أو معتبرته، قال: «قلت لأبي جعفر إذا أردت أمراً و أردت الاستخارة كيف أقول؟ فقال: إذا أردت ذلك فصم الثلثاء و الاربعاء و الخميس ثمّ صل يوم الجمعة في مكان نظيف ركعتين، فتشهد ثمّ قل- و أنت تنظر إلي السماء-: اللّهم إنّي أسألك بأنّك عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم أنت عالم الغيب، إن كان هذا الأمر خيراً فيما أحاط به علمك فيسّره لي و بارك لي فيه، و افتح لي به، و إن كان ذلك لي شراً فيما أحاط به علمك فاصرفه عنّي بما تعلم فانّك تعلم و لا أعلم، و تقدر و لا أقدر، و تقضي و لا أقضي و أنت علام الغيوب، تقولها مائة مرّة» «2».

و منها: معتبرة مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه السلام- في حديث- قال: «اللّهم إنّي أستخيرك برحمتك، و أستقدرك الخير بقدرتك عليه لأنّك عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم فأسألك أن تصلي علي محمد النبي و آله عليه السلام، كما صليت علي إبراهيم

______________________________

(1) المصدر: ب 1، ح 7.

(2) المصدر: ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 331

و آل ابراهيم إنّك حميد مجيد. اللهم إن كان هذا

الأمر الذي اريده خيراً لي في ديني و دنياي و آخرتي، فيسّره لي. و إن كان غير ذلك، فاصرفه عنّي و اصرفني عنه» «1».

و نظيره معتبرته الاخري «2».

و منها: صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان أبو جعفر عليه السلام يقول: ما استخار اللّٰه عبد قطّ مائة مرّة إلّا رمي بخيرة الأمرين، يقول: اللهم عالم الغيب و الشهادة إن كان أمر كذا و كذا خيراً لأمر دنياي و آخرتي و عاجل أمري و آجله فيسّره لي و افتح لي بابه و رضّني فيه بقضائك» «3».

و لا إشكال في أنّه لا جامع بين المعني السابق و بين هذا المعني؛ لأنّ جعل الخير و تقديره في ما يريده المستخير غير تيسير ما فيه الخير من الفعل و الترك، كما هو واضح.

3- طلب الخِيَرَة- بكسر الخاء و فتح الياء، من الاختيار

- بمعني طلب قوّة الارادة و استحكام العزم في اختيار خير الأمرين؛ بأن يطلب من اللّٰه تعالي أن يخرجه عن الحيرة و يزيل عنه حالة الشك و التردّد و يُنزل عليه السكينة و يعطيه قوّة اختيار خير الأمرين من الفعل أو الترك.

و هذا المعني و إن ينطبق علي المعني الثاني غالباً؛ لأنّ بازالة الخيرة و إعطاء قوّة الارادة و استحكام العزم يتيسّر الأمر للمستخير. و لكن من جهة الجذر اللغوي و المفهوم لا إشكال في تغاير المعنيين؛ فان التيسير و تسهيل الأمر غير إزالة الحيرة و إيجاد العزم و تقوية الارادة، كما هو واضح. و الانطباق

______________________________

(1) المصدر: ب 5، ح 5.

(2) المصدر: ح 6.

(3) المصدر: ح 9.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 332

في المصداق لا يوجب وحدة المعني.

هذا، مضافاً إلي حصول التيسير برفع الموانع و المشاكل الخارجية أيضاً،

فلا ينحصر بازالة الحيرة و الترديد و إعطاء العزم.

و الاستخارة بهذا المعني ظاهرة من بعض الأحاديث الواردة في باب الاستخارة.

فمن هذه النصوص:

صحيحة علي بن أسباط، قال: «قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام، جعلت فداك ما تري آخذ براً أو بحراً، فانّ طريقنا مخوف شديد الخطر؟ فقال عليه السلام: اخرج براً، و لا عليك أن تأتي مسجد رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و تصلي ركعتين في غير وقت فريضة، ثمّ تستخير اللّٰه مائة مرّة و مرّة، ثمّ تنظر؛ فان عزم اللّٰه لك علي البحر، فقل الذي قال اللّٰه عزّ و جلّ: و قال اركبوا فيها بسم اللّٰه مجريها و مرسيها إنّ ربّي لغفور رحيم، الحديث» «1».

فان قوله: «فان عزم اللّٰه لك علي البحر … » إشارة إلي هذا المعني الذي بيّناه. قال في مجمع البحرين: و عَزَم اللّٰه لي: أي خَلَق اللّٰه لي عزماً.

و منها خبر جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كان علي بن الحسين عليه السلام إذا همّ بأمر حجّ و عمرة أو بيع أو شراء أو عتق، تطهر، ثمّ صلّي ركعتي الاستخارة فقرأ فيهما بسورة الحشر و سورة الرحمن، ثمّ يقرأ المعوذتين، و قل هو اللّٰه أحد، إذا فرغ و هو جالس في دبر الركعتين، ثمّ يقول: اللّهم إن كان كذا و كذا خيراً لي في ديني و دنياي و عاجل أمري و آجله، فصلّ علي محمد و آله و يسّره لي علي أحسن الوجوه و أجملها، اللّهم و إن كان كذا و كذا شراً لي في ديني أو دنياي و آخرتي و عاجل أمري و آجله فصلّ علي محمد و آله عليهم السلام و اصرفه عنّي، ربّ صل علي

محمد و آله و اعزم لي علي رشدي و

______________________________

(1) المصدر: ب 1، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 333

إن كرهت ذلك أو أبته نفسي» «1».

و منها: موثق اسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قلت له: ربّما أردت الأمر يفرق مني فريقان: أحدهما يأمرني، و الآخر ينهاني، قال: فقال عليه السلام إذا كنت كذلك فصل ركعتين و استخر اللّٰه مائة مرة و مرّة، ثمّ انظر أجزم الامرين لك، فافعله فان الخيرة فيه إن شاء اللّٰه» «2»

فان قوله عليه السلام: «ثمّ انظر أجزم الأمرين لك، فافعله؛ فانّ الخِيَرة فيه إن شاء اللّٰه» إشارة إلي المعني المزبور.

و بهذا المعني قول أبي عبد اللّه عليه السلام: «ربِّ اعزم لي علي رشدي» في دعاء الاستخارة في معتبرة اسحاق بن عمار «3» فقوله: «ربِّ اعزم»؛ أي أوجِد في نفسي عزماً.

و هذا المعني من الاستخارة أيضاً، إنّما يؤتي به بمجرد الدعاء أو بالدعاءِ و الصلاة معاً.

4- طلب الخِيَرة- بكسر الخاء و فتح الياءِ- بمعني صفوة الشي ءِ و المختار منه،

كما وُصف النبي صلي الله عليه و آله بخيَرَة اللّٰه بهذا المعني؛

بأن يطلب من اللّٰه سبحانه و تعالي ما قدّره و قضاه و اختاره و اصطفاه للمستخير.

و يمكن الاستشهاد لذلك أيضاً ببعض التعابير الواردة في نصوص المقام،

______________________________

(1) المصدر: ب 1، ح 3.

(2) المصدر: ح 6.

(3) مستدرك الوسائل: ج 6، ب 4، من صلاة الاستخارة ص 256، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 334

كقوله: «و رضّني فيه بقضائك» في صحيحة معاوية بن عمّار «1».

و قوله: «و رضّني في ذلك بقضائك، فانّك تعلم و لا أعلم و تُقدِّر و لا اقدِّر و تقضي و لا أقضي، إنّك علّام الغيوب» «2». و نظيره موثق زرارة «3» فانّ

ما تعلّق به قضاء اللّٰه و قدره، يكون مما اختاره اللّٰه و أراده.

ثمّ إنّ الاستخارة بجميع الأقسام الأربعة المزبورة؛ إمّا بالدعاءِ وحدها أو بالدعاء و الصلاة معاً حسب ما تدلّ عليه النصوص.

الاستخارة بمعني طلب التعرّف علي الواقع

إنّ للاستخارة في النصوص معني آخر غير طلب الخير- المندرجة فيه المعاني الأربعة المزبورة-، و هو طلب التعرُّف علي الواقع و الاستطلاع علي ما فيه الخير و ما اختاره اللّٰه له في ذلك الأمر الذي يريده؛ بأن يطلب من اللّٰه سبحانه أن يعرّفه و يُريه بطريق الاستخارة ما هو خير مقدّر له واقعاً- من الفعل أو الترك- فيستدعي من اللّٰه تعالي إراءة خير الأمرين و ما هو الأصلح له من فعل الأمر الذي يريده أو تركه.

و يدل علي هذا المعني قوله عليه السلام: «فأخرج لنا آيةً من كتابك نستدلّ بها علي

______________________________

(1) الوسائل: ب 5، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 9.

(2) المصدر: ح 4.

(3) المصدر: ب 1، ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 335

ذلك … فانه يبيّن لك حاجتك» في معتبرة مفضّل بن عمر «1». و نظيره ما رواه السيد بن طاوس و الطبرسي «2».

و قوله عليه السلام: «فأرني من كتابك ما هو مكتومٌ من سرّك المكنون في غيبك» فيما رواه السيد بن طاوس. «3» و غير ذلك من الأدعية الواردة في الاستخارة بالمصحف و الرقاع و غيرهما.

و لهذا النوع من الاستخارة طرق عديدة مذكورة في الأحاديث الواردة، كما يستفاد اختصاص تلك الطرق بهذا المعني من الاستخارة، من كلام صاحب الحدائق؛ حيث قال: «و منها: ما ورد بمعني طلب تعرّف ما فيه الخيرة، و هذا هو المعروف الآن بين الناس، و لكن لا بد هنا من انضمام شي ءٍ آخر إلي

الصلاة و الدعاء معاً أو الدعاء وحده من الرقاع أو البنادق أو فتح المصحف أو أخذ السبحة أو القرعة أو الاخذ من لسان المشاور» «4».

و يستفاد ذلك أيضاً من كلام المحدّث الكاشاني «5»، و المحدث المجلسي؛ حيث جعلها من القسم الرابع للاستخارة بقوله: «رابعها، استعلام الخير بالأعمال و هي أنواع» «6»، و كذا يستفاد من كلام صاحب الجواهر كما سيأتي بيانه.

و قد جاءَ أكثر هذه المعاني في كلماتهم، كما أشار الفيض في بيان معني الاستخارة بقوله:

«يعني ما طلب مسلم من اللّٰه الخيرة في أمره بالدعاء قبل أن يرتكبه إلّا جعل اللّٰه تعالي له ذلك الأمر خيراً.

هذا أحد معاني الاستخارة، و لها معان اخر تستفاد من الأخبار الآتية؛ كطلب تيسير ما فيه الخيرة، أو طلب تعرُّف ما فيه الخيرة، أو طلب العزم علي ما

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 245.

(2) بحار الانوار: ج 88، ص 241، و مكارم الاخلاق: ص 373.

(3) بحار الانوار: ج 88، ص 241، ح 1.

(4) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 526.

(5) الوافي: ج 9، ص 1409.

(6) تحف العقول: ج 15، ص 450.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 336

فيه الخيرة. و ما سوي طلب التعرف يكون بالصلاة و الدعاء». «1»

و إنّ لهذا النوع الأخير من الاستخارة أقساماً تكون بطرق و علامات خاصة، و هي مقصودنا من الاستخارة بمعناها الأخص. و سيأتي بيانها و تحقيق النصوص الدالّة عليها، إن شاء اللّٰه.

______________________________

(1) الوافي: ج 9، ص 1409.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 337

الاستخارة بأقسامها الشائعة و تحقيق نصوصها

اشارة

1- معني مشروعية هذه الأقسام و ثمرها.

2- الاستخارة بطلب إلهام الخير.

3- تحقيق في نصوص الاستخارة بالمشورة.

4- تحقيق نصوص الاستخارة بالرقاع.

5- الاستخارة بافتتاح المصحف.

6- هل المدار علي

المتبادر من لفظ الآية أو مدلول السياق؟

7- تحقيق روايات الاستخارة بالقرآن بعدّ سبعة أوراق.

8- تحقيق في نصوص التفؤُّل بالقرآن.

9- مقتضي التحقيق في الفرق بين التفؤُّل و الاستخارة.

10- الاستخارة بالسبحة و عدم شهرتها بين القدماء.

11- هل للسبحة و الحصي موضوعية؟

12- الاستخارة بالبنادق.

معني مشروعية هذه الاقسام و ثمرها

و قد جاءت الاستخارة بالمعني الأخير- أي طلب التعرُّف علي الخِيَرة و استعلام ما فيه الصلاح و الخير عند اللّٰه- علي أقسام في نصوص المقام، و كلُّها في الحقيقة طرق التعرّف و الاستعلام، كما يظهر من كلمات الفقهاء الفحول.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 338

و الغرض من البحث في المقام إثبات مشروعية هذه الأقسام.

و لكن قد تخطر بالبال هاهنا شبهة، و هي: أنّ العمل بمؤدّي الاستخارة- بعد الدعاء و الصلاة و التوكّل علي اللّٰه، و بعد الفراغ عن جواز كلّ من الفعل و الترك شرعاً، كما هو المفروض في مورد الاستخارة-، فأيّ منع شرعي عنها حتي تحتاج مشروعيتها إلي الاثبات بالدليل؟

و الجواب: أنّ الغرض في المقام إثبات جواز العمل بمؤديٰ الاستخارة مسنداً إلي الشارع بالخصوص؛ بأنّ يُستند ذلك إلي أمره الاستحبابي و نهيه التنزيهي الثابتين بالنصوص الشرعية الواردة في الاستخارة.

و من الواضح أنّه فرق بين الجواز الثابت لفعل أو ترك بالعنوان الأوّلي، 0 و بين الاستحباب الثابت لذلك الفعل أو الترك باستناد أمر الشارع أو نهيه بالعنوان الثانوي بما أنّه مورد الاستخارة، و بما يكون لموردها من الخصوصيات السابق ذكرها في بيان معني الاستخارة و حقيقتها و تحديد مواردها.

و قد دلّت علي مشروعية كل واحد من هذه الأقسام عدّة نصوص، و هي علي طوائف.

الاستخارة بطلب إلهام الخير

الطائفة الاولي: ما جاءت الاستخارة فيه بمعني استعلام الخير بالهام من اللّٰه و إخطاره في قلب المستخير؛ حيث إنّه ربّ أمر ليس قابلًا للمشورة؛ لكونه من الأسرار و ينبغي ستره، كما أنّه ربما لا فرصة للمشورة، أو تكون موانعُ اخري عنها. فحينئذٍ يستخير صاحب الحاجة و يستهدي اللّٰه تعالي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 339

أن

يعرّفه و يُريه الخير بطريق الالهام.

و في هذه الطائفة من النصوص إنّما تكون الاستخارة بالدعاء و الصلاة، لكنها الطلب التعرُّف و استعلام ما هو خير واقعاً. و يفهم من جواب الامام عليه السلام حصول التعرُّف بالهام من اللّٰه و إلقاء في القلب.

من هذه النصوص موثق ابن فضّال، قال: «سأل الحسن ابن الجهم أبا الحسن عليه السلام لابن أسباط، فقال: ما تري له- و ابن أسباط حاضر- و نحن جميعاً نركب البحر أو البر إلي مصر، و أخبره بخبر طريق البرّ. فقال عليه السلام البَرُّ، و ائت المسجد في غير وقت صلاة الفريضة فصل ركعتين فاستخر اللّٰه مائة مرة، ثمّ انظر أيّ شي ء يقع في قلبك فاعمل به» «1».

ظاهر أمر الامام عليه السلام باتيان المسجد و الاستخارة، بعد قوله «البَرّ»، التخيير بين اختيار طريق البرّ- الذي كان رأي الامام عليه السلام- و بين الاستخارة.

و لا يخفي أنّ المستفاد من هذه الموثقة مشروعية الاستخارة بمعني طلب التعرف علي خير الأمرين و استعلام ما فيه المصلحة بالهام من اللّٰه تعالي و إخطاره في قلبه.

و من هذا القبيل ما رواه الحسين بن محمد الطوسي في أماليه بسنده عن علي بن محمد عن آبائه عليهم السلام، قال: قال الصادق عليه السلام: «إذا عرضت لأحدكم حاجة، فليستشر اللّٰه ربّه، فان أشار عليه اتبع، و إن لم يُشِر عليه فتوقف. قال: قلت: يا سيّدي كيف أعلم ذلك؟ قال عليه السلام: يسجد عقيب المكتوبة و يقول: اللهم خر لي مائة مرّة، ثمّ يتوسّل بنا و يصلّي علينا و يستشفع بنا، ثمّ تنظر ما يلهمك تفعله، فهو الذي أشار

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 340

عليك به»

«1».

هذه الرواية، و إن لم يأت لفظ الاستخارة في صدرها، و لكن جاء ما بمعني الاستخارة، و هو استشارة الربّ. فان في بعض نصوص المقام عُبّر عن الاستخارة باستشارة اللّٰه. هذا، مضافاً إلي أن قوله في الذيل: «اللّهم خِر لي» يدل علي صدور طلب الخير من جانب صاحب الحاجة، و ليس حقيقة الاستخارة، إلّا طلب الخير.

و سؤال الراوي بقوله: «كيف أعلم ذلك» يدلّ علي كونه بصدد الاستعلام و التعرُّف علي ما هو خير له في الواقع.

و من ذلك ما رواه علي بن طاوس من كتاب الأدعية «لسعد بن عبد اللّه، عن علي بن مهزيار قال: كتب أبو جعفر الثاني إلي إبراهيم بن شيبة: فهمت ما استأمرت فيه من أمر ضيعتك التي تعرض لك السلطان فيها، فاستخر اللّٰه مائة مرّة خيرة في عافية، فان احلولي بقلبك بعد الاستخارة بيعها فبعها و استبدل غيرها إن شاء اللّٰه، و لا تتكلّم بين أضعاف الاستخارة حتي تتم المائة إن شاء اللّٰه». «2»

قوله: احلولي بقلبك؛ أي وجدته و أحسسته في قلبك حُلْواً، أصله من الحُلو.

قال الخليل: «حَلا يحلو حلواً و حُلواناً، و قد احلوليٰ». و قال في الصحاح: «الحُلْوُ:

نقيض المُرّ. يقال حَلا الشي ء يَحلو حَلاوةً. و احلوليٰ مثله». و المقصود أنّه إذا مال و عطف إليه قلبك و هوي إليه فؤادك بعد الاستخارة إلي بيع الضيعة.

هذه الرواية معتبرة؛ حيث إنّ ظاهر نقل ابن طاوس أنّه قد تحملها عن

______________________________

(1) المصدر: ب 4، ح 3.

(2) المصدر: ب 5، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 341

كتاب سعد بطريق الوجادة، و قد تحملها سعد عن علي بن مهزيار بالسماع. و ظاهر كلام ابن مهزيار أنّه رأي مكاتبة أبي جعفر الثاني.

و

قد بحثنا عن تحمل الحديث بطريق الوجادة و اعتبارها في كتابنا «مقياس الرواية» «1».

و مثله ما رواه الحسن بن فضل الطبرسي في مكارم الأخلاق؛ نقلًا من فردوس الأخبار: «إنّ النبي صلي الله عليه و آله قال: «يا أنس إذا هممت بأمر، فاستخر ربّك فيه سبع مرّات، ثمّ انظر إلي الذي يسبق إلي قلبك، فانّ الخيرة فيه» «2».

و لكن في خبر اليسع القمي أمر الامام عليه السلام بالأخذ بما يقع في قلب المستخير حينما قام إلي الصلاة، لا في كل وقت؛ حيث قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام، اريد الشي ء فأستخير اللّٰه فيه، فلا يوفَّق فيه الرأي أفعله أو أدعه، فقال عليه السلام: انظر إذا قمت إلي الصلاة- فانّ الشيطان أبعد ما يكون من الانسان إذا قام إلي الصلاة- أيَّ شي ء يقع في قلبك، فخذ به … » «3». و سنذكر هذه الرواية بتمامها في الاستخارة بالمصحف.

تحقيق في نصوص الاستخارة بالمشورة

الطائفة الثانية: ما دلّ علي مشروعية، بل استحباب الاستخارة باستعلام خير الأمرين و ما فيه المصلحة واقعاً بطريق المشورة؛ بأن يدعو المستخير و يصلّي و يستدعي من اللّٰه أن يُجري ما هو خيرٌ له واقعاً علي لسان من يشاوره من المؤمنين.

فمن هذه الطائفة ما رواه الصدوق باسناده عن «هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إذا أراد أحدكم أمراً، فلا يشاور فيه أحداً من الناس حتي يبدأ فيشاور اللّٰه

______________________________

(1) مقياس الرواية في علم الدراية: ص 22.

(2) مستدرك الوسائل: ج 6، ص 255.

(3) الوسائل: ب 6، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 342

تبارك و تعالي. قال: قلت: جعلت فداك و ما مشاورة اللّٰه؟ قال: تبتدأ فتستخير اللّٰه فيه

أوّلًا ثمّ تشاور فيه. فانه إذا بدأ باللّٰه، أجري له الخيرة علي لسان من يشاء من الخلق» «1»

وجه الدلالة أنّ قوله عليه السلام: «تبتدئ و تستخير … » في جواب قول السائل: «و ما مشاورة اللّٰه؟»، يدلّ بوضوح علي تفسير مشاورة اللّٰه بالاستخارة، مع بيان الامام كيفية الاستخارة في الجواب.

ففي الحقيقة أجاب الامام عليه السلام بتفسير مشاورة اللّٰه بالاستخارة و ببيان كيفية الاستخارة.

و منه يعلم أنّ المقصود من الاستخارة في هذه الرواية ليس مطلق الدعاء و لا مطلق طلب الخير، بل المقصود استدعاءُ إراءة الخير بلسان من يشاوره من المؤمنين.

و من هنا عبّرنا عن هذا النوع من الاستخارة بالاستخارة بالاستشارة.

و منها: ما رواه ابن طاوس عن كتاب الدعاء لسعد بن عبد اللّه بسنده عن اسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: «إذا أراد أحدكم أن يشتري أو يبيع، أو يدخل في أمر، فيبتدئ باللّٰه و يسأله، قال قلت: فما يقول؟ قال: يقول اللهم إنّي اريد كذا و كذا، فان كان خيراً لي في ديني و دنياي و آخرتي و عاجل أمري و آجله، فيسره لي، و إن كان شراً لي في ديني و دنياي، فاصرفه عني، رب اعزم لي علي رشدي، و إن كرهته و أبته نفسي، ثمّ يستشير عشرة من المؤمنين، فان لم يقدر علي عشرة و لم يصب إلّا خمسة، فيستشير خمسة مرّتين، فان لم يصب إلّا رجلين فليستشر هما خمس مرات، فان لم يصب إلّا رجلًا واحداً فليستشره عشر مرّات» «2».

______________________________

(1) المصدر: ب 5، ح 2.

(2) مستدرك الوسائل: ج 6، ب 4، من صلاة الاستخارة، ص 256، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 343

و أما

ما ورد في خبر هارون من النهي عن مشاورة الناس قبل مشاورة اللّٰه، فالمقصود منه الترغيب إلي كون مشاورة الناس بعد استدعاء الخير من اللّٰه بالدعاء و التوسّل إليه تعالي، حتي يجري اللّٰه تعالي ما فيه الخير و الصلاح علي لسان المستشار ببركة الدعاءِ و التوسل، كما اشير إلي ذلك في ذيل الرواية المزبورة. و عليه فهذه الرواية لا تنافي مطلقات الأمر بالمشورة، مثل قوله تعالي: «وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» و قوله تعالي: «وَ أَمْرُهُمْ شُوريٰ بَيْنَهُمْ».

تحقيق نصوص الاستخارة بالرقاع

الطائفة الثالثة: ما جاءَ فيه لفظ الاستخارة بمعني استعلام ما هو خير له واقعاً و التعرّف علي أصلح الأمرين عند اللّٰه باستخارة ذات الرقاع. و الرقاع- بكسر الرّاءِ- جمع الرُّقعة؛ و هي القرطاس.

و قد سُمّيت هذه الاستخارة بذلك؛ لأنّ كيفيتها أن يكتب المستخير علي قطعات من أوراق القرطاس «افعل» و علي بعضها «لا تفعل»، ثمّ يجعلها تحت مصلّاه أو في كُمّه أو في أيّ شي ءٍ آخر مستور. ثمّ يجعل الأوراق علي هيئة و وزن واحد، فيأخذ واحداً منها و يعمل بأوّل ما خرج أو يكرّر الأخذ، فلو خرج «لا تفعل» مكرّراً ففيه شدّة النهي و لو خرج «افعل» مكرّراً، ففيه تأكيد الأمر و كثرة الخير. و قد بُيّنت كيفية هذه الاستخارة في النصوص التالية.

فمن هذه النصوص:

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 344

خبر هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا أردت أمراً فخذ ستّ رقاع فاكتب في ثلاث منها: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم خيرة من اللّٰه العزيز الحكيم لفلان بن فلانة افعل، و في ثلاث منها: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم خيرة من اللّٰه العزيز الحكيم لفلان بن فلانة لا تفعل.

ثمّ ضعها تحت

مصلّاك، ثمّ صل ركعتين. فاذا فرغت فاسجد سجدة و قل فيها مائة مرّة: أستخير برحمته خيرة في عافية. ثمّ استو جالساً، و قل: اللّهم خر لي و اختر لي في جميع اموري في يسر منك و عافية.

ثمّ اضرب يدك إلي الرقاع فشوّشها و أخرج واحدة واحدةً. فان خرج ثلاث متواليات افعل، فافعل الأمر الذي تريده. و إن خرج ثلاث متواليات لا تفعل فلا تفعله، و إن خرجت واحدة افعل و الاخري لا تفعل، فاخرج من الرقاع إلي خمس، فانظر أكثرها فاعمل به و دع السادسة، لا تحتاج إليها» «1».

لا إشكال في دلالة هذه الرواية علي المطلوب، إلّا أنّها ضعيفة؛ لوقوع أحمد بن محمد السياري البصري في طريقها، و قد ضعّفها الشيخ و النجاشي و الغضايري و لم يوثّقه أحد. و كذا سهل بن زياد؛ حيث ضعّفه هؤلاء المذكورون و غيرهم. و قد أخرجه أحمد بن محمد بن عيسي من قم إلي الري لضعفه، كما ذكره النجاشي.

و توهّم اشتهارها الروائي بنقل المفيد في المقنعة و مثل الشيخ و الكليني و ابن طاوس في كتبهم، توهم فاسد لا أساس له كما هو واضح؛ فان الرواية إنّما تكون مشهورة بالشهرة الروائية إذا اشتهر نقلها و روايتها بين الرواة المعاصرين للأئمة عليهم السلام كما هو المراد من قوله عليه السلام: «خذ بما اشتهر بين أصحابك» و هو المعيار في الشهرة الروائية.

فهذه الرواية ضعيفة السند.

نعم روي في البحار رواية في الاستخارة بالرقاع، و لا يبعد اعتبار سندها.

______________________________

(1) المصدر: ب 2، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 345

و هي ما رواه سيد بن طاوس بقوله:

«أخبرني شيخي الفقيه محمد بن نما و الشيخ أسعد بن عبد القاهر الاصفهاني

باسنادهما، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن عبد الرحمن ابن سيابة قال: خرجت إلي مكة و معي متاع كثير فكسد علينا، فقال بعض أصحابنا: ابعث به إلي اليمن و بعض أصحابنا ابعث به إلي مصر فذكرت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السلام فقال عليه السلام لي:

«ساهم بين مصر و اليمن، ثمّ فوِّض أمرك إلي اللّٰه. فأيُّ البلدين خرج اسمه في السهم، فابعث إليه متاعك.

فقلت: كيف أساهم؟ قال عليه السلام: اكتب في رقعة: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم إنّه لا إله إلّا أنت عالم الغيب و الشهادة أنت العالم و أنا المتعلم. فانظر في أيّ الأمرين خير لي حتي أتوكل عليك فيه، فأعمل به.

ثمّ اكتب مصراً إن شاء اللّٰه، ثمّ اكتب في رقعة اخري مثل ذلك ثمّ اكتب اليمن إن شاء اللّٰه. ثمّ اكتب في رقعة اخري مثل ذلك. ثمّ اكتب: يُحبس إن شاء اللّٰه و لا يبعث به إلي بلدة منهما.

ثمّ اجمع الرقاع، فادفعها إلي من يسترها عنك. ثمّ أدخل يدك فخذ رقعة من الثلاث رقاع. فايّها وقعت في يدك، فتوكّل علي اللّٰه، فاعمل بما فيها، إن شاء اللّٰه تعالي» «1».

هذه الرواية يوجد الإشكال في رجال سندها، من ناحيتين:

إحداهما: الرجال الواقعون في أسناد ابن نما و أسعد بن عبد القاهر إلي الحسن بن محبوب؛ حيث لم يذكر ابن طاوس رجال أسنادهما حتي يُعلم حالهم، إلّا أنّ نعتمد علي أسنادهما؛ نظراً إلي اعتماد ابن طاوس علي طريق ابن

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 234- 233.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 346

نما و أسعد، و إلي جلالة قدر ابن نما.

ثانيتهما: من جهة عبد الرحمن بن سيابة، و الأقوي اعتبار رواياته؛ لما ورد

في بعض النصوص من إعطاء أبي عبد اللّه عليه السلام إليه أموالًا ليقسّمه في عيالات زيد بن علي، و لنقل الأجلّاء و أصحاب الاجماع عنه، كابن أبي عمير و نحوه.

و إن وقع الرجل نفسه في سند الرواية المزبورة، مع عدم حجية نقل أصحاب الاجماع علي وثاقة من رووا عنه، إلّا أنّ ذلك مع كثرة روايات الرجل و عدم ورود قدح فيه، يكشف الجميع من حيث المجموع عن الاعتماد علي رواياته.

و من هنا قال المحدّث المجلسي: «و سنده لا يقصر عن عمل المشهور في الرقاع، فانّ ابن سيابة عندي من الممدوحين الذين اعتمد الأصحاب علي أخبارهم» «1».

فلا يبعد جواز الاعتماد علي سند هذه الرواية، لا لإثبات وثاقة رجال أسناد ابن نما و أسعد بالتوثيق الخاص أو العام، بل لحصول الوثوق بروايتهم لأجل ما قلناه من جلالتهما و مشاهدة ابن طاوس أسنادهما و اعتماده، بل ظاهر كلام المجلسي كون اعتبار أسنادهما مفروغاً عنه؛ لدلالة اقتصاره علي نفي شائبة الضعف عن ابن سيّابة علي أنّه لم يري شائبة الضعف في أسناد ابن نما و أسعد.

هذا من جهة السند.

و أما من جهة الدلالة، فواضحة؛ لأنّه و إن لم يُصرَّح فيها بلفظ الاستخارة و لا مادّتها، بل أمر فيها الامام عليه السلام بالمساهمة، إلّا أنّ تحيُّر السائل في اختيار أيّ الأمرين و إراءة الامام إيّاه الطريق إلي ما هو خيرٌ له عند اللّٰه، لا يلائم إلّا

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 234.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 347

الاستخارة، و لا سيّما أنّ كيفية المساهمة التي بيَّنها الامام عليه السلام في جواب السائل، إنّما تطابق الاستخارة بالرقاع، كما ورد في خبر هارون. فلا إشكال في دلالتها علي المطلوب.

و

منها: ما رواه ابن طاوس عن أحمد بن محمد بن يحيي عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث، قال: «إذا عزمت علي السفر أو حاجة مهمة فأكثر من الدعاء و الاستخارة، فان أبي حدّثني عن أبيه، عن جده أنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله كان يعلّم أصحابه الاستخارة، كما يعلّمهم السورة من القرآن و إنّا نعمل بذلك متي هممنا بأمر و نتّخذ رقاعاً للاستخارة، فما خرج لنا عملنا عليه، أحببنا ذلك أو كرهنا.

فقال يا مولاي فعلّمني كيف أعمل؟ فقال عليه السلام: إذا أردت ذلك فأسبغ الوضوء، و صلّ ركعتين، تقرأ في كلّ ركعة الحمد و قل هو اللّٰه أحد مائة مرّة، فاذا سلّمت فارفع يديك بالدعاء و قل في دعائك: يا كاشف الكرب و مفرّج الهمّ، و ذكر دعاء- إلي أن قال- و أكثر الصلاة علي محمد و آل محمد عليهم السلام.

و يكون معك ثلاث رقاع قد اتّخذتها في قدر واحد و هيئة واحدة، و اكتب في رقعتين منها: اللّهم فاطر السموات و الأرض، عالم الغيب و الشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اللّهم إنّك تعلم و لا أعلم و تقدر و لا أقدر، و تمضي و لا أمضي، و أنت علّام الغيوب، صلّ علي محمّد و آل محمّد صلي الله عليه و آله، و أخرج لي أحب السّهمين إليك و خيرهما لي في ديني و دنياي و عاقبة أمري إنّك علي كلّ شي ءٍ قدير و هو عليك يسير.

و تكتب في ظهر إحدي الرقعتين: افعل، و علي ظهر الاخري: لا تفعل.

و تكتب علي الرقعة الثالثة: لا حول و لا قوة إلّا باللّٰه العلي العظيم. استعنتُ باللّٰه و توكّلت علي

اللّٰه و هو حسبي و نعم الوكيل. توكّلت في جميع اموري علي اللّٰه الحي الذي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 348

لا يموت، و اعتصمت بذي العزّة و الجبروت، و تحصّنت بذي الحول و الطول و الملكوت، و سلام علي المرسلين و الحمد للّٰه رب العالمين، صلي اللّٰه علي محمد النبي و آله الطاهرين عليهم السلام.

ثمّ تترك ظهر الرقعة أبيض و لا تكتب عليه شيئاً و تطوي الثلاث رقاء طيّاً شديداً علي صورة واحدة، و تجعل في ثلاث بنادق شمع أو طين علي هيئة واحدة و وزن واحد.

و ادفعها علي من تثق به، و تأمره أن يذكر اللّٰه و يصلّي علي محمد و آله، و يطرحها إلي كمّه، و يدخل يده اليمني فيجيلها في كمّه، و يأخذ منها واحدة من غير أن ينظر إلي شي ء من البنادق، و لا يعتمد واحدةً بعينها، و لكن أيّ واحدة وقعت عليها يده من الثلاث، أخرجها.

فاذا أخرجها أخذتها منه، و أنت تذكر اللّٰه و تسأله الخيرة فيما خرج لك، ثمّ فضها و اقرأها و اعمل بما يخرج علي ظهرها.

و إن لم يحضرك من تثق به طرحتها أنت إلي كُمّك و أجلتها بيدك و فعلت كما وصفته لك، فان كان علي ظهرها افعل فافعل و امض لما أردت، فانّه يكون لك فيه إذا فعلته الخيرة إن شاء اللّٰه. و إن كان علي ظهرها لا تفعل فاياك أن تفعله أو تخالف. إن خالفت لقيت عنتا. و إنّ ثَمَّ لم يكن لك فيه الخيرة. و إن خرجت الرقعة التي لم تكتب علي ظهرها شيئاً، فتوقف إلي أن تحضر صلاة مفروضة ثمّ قم فصلّ ركعتين كما وصفت لك ثمّ صل الصلاة

المفروضة أو صلّهما بعد الفرض ما لم تكن الفجر أو العصر، فاما الفجر فعليك بالدعاء بعدها إلي أن تنبسط الشمس، ثمّ صلّهما، و أما العصر فصلّهما قبلها، ثمّ ادع اللّٰه بالخيرة كما ذكرت لك، ثمّ و أعد الرقاع و اعمل بحسب ما يخرج لك.

و كلّما خرجت الرقعة التي ليس فيها شي ء مكتوب علي ظهرها، فتوقف إلي صلاة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 349

مكتوبة كما أمرتك إلي أن يخرج ما تعمل عليه إن شاء اللّٰه» «1».

هذه الرواية أيضاً ضعيفة بالتعليق فانّها رواية معلّقة. و هي في اصطلاح علم الحديث ما حُذف في مبدأ أسناده راوٍ واحدٌ أو أكثر، و قد حُذفت الواسطة بين ابن طاوس و بن أحمد بين محمد بن يحيي، كما أنّها مرسل؛ نظراً إلي حذف الواسطة بن أحمد بن محمد بن يحيي العطار القمي- الذي هو من مشايخ الصدوق و بين جعفر بن محمد بن الصادق عليه السلام- و قد بيّنا الضابطة في اتصاف الحديث بالمعلق و المنقطع و المرسل في كتابنا: «مقياس الرواية». «2»

و منها: مرفوعة علي بن محمد. رفعها: «عنهم عليهم السلام أنّه عليه السلام قال لبعض أصحابه عن الأمر يمضي فيه و لا يجد أحداً يشاوره، فكيف يصنع؟ قال عليه السلام: شاور ربّك، فقال له:

كيف؟ قال عليه السلام: انو الحاجة في نفسك ثمّ اكتب رقعتين في واحدة: لا، في واحدة نعم، و اجعلهما في بندقين من طين، ثمّ اكتب رقعتين؛ في واحدة: لا، و في واحدة نعم، و اجعلهما في بندقين من طين، ثمّ صلّ ركعتين و اجعلهما تحت ذيلك و قل: يا اللّٰه إنّي اشاورك في أمري هذا و أنت خير مستشار و مشير، فأشر علي

بما فيه صلاح و حسن عاقبة. ثمّ ادخل يدك. فان كان فيها نعم، فافعل. و إن كان فيها لا، لا تفعل. هكذا شاور ربّك» «3».

و لا يخفي أنّ هاتين الروايتين المزبورتين- أعني المرفوعة و المعلّقة- قد جُمع فيهما بين الاستخارة بالاستشارة، و بين الاستخارة بالبنادق و يدل علي الاستخارة بهما معاً. و علي أيّ حال لا يخفي ضعف سندهما بالتعليق و الارسال و الرفع.

______________________________

(1) المصدر: ح 3.

(2) مقياس الرواية: ص 81- 80.

(3) المصدر: ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 350

و هاهنا روايات اخري تدل علي ذلك رواها ابن طاوس في كتاب الاستخارات و ذكر بعضها في الوسائل «1».

هذه الروايات و إن كانت بآحادها ضعيفةً، و لكن يمكن الاعتماد علي مجموعها؛ نظراً إلي كثرتها و استفاضتها، بل تظافرها، كما يمكن دعوي الشهرة الروائية لأجل ذلك و يمكن دعوي انجبار ضعفها بعمل المشهور من القدماء، كما عرفت من المحدّث المجلسي التصريح بهذه الشهرة؛ حيث لم يُسمع المخالفة من غير ابن ادريس.

و العمدة في اعتبارها عمل مشهور الفقهاء بهذه النصوص. و سيأتي إثبات ذلك في البحث عن مدرك الاستخارة.

الاستخارة بافتتاح المصحف

الطائفة الثالثة: ما دلّ من النصوص علي المعني المزبور من الاستخارة- و هو طلب التعرف و الاستطلاع علي ما هو الخير واقعاً و خِيَرة في عافية- بافتتاح المصحف.

فمن هذه النصوص:

ما رواه الشيخ باسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن أبيه، عن الحسن بن الجهم، عن أبي عليّ عن اليسع القمي:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام اريد الشي ءَ فأستخير اللّٰه فيه، فلا يوفَّق فيه الرأي، أفعله أو أدعه.

فقال عليه السلام: انظر إذا قمت إلي الصلاة- فان الشيطان

أبعد ما يكون من الانسان إذا قام إلي الصلاة- أيّ شي ء يقع في قلبك، فخذ به. و افتتح المصحف، فانظر إلي أوّل ما تري فيه،

______________________________

(1) المصدر: ح 1- 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 351

فخذ به إن شاء اللّٰه» «1».

يقع الكلام تارة: في سند هذه الرواية، و اخري في دلالتها.

أمّا سنداً: فهي ضعيفة؛ للجهل بحال اليسع القميّ؛ حيث لم يوثّقه أحدٌ، و ليس من معاريف الرواة، و لا من مشاهيرهم حتي يستكشف من عدم ورود القدح فيه وثاقته.

و كذا أبو علي الواقع في سندها الراوي عن اليسع، و استظهر السيد الخوئي كونه أبا علي الخزاز. و هو مجهول لم يعرف بقدح و لا مدح. و قليل الرواية.

و يحتمل كونه أبا علي بن راشد. و هو متردد بين الطفاوي الضعيف الذي كان من أصحاب الرضا عليه السلام، و بين البغدادي الثقة الذي كان من أصحاب الجواد عليه السلام. و علي أيّ حال لا يمكن إثبات وثاقة أبي علي الواقع في سند هذه الرواية.

و أما دلالةً: فيقع الكلام في مواضع من متنها.

الأوّل: قول السائل: «فأستخير اللّٰه، فلا يوفّق فيه الرأي».

و الكلام في هذه الفقرة وقع في شبهة. و هي أنّه كيف يمكن عدم التوفيق في الرأي و بقاءُ التردد و الحيرة علي حالها بعد الاستخارة، مع أنّ الاستخارة موضوعة لرفع التحيّر؟!

و الجواب: أنّ قوله «فلا يوفّق فيه الرأي» قرينة علي أنّ الاستخارة في هذه

______________________________

(1) الوسائل: ب 6، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 352

الفقرة بمعني مجرّد الدعاءِ أو الدعاء و الصلاة؛ أي أدعو و أطلب الخير و أستدعي الجزم من اللّٰه تعالي بالدعاء، فلا يوفق فيه

الرأي. و يفهم منه أنّ الذي يرتفع به التحير قطعاً هو الاستخارة بالمصحف أو الرقاع أو السبحة. و من هنا أمره الامام عليه السلام في الجواب أن يستخير بافتتاح المصحف.

و قد أشار الفقيه المدقق الشيخ ميرزا الكلباسي إلي هذه الشبهة و الجواب عنها بقوله: «و ربما يتراءي بادي الرأي أنّ الأمر باعادة الاستخارة، ينافي كون الفرض عدم مساعدة الرأي؛ لاتّحاد مورد الاستخارة.

لكنه يمكن أن يقال: إنّ الظاهر أنّ الأمر باعادة الاستخارة، إنّما هو للاعادة بطريق مخصوص، لكون الاستخارة عند القيام إلي الصلاة لكونه أبعد الأزمنة بالنسبة إلي مخاطرة الشيطان.

فلعلّ- عدم توفيق الرأي أوّلًا كان بملاحظة مخاطرة الشيطان، ففي إعادة الاستخارة عند القيام إلي الصلاة لا تتأتّي المخاطرة و يوفَّق فيه الرأي؛ لما يحكم به الاستخارة» «1».

الثاني: لفظ الواو، في قوله «و افتتح المصحف … »؛ حيث يحتمل كونه للعطف فالمقصود حينئذٍ الأخذ بما يقع في القلب، و بأوّل آية تُري بعد افتتاح المصحف. و قد رجّح هذا الاحتمال الشيخ الفقيه ميرزا ابو المعالي الكلباسي «2».

و يحتمل كون الواو للتخيير. فالمراد حينئذٍ إراءة طريقين لرفع التحيُّر فلو ارتفع بالطريق الأوّل، ينتفي الثاني؛ لانتفاء موضوعه. و الطريق الأوّل الذي بيّنه الامام عليه السلام في البداية هو الأخذ بما يخطر بالبال و يقع في القلب حين القيام للصلاة؛ معلّلًا بأنّ الشيطان أبعد من الانسان في هذه الحالة.

______________________________

(1) رسالة الاستخارة من القرآن المجيد/ للفقيه المحقق ميرزا الكلباسي طبع مؤسسة الامام المهدي عج: ص 44- 43.

(2) المصدر: ص 44.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 353

ثمّ بيّن طريقاً مستقلًا آخر لرفع التحيّر و طلب الخير، و هو افتتاح المصحف و الأخذ بأوّل ما يُري فيه من الآية.

و قد

استظهر المحدّث المجلسي ذلك؛ حيث قال: «و الظاهر أنّ الواو في قوله: و افتح المصحف بمعني أو، كما لا يخفي علي المتأمّل». «1»

و يظهر ذلك من المحدث الكاشاني «2»، و أيضاً من السيد محمد جواد العاملي في مفتاح الكرامة؛ حيث قال: «و خيّره في ذلك بين طريقين». «3»

الثالث: في بيان المراد من قوله: «أوّل ما تري فيه». فوقع الكلام في أنّ المراد منه، أوّل ما يُري فيه من الآيات، أو مطلق ما يُري في أوّل الصفحة و لو كان وسط الآية.

يظهر من صاحب الجواهر ترجيح الثاني؛ حيث إنّه- بعد ذكر الخبر المزبور- قال: «لكن هل المراد بأوّل ما تري فيه من الآيات أو الصفحة؟ وجهان، حقيقة اللفظ تقتضي الثاني، و المناسب لتعرف الاستخارة الأول، و هو الذي اختاره بعض مشايخنا مدعياً أنه صريح الخبر المزبور، و ناقلًا له عن تصريح البعض، إلّا أن الخبر كما سمعت، و لم نعثر علي ذلك البعض». «4»

قوله: «حقيقة اللفظ تقتضي الثاني»، توضيحه: أنّ لفظ «تري» أصله الرؤية بالعين الباصرة. و قد وضع لهذا المعنا. و مقتضي أصالة تطابق المراد الجدي مع المدلول الوضعي الاستعمالي كون المدلول الوضعي الاستعمالي هو المراد الجدي التصديقي، و يتعيّن فيه ظاهر الكلام.

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 244.

(2) الوافي/ طبع مكتبة الامام أمير المؤمنين: ج 5، ص 146، ح 15.

(3) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 275.

(4) جواهر الكلام: ج 12، ص 170.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 354

و عليه فظاهر قوله عليه السلام: «أوّل ما تري فيه» أنّ أوّل ما تري في المصحف من لفظ القرآن المُفهم للمعني، فخُذ بمضمونه. و ليس المقصود أوّل آية؛ لأنّه أخصّ من أوّل ما يُري

في المصحف، و هو أوّل لفظ و جملة من الصفحة اليُمني.

كما أنّه ليس المراد: أوّل ما يخطر ببالك و استقرّ عليه رأيك من الآية المرئية في أوّل الصحفة؛ لأنّه من الرأي، لا الرُّؤية.

و يظهر من المحدّث الكاشاني ترجيح الأوّل؛ حيث قال: «و معني أوّل ما تري فيه أوّل ما يقع نظرك عليه من الآيات، لا أوّل ما في الصفحة». «1»

و قد نقل في المفتاح كلام المحدث الكاشاني بنصّ عبارته و أشار إلي قائله بقوله: «كما نصّ علي ذلك بعضهم». «2»

و يتضح من ذلك أنّ ما جاءَ في كلام صاحب الجواهر من عدم العثور علي ذلك البعض، خلاف التحقيق؛ فانّ ذلك البعض هو المحدّث الكاشاني.

و ممن اختار الوجه الثاني المحدث المجلسي؛ حيث قال: «و أوّل ما تري فيه، لعلّ المراد به أوّل الصفحة اليمني، لوقوع النظر غالباً عليه ابتداء، و يؤيّده أنّ أصل الاستخارة بالمصحف بهذا النحو، الرواية السابقة، و الذي مرّ في أول الباب، و في كتاب الغايات «فانظر ما تري فخذ به». «3»

و لا يخفي أنّ هذه الرواية في كتاب الغايات أيضاً رويت بنفس الطريق المزبور.

______________________________

(1) الوافي/ طبع مكتبة الامام أمير المؤمنين، اصفهان: ج 9، ص 1416.

(2) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 274.

(3) بحار الانوار: ج 88، ص 244.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 355

مقتضي التحقيق

مقتضي التحقيق: أنّ الواو في الرواية بمعني التخيير وفاقاً للأكثر. و ذلك بقرينة السياق، و لإطلاق الأمر بالأخذ في كل واحد من الفقرتين في صدر الرواية و ذيلها. و المقصود من الأخذ العمل بمؤدّي الاستخارة و ترتيب الأثر عليها.

و إنّ قوله عليه السلام: «أوّل ما تري فيه» بمعني أوّل الصفحة. و ذلك لأنه الظاهر من أوّل

ما يُري في الصفحة، و إلّا كان الأنسب أن يقول: أوّل آية تري فيه. و هذا لبُّ مراد من جعل هذا التفسير مقتضي لفظ التعبير المزبور.

و علي أيّ حال سند هذه الرواية و إن كانت ضعيفة، إلّا أنّه يمكن دعوي انجبار ضعفها بعمل مشهور الفقهاء، أو بقا عدة التسامح في أدلّة السنن.

و سيأتي تفصيل البحث عن ذلك في مدرك الاستخارة.

هل المدار علي المتبادر من لفظ الآية أو مدلول السياق؟

اشارة

وقع الكلام في أنّه هل المدار في تعيين مؤدّي الاستخارة علي ما يتبادر من لفظ الآية المرئية في أوّل الصحفة، بمدلوله الوضعي المطابقي، أو علي مدلول سياقها الثابت بقرينة المقام؟

قال في المفتاح: «و لعلّ المدار علي ما يتبادر من لفظ الآية، و لا عبرة بالمقام و السوق، فلو أنّه وقع نظره علي قوله عز و جل: إنّك أنت الحليم الرشيد كما وقع لبعض؛ حيث استخار علي المهاجرة لطلب العلم، فوقع نظره علي هذه الآية الكريمة، فهاجر، فوفِّق لما أراد و بلغ المراد. قلنا له استخارتك حسنة جيدة، و لا نعتبر المقام؛ لأنّه كان مقام استهزاءٍ فنقول هي غير جيدة، لكن ملاحظة المقام

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 356

إنما هي للعارف الخرّيت الماهر، فانه إذا لاحظها ظهر له من ذلك الأسرار الغريبة». «1»

و قد أشار إليه في الجواهر «2» بقوله: «و قد يقال: إنّه لمّا لم يعلم المراد بالأوّل في الخبر المزبور الآيات أو الكلمات. و علي الأوّل، فهل المدار علي أوّل آية في صفحة النظر، أو علي أوّل الآية من الصفحة السابقة علي صفحة النظر؛ إذ الفرض كون محل النظر بعض الآية في هذه الصفحة و البعض الآخر في الصفحة السابقة. و لم يعلم أيضاً اعتبار المقام و السوق و عدمه. و

لم نقف علي خبر غير الخبر المزبور، كان المتجه الاقتصار في الجيدة و الردية علي الجامعة لجميع ذلك، و إلّا جدد الاستخارة به بعد التوسل و الدعاء في أن يريه اللّٰه رشده صريحاً، لأنّه لم يوفق له في الرأي في الاستخارة الاولي». «3»

و لكنه اختار ما سبق منه آنفاً. و يظهر من الشيخ ميرزا الكلباسي اعتبار السياق؛ حيث إنّه- بعد ما نقل القولين- قال:

«يمكن القول بالأوّل؛ نظراً إلي أنّ الظاهر من قوله عليه السلام: فانظر أول ما تري- في الخبر المتقدم-. كون المدار علي ما تقتضيه الآية بنفسها، إلّا أن يقال: إنّ قوله عليه السلام: فانظر أول ما تري، و إن كان ظاهراً في مدلول الآية بنفسها، لكنه وارد مورد الغالب. فينبغي مراعاة السياق». «4»

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 275.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 170.

(3) المصدر.

(4) رسالة الاستخارة للكلباسي/ طبع مؤسسة الامام المهدي: ص 48.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 357

بيان مقتضي التحقيق

مقتضي التحقيق: أنّ الاعتبار بظاهر لفظ الجملة المرئية في أوّل الصفحة. نعم يعتبر كون الجملة تامّة يصح السكوت عليها.

و ذلك لأنّ مناسبة المقام تقتضي كون أوّل ما يراه المستخير من لفظ القرآن مفيداً لمعني تامٍّ يهدي المستخير إلي الفعل أو الترك؛ بأن يكون متضمناً للدعوة و الأمر أو الزجر و النهي، و لو بتوصيف نعمة أو كمال أو مدح أو الوعد بثواب أو الوعيد بعذاب أو ذمّ و تقبيح. و عليه فلو كان بعضها في الصفحة السابقة، لا بد من ملاحظتها و يكون داخلًا في الجملة المرئية في أوّل الصفحة.

و لا عبرة بالسياق. و ذلك لأنه لا معني لملاحظة السياق، بعد ما كان المدار علي مفاد ما يُري في

أوّل الصفحة من لفظ الآية حسب ما يقتضيه التبادر، و لأنّ المتبادر أوّلًا من اللفظ المرئي هو المدلول المطابقي الوضعي المطابق للمدلول الجدي بمقتضي أصالة الحقيقة، إلّا بقرينة صارفة توجب الظهور في الخلاف، و علي أيّ حال فالمتّبع ظهور الجملة المرئية في أوّل الصفحة اليمنيٰ، في نفسها، مع قطع النظر عن ما قبلها من فقرات الآية. و ذلك لصدق قوله عليه السلام: «أوّل ما تري» عليه، فلا وجه للعدول عنه. العبرة بمدلول لفظ الجملة المرئية في أوّل الصفحة اليُمني؛ لأنّها قبل اليُسري في ترتيب الصفحات، و لأنّها أوّل ما يقع النظر عليه غالباً افتتاح المصحف.

ثمّ إنّ هاهنا أقوالًا و تفاصيل اخري في تعيين المراد و بيان مفاد فقرات الحديث المزبور، لا حاجة إلي الاطناب بذكرها بعد اتضاح المراد بما بينّاه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 358

و قد نقل في البحار «1» رواية اليسع القمي عن كتاب الغايات لجعفر القمي. و في متنها اختلاف يسير غير مضرّ بالمقصود. و لكن في كلا الطريقين وقع اليسع القمي، فعلي أيّ حالٍ فهي ضعيفة، إلّا أن ينجبر ضعفها بعمل المشهور أو بقاعدة التسامح، و سيأتي تحقيق ذلك في البحث عن مدرك الاستخارة.

تحقيق روايات الاستخارة بالقرآن بعدّ سبعة أوراق

و قد روي الأصحاب في المقام روايات اخر دلّت علي مشروعية الاستخارة بافتتاح المصحف و عدّ سبعة أوراق منه، ثمّ عدّ ستة أو عشرة أسطر، و الأخذ بمضمون السطر الأخير.

فمن هذه الروايات ما رواه المحدّث المجلسي بقوله:

«و وجدت بخطّ جدّ شيخنا البهائي الشيخ شمس الدين محمد بن علي بن الحسن الجباعي قدس اللّٰه أرواحهم، نقلًا من خط الشهيد نور اللّٰه ضريحه، نقلًا من خط محمد بن أحمد بن الحسين بن علي بن زياد، قال

أخبرنا الشيخ الأوحد محمد بن الحسن الطوسي إجازة عن الحسين بن عبيد اللّٰه، عن أبي محمد هارون بن موسي التلعكبري، عن محمد بن همام بن سهيل، عن محمد بن جعفر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 88، ص 243.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 359

المؤدب، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن عثمان بن عيسي عن سيف عن المفضل بن عمر قال:

«بينما نحن عند أبي عبد اللّه عليه السلام إذا تذاكرنا أم الكتاب فقال رجل من القوم:

جعلني اللّٰه فداك إنّا ربما هممنا بالحاجة، فنتناول المصحف فنتفكر في الحاجة التي نريدها، ثمّ نفتح في أوّل الوقت فنستدل بذلك علي حاجتنا.

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: و تحسنون؟ و اللّٰه ما تحسنون.

قلت: جعلت فداك و كيف نصنع؟

قال عليه السلام: إذا كان لأحدكم حاجة و همَّ بها فليصلِّ صلاة جعفر، و ليدع بدعائها، فاذا فرغ من ذلك فليأخذ المصحف ثمّ ينو فرج آل محمد بدءاً و عوداً. ثمّ يقول: اللّهم إن كان في قضائك و قدرك أن تفرّج عن وليك و حجّتك في خلقك في عامنا هذا أو في شهرنا هذا، فأخرج لنا آية من كتابك نستدل بها علي ذلك.

ثمّ يعدّ سبع ورقات و يعد عشرة أسطر من خلف الورقة السابعة و ينظر ما يأتيه في الأحد عشر من السُّطور، فانّه يبيّن لك حاجتك، ثمّ تعيد الفعل ثانيةً لنفسك». «1»

يقع الكلام تارة: في سند هذه الرواية، و اخري: في دلالتها.

و أما سندها، فقد تحمّلها المحدث المجلسي بطريق الوجادة عن جد الشيخ البهائي، و إنّه تحمّلها أيضاً بالوجادة عن الشهيد و هو عن محمد بن أحمد.

و لا إشكال في مشروعية تحمل الحديث بالوجادة، إذا ثبت الكتاب أو الأصل

أو الخط الذي وجده المتحمّل بحجّة معتبرة أو تيقن بيقين قطعي أنّه خطّ فلان، بلا فرق بين كون الشيخ حيّاً أو ميّتاً. و ينبغي حمل وجادة مثل جدّ الشيخ البهائي و الشهيد علي ذلك. و قد بحثنا عن تحمّل الحديث بالوجادة و ساير طرق تحمّل الحديث في كتابنا «مقياس الرواية»، فراجع. «2»

ثمّ أخبر محمد بن أحمد بن الحسين عن الشيخ الطوسي بالسماع و أخبره الشيخ عن الغضائري بالاجازة و روي الغضائري عمّن قبله إلي أبي عبد اللّه عليه السلام

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 245.

(2) مقياس الرواية في علم الدراية: ص 22.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 360

بالسماع.

و لا إشكال في رجال هذه الرواية، إلّا محمّد بن أحمد بن الحسين بن علي بن زياد؛ حيث لم أظفر علي اسمه في كتب الرجال، و لكن يُعلم من ظاهر كلام الشهيد أنّ الرجل كان من المشايخ الثقات، بل من أعاظم اصحابنا الامامية، و إلّا لم يكن مثل الشهيد هذا الفقيه الفحل الورع يعتن بخطه، و لا سيّما أنّه كان في مقام الفتويٰ بمضمونه، لا مجرّد نقل الرواية.

و عليه فالاشكال بأنّ أخذ الشهيد رواية الرجل و البناء علي حجيتهما، ليس شهادة منه بوثاقته يمكن دفعه بأنّه يحصل الوثوق النوعي بكون الرجل من الأعاظم، و إلّا لم يكن خطّه عند الشهيد بمكان من الخطورة و الأهمية بحيث يجعله مصدراً لفتواه. اللّهم إلّا أن يقال: لعلّه مبنيٌّ عنده علي التسامح في أدلّة السنن كما بني علي ذلك الشهيد في درايته. و قد نقلنا كلامه في كتابنا «مقياس الرواية». و سيأتي تمام الكلام في ذلك عند البحث عن مدرك الاستخارة.

فالأقوي اعتبار سند الرواية المزبورة؛ نظراً إلي نقلها بطرق

عديدة و اعتمادهم علي ما وجدوه، من خط محمد بن أحمد بن الحسين، مع كون ساير رجال الخبر من الثقات و الأجلّاء.

هذا مضافاً إلي اعتضاد هذه الرواية بما رواها السيد بن طاوس في كتاب فتح الأبواب قال:

«وجدت في بعض كتب أصحابنا: «صفة القرعة في المصحف يصلي صلاة جعفر، فاذا فرغ منها دعا بدعائها ثمّ يأخذ المصحف ثمّ ينوي فرج آل محمد بدءاً و عوداً، ثمّ يقول: اللهم إن كان في قضائك و قدرك أن تفرّج عن وليّك و حجّتك في خلقك … فأخرج لنا رأس آية من كتابك نستدل بها علي ذلك، ثمّ يعد سبع

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 361

ورقات و يعد عشرة أسطر من ظهر الورقة السابعة، و ينظر ما يأتيه في الحادي عشر من السّطور، ثمّ يعيد الفعل ثانياً لنفسه فانّه يبيّن حاجته إن شاء اللّٰه تعالي». «1»

و أيضاً قد روي نظيرها الطبرسي في مكارم الأخلاق. «2»

و ظاهره الأخذ بمضمون السطر الحادي عشر من خلف الورقة السابعة.

و قوله: «ثمّ تعيد الفعل ثانية لنفسك»، لعلّ المراد به إعادة الدعاء المذكورة في صدر الرواية.

و قوله: «و ليدع بدعائها» أي دعاء صلاة جعفر الطيار. و ظاهر قوله عليه السلام: «بدءاً و عوداً» الأمر باعادة الدعاء بعد الاستخارة، كما في شروعها.

قال المحدث المجلسي: «لعلّ المعني في الحال و في الرجعة أو ينوي ذلك مكرراً». «3» و هذا مؤيّد لما فسّرنا به قوله: «تعيد الفعل ثانية … ». فكأنّ إعادة الدعاءِ لنفسه يكون شكراً لهداية اللّٰه و إراءته ما هو خيرٌ له و إظهار الرضا بقضائه و قدره، لا لمجرّد طمع النيل إلي قضاء حاجته، كما هو الداعي إلي الدعاءِ قبل الاستخارة.

و من نصوص

الاستخارة بالقرآن ما رواه في البحار مرسلًا بقوله: «روي عن الصادق عليه السلام قال: «إذا أردت الاستخارة من الكتاب العزيز، فقل بعد البسملة:

إن كان في قضائك و قدرك أن تمن علي شيعة آل محمد بفرج وليّك و حجّتك علي خلقك فأخرج إلينا آية من كتابك نستدل بها علي ذلك ثمّ تفتح المصحف و

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 88، ص 241.

(2) مكارم الاخلاق: ص 373 و بحار الانوار: ج 88، ص 241.

(3) بحار الانوار: ج 88، ص 241.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 362

تعد ست ورقات و من السابعة ستة أسطر و تنظر ما فيه». «1»

و ما رواه بقوله: «و روي لي بعض الثقات عن الشيخ الفاضل الشيخ جعفر البحريني رحمة اللّٰه أنّه رأي في بعض مؤلفات أصحابنا الامامية أنّه روي مرسلًا عن الصادق عليه السلام قال: ما لأحدكم إذا ضاق بالأمر ذرعاً أن يتناول المصحف بيده عازماً علي أمر يقتضيه من عند اللّٰه، ثمّ يقرأ فاتحة الكتاب ثلاثاً و الاخلاص ثلاثاً و آية الكرسي ثلاثاً و عنه مفاتح الغيب ثلاثاً و القدر ثلاثاً و الجحد ثلاثاً و المعوذتين ثلاثاً ثلاثاً و يتوجه بالقرآن قائلًا اللهم إنّي أتوجه إليك بالقرآن العظيم من فاتحته إلي خاتمته، و فيه اسمك الأكبر و كلماتك التامات يا سامع كل صوت و يا جامع كل فوت و يا باري النفوس بعد الموت يا من لا تغشاه الظلمات و لا تشتبه عليه الأصوات، أسألك أن تخير لي بما أشكل عليّ به، فانك عالم بكل معلوم غير معلّم بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين و علي بن الحسين و محمد الباقر و جعفر الصادق و موسي الكاظم

و علي الرضا و محمد الجواد و علي الهادي و الحسن العسكري و الخلف الحجة من آل محمد عليه و عليهم السلام.

ثمّ تفتح المصحف و تعد الجلالات التي في الصفحة اليمني، ثمّ تعد بقدرها أوراقاً، ثمّ تعد بعددها أسطراً من الصفحة اليسري، ثمّ تنظر آخر سطر تجده كالوحي فيما تريد إن شاء اللّٰه تعالي». «2» و لكن لا يخفي ضعف هاتين الروايتين بالارسال.

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 246.

(2) المصدر: ص 244- 245.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 363

تحقيق في نصوص التفؤُّل بالقرآن

اشارة

وردت عدة نصوص في التفؤُّل بالقرآن، فدلّ بعضها علي جوازه و بعضها علي عدم جوازه. و ينبغي قبل الخوض في البحث التنبيه علي أنّ الأصح التفؤُّل علي وزن التفعُّل، لا التفاؤل من باب التفاعل؛ لأنّه بين اثنين و لا يناسب المقصود في المقام.

أما ما دلّ منها علي جوازه:

فمنها ما رواه السيد بن طاوس في فتح الأبواب، قال: «حدّثني بدر بن يعقوب الأعجمي رضوان اللّٰه عليه بمشهد الكاظم عليه السلام في صفة الفال في المصحف بثلاث روايات من غير صلاة، فقال: تأخذ المصحف و تدعو بما معناه فتقول: اللهم إن كان في قضائك و قدرك أن تمنّ علي امّة نبيّك بظهور وليك و ابن بنت نبيّك فعجّل ذلك و سهّله و يسّره و تحمّله و أخرج لي آية أستدل بها علي أمر فآتمر أو نهي فأنتهي، أو ما تريد الفأل فيه، في عافية. ثمّ تعد سبع أوراق ثمّ تعد في الوجهة الثانية من الورقة السابعة ستة أسطر و تفأل بما يكون في السطر السابع.

و قال: في رواية اخري: إنّه يدعو بالدعاء، ثمّ يفتح المصحف الشريف، و يعدُّ سبع قوائم، و يعدّ ما في الوجهة

الثانية من الورقة السابعة، و ما في الوجهة الأوّلة من الورقة الثامنة من لفظ اسم اللّٰه، جلّ جلاله، ثمّ يعد قوائم بعدد اسم اللّٰه ثمّ يعد من الوجهة الثانية من القائمة التي ينتهي العدد إليها، و من غيرها مما يأتي بعددها سطوراً بعدد اسم اللّٰه جل جلاله، و يتفأل بآخر سطر من ذلك.

و قال في الرواية الثالثة: إنّه إذا دعا بالدعاء عدّ ثماني قوايم ثمّ يعدّ في الوجهة الاولي من الورقة الثامنة أحد عشر سطراً، و يتفأل بما في السطر

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 364

الحادي عشر، و هذا ما سمعناه في الفأل بالمصحف الشريف قد نقلناه كما حكيناه». «1»

و منها: ما رواه السيد في الكتاب المزبور بقوله: «ذكر الشيخ الامام الخطيب المستغفري بسمرقند في دعواته: إذا أردت أن تتفأل بكتاب اللّٰه عز و جل، فاقرأ سورة الاخلاص ثلاث مرات ثمّ صلّ علي النبي و آله ثلاثاً، ثمّ قل: اللهم تفألت بكتابك، و توكّلت عليك، فأرني من كتابك ما هو مكتوم من سرّك المكنون في غيبك، ثمّ افتح الجامع و خذ الفال من الخط الأوّل في الجانب الأوّل، من غير أن تعدّ الأوراق و الخطوط، كذا اورد مسنداً إلي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله». «2»

لا إشكال في دلالة هذه النصوص علي جواز التفؤّل بالقرآن، إلّا أنّ كلها ضعاف في السند، كما تري.

و لكن روي الكليني في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن عيسي عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا تتفأل بالقرآن». «3»

هذه الرواية قد دلّت بظاهرها علي عدم جواز التفؤّل بالقرآن و حملها في الوسائل علي الكراهة. و الوجه

فيه ما دل من النصوص علي جواز ذلك أو عدم التزام الأصحاب بالحرمة.

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 242، ح 4.

(2) المصدر: ص 241، ح 1.

(3) الكافي: ج 2، ص 629 و الوسائل: ب 38 من أبواب قراءة القرآن ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 365

الجمع بين نصوص المقام

و قال في الوسائل بعد نقل مرسل محمد بن عيسي المزبور:

«أقول: الاستخارة طلب الخيرة و معرفة الخير في ترجيح أحد الفعلين علي الآخر ليعمل به، و التفؤّل معرفة عواقب الأمور و أحوال غائب و نحو ذلك. و يأتي في أحاديث الاستخارة ما يدل علي استحباب الاستخارة بالقرآن». «1»

و قال المحدث المجلسي بعد نقل النصوص المجوّزة المزبورة:

«و لا ينافيه ما رواه الكليني بسند فيه ضعف و إرسال عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: لا تتفأل بالقرآن؛ إذ يمكن أن يكون المراد به النهي عن استنباط وقوع الامور في المستقبل و استخراج الامور المخفية و المغيبة، كما يفعله بعض الناس لا الاستخارة، و إن مرّ إشعار بعض الأخبار بجواز الأوّل أيضاً، و يحتمل أن يكون المعني التفؤّل عند سماع آية أو قراءتها، كما هو دأب العرب في التفؤّل و التّطير بالامور، بل هو المتبادر من لفظ التفؤّل.

و لا يبعد أن يكون السرُّ فيه أنّه يصير سبباً لسوء عقيدتهم في القرآن إن لم يظهر بعده أثره، و هذا الوجه مما خطر بالبال، و هو عندي أظهر، و الأوّل هو المسموع من المشايخ رضوان اللّٰه عليهم». «2»

و قال الفيض- بعد نقل النصوص-:

«فان صحّ الحديثان أمكن التوفيق بينهما بالفرق بين التفؤّل و الاستخارة.

فان التفؤّل إنّما يكون فيما سيقع و يتبيّن الأمر فيه، كشفاء مريض أو موته، و

______________________________

(1) الوسائل: ب

38 من قراءة القرآن ذيل الحديث 2.

(2) بحار: ج 88، ص 244.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 366

وجدان الضالة أو عدمه. و مآله إلي تعجيل تعرّف علم الغيب.

و قد ورد النهي عنه و عن الحكم فيه بتّة لغير أهله و كره التطيّر في مثله، بخلاف الاستخارة؛ فانّه طلب لمعرفة الرشد في الأمر الذي اريد فعله أو تركه و تفويضٌ للأمر إلي اللّٰه سبحانه في التعيين و استشارة إيّاه عزّ و جلّ، كما قال عليه السلام في مرفوعة عليّ بن محمد السّابقة: هكذا تشاور ربّك. و بين الأمرين فرق واضح.

و إنّما منع من التفؤّل بالقرآن و إن جاز بغيره إذا لم يحكم بوقوع الأمر علي البتّ؛ لأنّه إذا تفأّل بغير القرآن، ثمّ تبيّن خلافه فلا بأس. بخلاف ما إذا تفأل بالقرآن ثمّ تبيّن خلافه، فانه يُفضي إلي إساءة الظنّ بالقرآن. و لا يتأتي ذلك في الاستخارة به؛ لبقاء الابهام فيه بعدُ، و إن ظهر السوء؛ لأنّ العبد لا يعرف خيره من شرّه في شي ءٍ. قال اللّٰه تعالي: عسيٰ أن تكرهوا شيئاً و هو خَيرٌ لكم و عسيٰ أن تُحبّوا شيئاً و هو شر لكم و اللّٰه يَعلم و أنتُم لا تعلمون» «1».

نقد كلام المحدث الكاشاني و المحدث المجلسي قدس سرهم

و لكن يرد عليه و علي المحدث المجلسي و غيرهم أنهم قد ذكروا للاستخارة معاني، و ذكروا أنّ معناها الأخير؛ التعرُّف علي ما هو خيرٌ واقعاً في علم اللّٰه. فهل هذا إلّا التعرّف علي ما هو مكتوم في علم اللّٰه المكنون في غيبه، و نحو ذلك من التعابير. الواردة في نصوص التفؤُّل بالقرآن. فهذا الفرق الذي ذكروه ينافي ما فسّروا به المعني الأخير للاستخارة و جعلوا الاستخارة بالمصحف و أخواتها من

طرق التعرّف علي الخير.

______________________________

(1) الوافي: ج 5، ص 1417.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 367

و أمّا ما جاء في كلام الفيض من توجيه النهي عن التفاؤل بالقرآن، إنّما يكون وجيهاً إذا لم يكن المقصود من التفاؤل بالقرآن التعرُّف علي الخير الواقعي المكنون في علم اللّٰه.

و لكن ظاهر النصوص الواردة أنّ ذلك هو المقصود من التفاؤل بالقرآن. و عليه لا يصح ما ذكره من التوجيه للنهي عن التفؤُّل بالقرآن؛ حيث إنّه لا تتوجّه شبهة سوءِ الظن باللّٰه، بعد ما كان المقصود التعرّف علي ما هو خيرٌ واقعاً في علم اللّٰه، مع تفويض الأمر إلي اللّٰه و البناء علي الالتزام و العمل بما أراه اللّٰه و قدّره له ممّا فيه خيره و صلاحه و رشده واقعاً، بلا فرق في ذلك بين الاستخارة و بين التفؤُّل.

نعم إذا كان التفؤُّل لمحض الاستطلاع علي المغيبات و استكشاف المجهولات- من شفاءٍ و موت و وجدان ضالةٍ و تعيين جنس الطفل في الجنين بأنّه ذكر أو انثي- يكون أجنبياً عن موضوع الاستخارة و خارجاً عن نطاق نصوصها و لا دليل علي مشروعيته، بل يدل النهي عنه في مرسل محمد بن عيسي المزبور علي عدم مشروعيته؛ إذ عنوان التفؤّل يشمل هذا المعني أيضاً بلا ريب.

و مقتضي التأمل حمل المرسل علي هذا المعني و النصوص المجوّزة علي المعني الأوّل؛ كما يظهر ذلك من صاحب الوسائل.

و لكن صاحب الجواهر بعد نقل التوجيه المزبور لم يرتض بذلك وجهاً للجمع و الحمل، و أشكل فيه بقوله:

«و فيه أنّه بناءً علي صحة الخبر المزبور يبعد حمله علي ذلك؛ لأنّ التفؤّل إن لم يكن هو أقرب إلي موضوع الاستخارة من تعرُّف علم الغيب فهو بالنسبة

مباني الفقه

الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 368

إليهما علي حد سواء؛ لصدقه علي كل منهما.

نعم يسهل الخطب عدم صحة الخبر المزبور، علي أنه قد يعارضه ما يُحكي عن ابن طاوس في كتاب الاستخارات». «1»

و لكن التوجيه الأخير في كلام المحدث المجلسي للنهي عن التفؤُّل بالقرآن وجيه، كما قوّاه. و هو أن يكون المقصود من التفؤُّل المنهي عنه، التفؤُّل و الطيرة بمجرد سماع آية أو قراءتها، كما كان ذلك دأب العرب و عادتهم في التفؤُّل و التطيُّر بالامور.

و لا ربط لهذا المعني من التفؤُّل بالاستخارة، كما هو واضح، و إنّه أجنبيٌّ عن مفاد النصوص المجوّزة للتفؤُّل المسوقة سياق نصوص الاستخارة. فلا يرد عليه إيراد صاحب الجواهر.

و أما ما أشار إليه الفيض من المحذور، فيأتي في هذا النوع من التفؤّل بالقرآن؛ إذ الخير المتفاَّل و الشرّ المتطيَّر بسماع صوت انسان أو طائر، إنّما هو ما كان خيراً أو شرّاً عند الناس، لا عند اللّٰه. و المحذور المذكور في كلام الفيض إنّما يأتي فيما كان خيراً أو شرّاً عند الناس.

إن قلت: توجيه المحدث المجلسي أجنبي عن التفؤّل المقصود في نصوص التفؤّل بالقرآن؛ إذ المقصود منه بعينه ما يُفعل في الاستخارة بالقرآن لا التفؤُّل بمجرد سماع الآية أو قراءتها.

قلت: نعم هذا المعني مقصود من النصوص المجوّزة للتفؤل بالقرآن؛ لما جاء فيها من الآداب و الادعية، نظير ما ورد في نصوص الاستخارة بالقرآن.

و لكن موضوع كلام المحدّث المجلسي و توجيهه هو مجرّد النهي عن التفؤّل

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 171.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 369

بالقرآن، من دون إشارة إلي تلك الآداب و الادعية، كما هو متعلّق النهي في مرسل محمد بن عيسي المزبور. و من

هنا ينطبق علي كلا التفسيرين المذكورين.

و أما التوجيه بالتفصيل في المقام بين التفؤُّل بالخير و بين التفؤُّل بالشرّ و التشاؤم- المعبّر عنه بالتطيُّر-، فهو غير وجيه؛ لأنّه يرجع في الحقيقة إلي التفصيل بين التفؤّل و بين التطيُّر، لا التفصيل في نفس التمأن المتعلق للأمر و النهي في الطائفتين من نصوص المقام.

مقتضي التحقيق في الجمع بين نصوص التفؤّل

و مقتضي التحقيق في الجمع بين الطائفتين في المقام: حمل النصوص المجوّزة علي الاستخارة بمعني التعرُّف و الاستطلاع علي ما هو خير واقعاً في علم اللّٰه، كما سبق بيانه في المعني الأخير من معاني الاستخارة و تندرج فيه أنحاءُ الطرق المتداولة من الاستخارة الشائعة.

و ذلك لأنّ هذا المعني من الاستخارة في الحقيقة من قبيل التعرُّف علي الغيب المستور الثابت في علم اللّٰه. فيكون داخلًا في معني التفؤّل بمعناه المشهور بين الأصحاب، كما أشار إليه صاحب الجواهر.

و أما النهي الوارد في مرسل محمد بن عيسي، فمحمول علي مجرّد الاطلاع عن المغيبات و كشف الامور المخفية المجهولة، من دون أن يكون في مقام الاستخارة و لا للتعرّف علي ما هو خيرٌ واقعاً في الأمر الذي يريد فعله.

و يمكن أيضاً حمله علي التفؤّل بالخير بمجرّد سماع صوت القرآن أو رؤية مكتوبه، كما قال العلامة المجلسي. و لكن الأوّل آنس بالذهن و أقرب إلي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 370

الارتكاز و أوفق بكلمات الأصحاب (رضوان اللّٰه عليهم).

مقتضي التحقيق في الفرق بين التفاؤل و الاستخارة

اشارة

ينبغي لبيان الفرق بين التفؤُّل و بين الاستخارة التحقيق في معنا و مفهوم كل واحد منهما.

أما الاستخارة، فقد سبق الكلام في تعريفها مفصّلًا. و حاصله: أنّها مشترك بين مطلق الدعاءِ، و بين طلب الخير أو التعرُّفِ علي ما فيه الخير، و بين طلب العزم علي اختيار ما اختاره اللّٰه له.

فعلي الأوّل يكون أصلها من الخُوار؛ أي صوت الأنين، و علي الثاني من الخير، و علي الثالث من الخِيَرة علي وزن العِنَبَة.

و أما لفظ الفأل: قال الخليل «1»: إنّه ضدّ الطِّيرة.

و عن ابن سكّيت نظير ذلك؛ حيث قال: الفأل أن يكون الرجل مريضاً فيسمع آخرَ يقول: يا سالم، أو كان

طالباً فيسمع آخر يقول: يا واجد.

نقله الجوهري في الصحاح «2» و الطريحي في مجمع البحرين.

و حاصله: أنّه قول الرجل للمريض يا سالم و للطالب السائل يا واجد. و لا يخفي أنّه ضدّ الطيرة.

و جاءَ في الخبر أنّ النبي صلي الله عليه و آله: «كان يحبّ الفأل و يكره الطيرة». نقله أيضاً

______________________________

(1) قال: الفأل معروف. و قد تفاءَلت بكذا، و ذلك ضدّ الطيرة./ العين: ج 3، ص 1368.

(2) قال في الصحاح: قال ابن السكيت: الفألُ أن يكون الرجل مريضاً فيسمع آخر يقول يا سالم، أو يكون طالباً فيسمع آخر يقول يا واجد، يقال تفاءلت بكذا. و في الحديث أنّه عليه السلام: «كان يحبُّ الفأل و يكره الطيرة»./ الصحاح: ج 5، ص 1788. و نفس التعبير جاء في مجمع البحرين.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 371

في الصحاح و مجمع البحرين.

و حيث عُرّف الفأل بأنّه ضدّ الطيرة، و كانت الأشياءُ تُعرف بأضدادها، ينبغي التحقيق في تعريف الطيرة: فنقول:

إنّ الطِّيَرة علي وزن العِنَبَة و الخِيَرَة اسم مصدر التطيُّر، و هو التشاؤم و الفأل الردي ء، كما قال في الصحاح. «1»

و الظاهر أنّ التطيُّر كان في الأصل التفؤُّل الردي ءُ الشؤم، كما قال في المفردات «2».

و المتحصّل من ملاحظة مجموع كلمات أهل اللغة: أنّ التفاؤل ضدّ التشاؤم و التطيّر، فيكون معناه هو الخرص و الرجم بالخير و البركة و السلامة. و لكن الاستخارة أجنبية عن حقيقة التخرُّص و التخمين و الحدس.

هذا بحسب اللغة. و أمّا كلمات الفقهاء، فمنشأ قولهم في الفرق بين التفاؤل و الاستخارة، ليس ما يفيده الأصل اللغوي، بل الظاهر اتكالهم في ذلك أيضاً علي بعض التعابير الواردة في نصوص المقام. و ذلك مثل الدعاء الواردة في

النبوي بقوله: «اللّهم تفألت بكتابك، و توكّلت عليك، فأرني من كتابك ما هو مكتوم من سرّك المكنون في غيبك» «3».

حيث يفهم من هذه الرواية و نظيرها أنّ التفاؤل هو طلب التعرّف علي

______________________________

(1) قال: و تطيَّرْتُ من الشي ء و بالشي ء. و الاسم منه الطِّيَرة مثال العِنَبَة، و هو ما يُتشاءَم به من الفأل الردي ء. و في الحديث: أنّه كان يحبّ الفأل و يكره الطِّيَرة./ الصحاح: ج 2، ص 728.

(2) قال: و تطيّر فلان و اطّيَرَ، أصله التفاؤل بالطير، ثمّ يستعمل في كل ما يتفاءلُ به و يُتشاءمُ. قالوا: «إنّا تطيّرنا بكم» و لذلك قيل لا طير إلّا طيرُك و قال: «إن تُصبهم سيئة يطيّروا» أيّ يتشاءموا به «ألا إنّما طائرُهُم عند اللّٰه» أي شؤمُهم./ المفردات في غريب القرآن: ص 310.

(3) بحار الانوار: ج 88، ص 241.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 372

المغيبات المكنونة و الأسرار المكتومة المكنونة في علم اللّٰه تعالي.

و علي أيّ حال ليس هذا المعني المستفاد من هذه الرواية ببعيد عن المعني اللغوي؛ لأنّ فيه أيضاً اشرب معني التخرّص و الرجم علي الغيب المكنون و تخمين الأسرار المكتومة، إلّا أنّ ذلك بالحدس و الوهم و الظن، و في التفاؤل بالقرآن إنّما يكون بالظن الناشي من الطريق المأثور من فتح المصحف و نحوه.

فالحق في ذلك مع صاحب الجواهر «1» من قُرب التفؤُّل إلي حقيقة الاستخارة، و لا سيّما بمعناها الأخير، و هو تعرّف المستخير علي ما هو خيرٌ له في الواقع المكنون في علم اللّٰه و غيبه.

و مقتضي التحقيق في المقام: أنّ نصوص جواز التفؤّل بالقرآن يمكن توجيه مدلولها بوجه وجيه، كما يمكن توجيه النهي عنه بما قال المجلسي و قوّيناه. و

عليه فلا وجه لدعوي معارضتها بما دل علي النهي عن التفؤّل بالقرآن؛ نظراً إلي ضعف كلتا الطائفتين سنداً.

فحاصل الكلام: أنّ التفؤّل بمعناه الممنوع- و هو التخرُّص و التطلع علي المغيبات و التفؤُّل بمجرد سماع آيات القرآن أو قراءتها، من غير استخارة-، يمكن حمل النصوص المانعة عليه. كما يمكن حمل النصوص المجوّزة علي إرادة التفؤّل بمعناه الجائز المشروع، و هو ما كان منه لغرض طلب ما هو خيرٌ في علم اللّٰه. بل التحقيق كون التفاؤل بالقرآن داخلًا في المعني الأخير للاستخارة كما قلنا، و هو التعرّف علي ما هو خير واقعاً في علم اللّٰه المكنون في غيبه. هذا من جهة الدلالة.

و أما من جهة السند فكلتا الطائفتين ضعيفتان سنداً. و عليه فلا وجه

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 171.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 373

لدعوي المعارضة؛ لأنّ التعارض إنّما هو بين الحجتين.

رواية تفأل الامام السجاد عليه السلام بالقرآن

و لكن بقيت في المقام رواية، و هي ما نقله ابن ادريس في مستطرفات سرائره عن كتاب أبي القاسم بن قولويه.

و هذه الرواية ينبغي ذكرها في عداد نصوص التفؤُّل بالقرآن، كما يمكن توجيه دلالتها علي جواز استعلام خيرة اللّٰه في حق العبد بافتتاح المصحف و الأخذ بأوّل ما يُري من الآية.

و هي ما أرسله ابن قولويه عن بعض أصحابنا قال: «كنت عند علي بن الحسين عليه السلام فكان إذا صلّي الفجر لم يتكلّم حتي تطلع الشمس، فجاءوه يوم ولد فيه زيد، فبشّروه به بعد صلاة الفجر. قال: فالتفت إلي أصحابه. و قال عليه السلام: أيّ شي ء ترون أن اسمّي هذا المولود؟ قال: فقال كلُّ رجل منهم سمّه كذا سمّه كذا. قال: فقال عليه السلام: يا غلام عليّ بالمصحف. قال فجاءوا بالمصحف

فوضعه علي حجره.

قال: ثمّ فتحه فنظر إلي أوّل حرف في الورقة، و إذا فيه: و فضّل اللّٰه المجاهدين علي القاعدين أجراً عظيماً. قال ثمّ طبَّقه ثمّ فتحه فنظر، فاذا في أوّل الورقة: إنّ اللّٰه اشتري من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّٰه فيقتلون و يقتلون وعداً عليه حقّاً في التورية و الانجيل و القرآن و من أوفي بعهده من اللّٰه فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به و ذلك هو الفوز العظيم». ثمّ قال: هو و اللّٰه زيد، هو و اللّٰه زيد، فسمّي زيداً» «1».

ظاهر هذه الرواية أنّ علي بن الحسين عليه السلام كان سمع من النبي صلي الله عليه و آله أنّه سيولد في أهل بيته من يُظلم و يُقتل في سبيل اللّٰه و يصلب و اسمه زيد. و لعلّه صلي الله عليه و آله أخبر

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 46، ص 191، ح 57.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 374

أنّه من أولاد علي بن الحسين عليه السلام أو من صُلب الحسين صلي الله عليه و آله. فأراد الامام علي بن الحسين بافتتاح المصحف استعلام ذلك و التعرّف علي خيرة اللّٰه في حقِّه بأنّ هذا المولود هو ذلك المولود الموعود المسمي بزيد و أخبر عنه النبي صلي الله عليه و آله كما يؤيد ذلك ما رواه ابن قولويه عن حذيفة بن اليمان، قال: «نظر رسول اللّٰه إلي زيد بن حارثة. فقال صلي الله عليه و آله: المقتول في اللّٰه، و المصلوب في أمّتي، و المظلوم من أهل بيتي سمي هذا، و أشار بيده إلي زيد بن حارثة. فقال: ادنُ مني يا زيد، زادك اسمك عندي حبّاً.

فأنت سمي الحبيب من

أهل بيتي». «1»

و إنّه صلي الله عليه و آله و إن كان معصوماً و عالماً بالمغيبات و المكنونات من أسرار علم اللّٰه و غيبه كلما أراد ذلك، إلّا أنّه يمكن أن يريد بذلك إعلام أصحابه ما أخبره النبي صلي الله عليه و آله بطريق التفؤّل بالمصحف و استعلام السرّ المكنون في غيب اللّٰه.

و علي أيّ حال فهذه الرواية في عداد النصوص المجوّزة للتفؤّل بالقرآن، و يأتي فيها ما سبق منّا، من توجيه النصوص المجوّزة للتفؤُّل بالقرآن.

الاستخارة بالسُّبحة

اشارة

إنّ من أنحاء الاستخارة- بمعناها الخاص المصطلح- هو الاستخارة بالسُّبحة أو الحَصي. و قد جاء هذا القسم من الاستخارة في بعض النصوص، و في كلمات جماعة من الفقهاء و المحدثين.

و لا يخفي أنّه لمّا جُوّز في هذه الطائفة من النصوص الاستخارة بالسُّبحة و الحصي بعنوانها ينبغي التحقيق اللغوي في ضبط هذين اللفظين و معناهما.

فنقول:

لفظ «السُّبحة» - بضمّ السين- علي وزن الغُرفة و اللُّقمة جاءَ في أصل اللغة

______________________________

(1) المصدر: ص 192.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 375

لثلاثة معان، و هي: العبادة و صلاة النافلة و خرزات متصلة بخيط و نحوه يُسبّح بعدِّها، كما قال الخليل في العين و الجوهري في الصحاح و ابن فارس في المقائيس، و غيرهم. و أما المناسب لنصوص المقام، هو المعني الأخير.

و أما لفظ «الحَصي» - بفتح الحاء- فهو صغار الحجارة، كما جاءَ في الجوامع اللغوية المذكورة و غيرها.

أما النصوص:

فمنها: ما رواه الشهيد في الذكريٰ، عن عدّة من مشايخه، عن العلامة، عن أبيه، عن السيد رضي الدين بن طاوس، عن محمد بن محمد الآوي الحسيني، عن صاحب الأمر عليه السلام:

«قال: تقرأ الفاتحة عشر مرات، و أقلّه ثلاثة و دونه مرّة. ثمّ تقرأ القدر

عشراً. ثمّ تقول هذا الدعاء ثلاثاً: اللهم إنّي أستخيرك لعلمك بعاقبة الامور، و أستشيرك لحسن ظني بك في المأمول و المحذور، اللهم إن كان الأمر الفلاني مما قد نيطت بالبركة أعجازه و بواديه، و حفّت بالكرامة أيّامه و لياليه، فخِر لي اللّهم فيه خيرة ترد شموسه ذَلولًا، و تقعض أيامه سروراً. اللهم إما أمر فآتمر و إمّا نهي فأنتهي. اللهم إنّي أستخيرك برحمتك خيرة في عافية. ثمّ تقبض علي قطعة من السبحة تضمر حاجة، فان كان عدد القطعة زوجاً فهو افعل، و إن كان فرداً، لا تفعل، و بالعكس» «1».

هذه الرواية مرسلة؛ إذ محمد بن محمد الآوي الحسيني كان من الطبقة السادسة عشر و معاصر محمد بن جعفر بن نما و السيد فخّار و كان منتهي عصر الغيبة الصغري من الطبقة التاسعة، و هو عصر المحدث الكليني، و كان علي بن محمد السمري- رابع السفراء الأربعة- من هذه الطبقة، و بعده كان من

______________________________

(1) الوسائل: ب 8، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 376

زمان الغيبة الكبريٰ. و قد ذكرنا طبقات الأصحاب في زمان الغيبة مفصلًا في كتابنا «مقياس الرواة» فراجع «1».

و دعوي الرُّؤية و الرواية عن صاحب الأمر في هذا الزمان قد وقعت مورد التكذيب في نصوص أهل البيت عليهم السلام و خلاف ضرورة مذهب الشيعة.

و عليه فلا مناص من الالتزام بصدور هذه الرواية عن صاحب الأمر في زمان الغيبة الصغريٰ، و لا بدّ من الحكم بارساله؛ لما بين الآوي الحسيني و بين زمان صدوره من الفاصلة بستّ طبقات.

و منها: ما رواه الشهيد بقوله: «و قال ابن طاوس في كتاب الاستخارات:

وجدت بخطّ أخي الصالح محمد بن محمد الحسيني

ما هذا لفظه عن الصادق عليه السلام:

«من أراد أن يستخير اللّٰه تعالي فليقرأ الحمد عشر مرات، و إنّا أنزلناه عشر مرات، ثمّ يقول: … - و ذكر الدعاء، إلّا أنّه قال عقيب و المحذور- إن كان أمري هذا قد نيطت … و قال عقيب سروراً: يا اللّٰه إما أمر فآتمر، و إما نهي فأنتهي، اللهم خر لي برحمتك خيرة في عافية، ثلاث مرات. ثمّ تأخذ كفاً من الحصي أو سبحة، و يكون قد قصد بقلبه إن خرج عدد الحصي و السبحة فرداً كان افعل، و إن خرج زوجاً كان لا تفعل» «2».

هذه الرواية أيضاً كسابقتها في ضعف السند بالارسال، بل هي أضعف منها؛ لأنّها أكثر حذفاً في رجال طبقاتها؛ نظراً إلي إرسالها عن الصادق عليه السلام.

هذا من جهة السند، و أما بيان المعني المراد، فقد نقل في البحار عن السيد بن طاوس أنّه قال: «و لعلّ المراد بأخذ الحصي أو سبحته فرداً كان افعل، و إن

______________________________

(1) مقياس الرواة: ص 57- 71.

(2) الوسائل: ب 8، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 377

خرج مزدوجاً كان لا تفعل، أو لعله يجعل نفسه و الحصي أو السبحة بمنزلة اثنين يقترعان، فيجعل الصدر في القرعة منه أو من الحصي أو السبحة فيخرج عن نفسه عدداً معلوماً، ثمّ يأخذ من الحصي شيئاً، أو من السبحة شيئاً و يكون قد قصد بقلبه أنّه إن وقعت القرعة عليه مثلًا فيفعل، و إن وقعت علي الحصي أو السبحة فلا يفعل، فيعمل بذلك» «1».

و نقل عن الكفعمي أنّه قال: «نيطت: أي تعلّقت و ناط الشي ء تعلّق، و هذا منوط بك أي متعلّق و الانواط المعاليق، و نيط

فلان بكذا أي علّق.

و أعجاز الشي ء آخره، و بواديه أوّله. و مفتتح الأمر و مبتدأه و مقتبله و عنفوانه و أوائله و موارده و بواديه، نظائر. و شوافعه و تواليه و أعقابه و مصادره و رواجعه و مصائره و عواقبه و أعجازه، نظائر.

و قوله: «شموسه» أي صعوبته. و رجل شَموس: أي صَعْب الخلق و لا تقل شموص بالصاد. و شمس الفرس منع ظهره. و الذلول ضدّ العصوبة.

و تقعض؛ أيّ تردّ و تعطف و قعضتُ العودَ عطفتُه، و تقعص بالصاد تصحيف، و العين مفتوحة؛ لأنّه إذا كانت عين الفعل أو لامه أحد حروف الحلق، كان الأغلب فتحها في المضارع» «2».

و أيضاً روي في البحار «3» روايات اخري في الاستخارة بالسبحة و كيفيتها، و لكن كلها ضعاف بالارسال.

و أما هل يمكن تصحيح أسناد هذه النصوص بقاعدة التسامح في أدلّة

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 247.

(2) بحار الانوار: ج 88، ص 249، و مصباح الكفعمي: ص 393.

(3) المصدر: ص 251- 249.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 378

السنن، فسيأتي البحث عنه في ختام أقسام الاستخارة.

و قد نقل هذه الروايات في الحدائق «1» و له بيان نظير ما نقلناه عن الكفعمي.

و أيضاً نقل رواية ثالثة بطريق والده عن الصادق و هي تتضمّن كيفية اخري في الاستخارة بالسبحة «2».

الاستخارة بالسبحة لم تكن مشهورة بين القدماء

يظهر من الشهيد الأوّل أنّ الاستخارة بالسبحة أو الحصي لم تكن مشهورة رائجة بين القدماء، و إنّما اشتهر بين المتأخرين؛ حيث قال في الذكريٰ:

«و لم تكن هذه مشهورة في العصور الماضية قبل زمان السيد الكبير العابد رضي الدين محمد بن محمد الآوي الحسيني» «3».

و كانت طبقة السيد الحسيني متأخّرة عن العلامة.

و قد نقل الشهيد الأوّل روايتين عن السيد المذكور

في الاستخارة بالسبحة أو الحصي، و نقلناهما آنفاً.

و قد روي رواية الاستخارة بالسبحة أو الحصي بالطريقين المزبورين عن الشهيد الأوّل جماعةٌ من فحول الفقهاء، كما في الوافي «4» و الحدائق- كما أشرنا آنفاً- و المفتاح «5» و الجواهر «6».

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 529.

(2) المصدر.

(3) الذكري/ الطبع الحجري: ص 253.

(4) الوافي/ طبع مكتبة أمير المؤمنين: ج 5، ص 1417.

(5) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 277.

(6) جواهر الكلام: ج 12، ص 173- 163.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 379

هل للسبحة و الحصي موضوعية؟

قد وقع الكلام في أنّ ذكر السبحة و الحصي في نصوص المقام، هل يكون من باب التمثيل و لا موضوعية لهما فيجوز الاستخارة بغيرهما؟ أم لا، بل لهما موضوعية؟ فلا يجوز الاستخارة بغيرهما.

و أيضاً وقع الكلام في الاستخارة بالسبحة أنّه هل يجوز الاستخارة بغير السبحة الحسينية، أم لا؟

قال في المفتاح بعد نقل الرواية المزبورة:

«و هل السبحة و الحصي تمثيل فيصح بكل معدود؟ أو لا فيقتصر عليهما؟

احتمالان. و لعل الأوّل أظهر. و هل المراد من السبحة كلما يسبح به و إن لم تكن من تراب الحسين عليه السلام كما إذا كانت من تراب الرضا عليه السلام أو من خشب، أو لا بد من أن تكون من تراب الحسين عليه السلام و أن تكون ثلاثاً أو أربعاً و ثلاثين خرزة.

الظاهر الاكتفاء بكل ما يسبح به. و ليس في الخبر تخصيص بكونها من تراب الحسين عليه السلام كالحصي، بل هي في ذلك كالحصي. نعم إذا كانت من تراب سيّد الشهداء عليه السلام أربعاً و ثلاثين أو ثلاثاً و ثلاثين كانت أفضل و أعلي و أكمل» «1».

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 277.

مباني الفقه الفعال في القواعد

الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 380

و لكن خالف ذلك في الجواهر و جعل الأحوط وجوباً الاقتصار علي السُّبحة و الحصي بقوله:

«و قد يُقوّي إرادة التمثيل من الحصي و السُّبحة لكل معدود، إلّا أنّ الأحوط الاقتصار عليهما» «1». و هذا الاحتياط وجوبي؛ لعدم كون تقوية التعدّي من جانبه، و تظهر الثمرة في عدم جواز اسناد ذلك إلي الشارع. لأنّ اسناد الحكم إلي الشارع لا يجوز بغير دليل في مطلق الأحكام الخمسة.

و أما السبحة فقوّي في الجواهر الاكتفاء بكل ما يُسبح به، و جعل الأولي الاقتصار بالسبحة الحسينية؛ حيث قال:

«كما أنّ الأولي الاقتصار علي السبحة الحسينية و إن كانت الأقوي الاكتفاء بكل ما يسبح به، خصوصاً إذا كانت من تراب الرضا عليه السلام و نحوه بل كل معدود» «2».

و الذي يقتضيه التحقيق: انصراف نصوص المقام عن المعدود الذي يكون من المأكولات كالبيض و الجوز و اللوز و نحو ذلك، كما أنّ سيرة العلماء في الاستخارة استقرت علي الاستخارة بغيرها، و إن يشكل إحراز اتصال السيرة في الاستخارة بزمان المعصومين عليهم السلام، و لا سيما بلحاظ ما قاله الشهيد الأوّل من عدم اشتهار الاستخارة بالسُّبحة في العصور المتقدمة، من أوائل زمان الغيبة، فضلًا عن زمان الائمة عليهم السلام.

و أما السُّبحة الحسينية، فلا دليل علي اعتبارها في الاستخارة، و إن لا ريب في أفضلية الاستخارة بها عملًا بعمومات أفضلية التسبيح بها و السجدة عليها و ما دلّ منها علي شرفها و فضلها علي ساير الأتربة.

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 164.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 194.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 381

و إن كان الأحوط الاقتصار علي المأثور المروي عن أهل البيت عليهم السلام و ذلك

لأنّ الاستخارة بهذا المعني من الاحكام التوقيفية و لا يجوز التعدي عن المروي، و لا سيما بلحاظ اسناد الاستخارة بالطرق المذكورة إلي الشارع.

الاستخارة بالبنادق

ورد الاستخارة بالبنادق في عدة نصوص و في كلمات جماعة من الفقهاءِ. و لفظ البنادق جمع البُندقة، و هي ما يُرميٰ به من الرصاص. و المقصود بها في نصوص المقام بندقة من طين أو نحوه، تجعل فيها الرقاع المطوية.

أما النصوص:

فمنها: مرفوعة علي بن محمد، رفعه عنهم عليهم السلام أنّه:

«قال لبعض أصحابه عن الأمر يمضي فيه و لا يجد أحداً يشاوره فكيف يصنع؟ قال عليه السلام: شاور ربّك، فقال له: كيف؟ قال عليه السلام: انو الحاجة في نفسك، ثمّ اكتب رقعتين، في واحدة: لا، و في واحدة: نعم، و اجعلهما في بندقين من طين.

ثمّ صل ركعتين و اجعلهما تحت ذيلك، و قل: يا أللّٰه إنّي اشاورك، أدخل يدك، فان كان فيها نعم، فافعل. و إن كان فيها لا، لا تفعل، هكذا شاور ربّك» «1».

و منها ما رواه ابن طاوس عن أحمد بن محمد بن يحيي عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث:

«و أكثر الصلاة علي محمد و آل محمد، و يكون معك ثلاث رقاع قد اتخذتها في قدر واحد و هيئة واحدة … و تطوي ثلاث رقاع طيّاً شديداً علي صورة واحدة، و تجعل في ثلاث بنادق شمع أو طين علي هيئة واحدة و وزن واحد، و ادفعها علي من تثق به، و تأمره أن يذكر اللّٰه و يصلي علي محمد و آله، و يطرحها إلي كمّه، و يدخل يده اليمني فيجيلها في كمّه و يأخذ منها واحدة من غير أن

______________________________

(1) الوسائل: ب 2، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 2.

مباني الفقه الفعال

في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 382

ينظر إلي شي ء من البنادق، و لا يعتمد واحدةً بعينها، و لكن أيّ واحدة وقعت عليها يده من الثلاث أخرجها … الخ». «1»

و مثله ما رواه ابن طاوس بقوله:

«و وجدت بخطّ علي بن يحيي الحافظ- و لنا منه إجازة بكل ما يرويه- ما هذا لفظه: استخارة مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و هي: أن تضمر شيئاً و تكتب هذه الاستخارة و تجعلها في رقعتين، و تجعلهما في مثل البندق، و يكون بالميزان، و يضعهما في إناء فيه ماءٌ. و يكون علي ظهر إحداهما: افعل: و في الاخري: لا تفعل. و هذه كتابتها: ما شاء اللّٰه كان اللهم إنّي استخيرك خيار من فوّض إليك أمره و أسلَمَ إليك نفسَه و استسلم إليك في أمره و خلا لك وجهَه، و توكّل عليك فيما نزل به، اللهم خر لي و لا تخر عليّ، و كن لي و لا تكن علي، و انصرني و لا تنصر عليّ، و أعن لي و لا تعن عليّ، و أمكن لي و لا تمكن منّي، و اهدني إلي الخير و لا تضلّني، و ارضني بقضائك و بارك لي في قدرك، إنّك تفعل ما تشاء و تحكم ما تريد و أنت علي كلّ شي ءٍ قدير.

اللهم إن كانت الخيرة لي في أمري هذا في ديني و دنياي، فسهّله. و إن كان غير ذلك، فاصرفه عنّي يا أرحم الراحمين إنّك علي كل شي ءٍ قدير. فايُّهما طلع علي وجه الماء فافعل به و لا تخالفه إن شاء اللّٰه» «2».

و له رواية اخري مثلها «3»، إلّا أن كلها مرسلة؛ نظراً إلي ما وقع من حذف رجال أسنادها، كما

لا يخفي.

______________________________

(1) الوسائل: ب 2، من أبواب صلاة الاستخارة ح 3.

(2) المصدر: ح 4.

(3) المصدر: ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 383

هذا و لكن الاستخارة بالبنادق لا ينبغي أن يُعدّ نوعاً مستقلًا من الاستخارات، كما فعلها في البحار «1»، و الجواهر بقوله: «و تارة: بالبنادق، كما في مرفوعة علي بن محمد» «2».

و ذلك لأنّ الاستخارة بالبنادق في الحقيقة هي الاستخارة بالرقاع، لكنها كيفية خاصة؛ لاشتراكهما في الكيفية و الخصوصيات، فالأنسب جعل الاستخارة بالبنادق من كيفيات الاستخارة بالرقاع. و من هنا لم يجعل في الوسائل باباً مستقلًا للاستخارة بالبنادق، بل إنّما أدرجها تحت عنوان الاستخارة بالرقاع «3».

حاصل

التحقيق

و حاصل الكلام في تحقيق هذه المسألة: أنّ الاستخارة بالبنادق ينبغي أن تُعدَّ من قبيل الاستخارة بالرقاع؛ نظراً إلي اتّحاد كيفيتهما بكتابة «افعل» و «لا تفعل» في رقاع و أوراق من القرطاس و نحوه في كليهما، إلّا أنّ في الثاني تجعل قطعات القرطاس بعد طيّها في البُندقة و نحوها ثمّ في ظرف مستور و لكن في الأوّل تجعل في غير البندقة.

و عليه فتشمل روايات الاستخارة بالرقاع هذا النوع من الاستخارة، و هي روايات كثيرة متظافرة بمجموعها مع أنّ بعضها لا يخلوا من قوّة و اعتبار.

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 240- 235.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 163.

(3) الوسائل: ب 2، من أبواب صلاة الاستخارة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 384

الاستخارة بالقرعة

اشارة

1- الاستشهاد بالأولوية و الاتحاد في الكيفية و كلمات الفحول.

2- تحقيق نصوص الاستخارة بالقرعة و المساهمة.

قبل الورود في هذا البحث ينبغي إشارة إجمالية إلي تعريف كل من الاستخارة و القرعة ليتضح الفرق بينهما، فنقول:

قد تحصّل مما سبق في تعريف الاستخارة أنّها: طلب

الخير أو خيرة اللّٰه، أو التعرف عليها بالدعاء و الصلاة أو بإحدي الطرق المأثورة، فيما إذا تردّد المكلّف بين الفعل و الترك؛ لما يحتمل في كل منهما من المصلحة و المفسدة، ما لم يتصف واحدٌ منهما- بمصداقه الجزئي الخارجي- بالواجب أو الحرام، فتشتمل المباح بالمعني الأعم.

و أما القرعة فهي عمليةٌ خاصّة لكشف مجهول يترتب عليه الغرض أو لا خراج حق مستور متنازع فيه.

و لكن يمكن استفادة مشروعية القرعة و العمل بها للاستخارة، من عموم بعض نصوصها مما دلّ علي مشروعية القرعة في كلّ أمر مشكل و معضل التبس فيه الأمر علي المكلّف و ليس مما يعرف حكمه من كتاب اللّٰه و لا سنة نبيّه و لا من روايات أهل البيت عليهم السلام.

فمن هذه العمومات صحيح محمد بن حكيم قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن شي ءٍ فقال لي: كلّ مجهول ففيه القرعة، قلت له: إنّ القرعة تخطئ و تصيب، قال عليه السلام:

كلّما حكم اللّٰه به فليس بمخطئ» «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ب 13، من أبواب كيفية الحكم، ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 385

هذه الرواية لا إشكال في دلالتها علي حجية القرعة مطلقاً، بلا فرق بين موارد اشتباه الحقوق أو التباس أمر علي المكلّف فتردّد بين فعله و تركه، بل يستفاد منها إصابة القرعة إلي الواقع. و من هنا يمكن الاستدلال بها علي أمارية القرعة بتعبُّدٍ من الشارع و جعله كاشفاً عن الواقع بارادته التكوينية المطلقة التي أخبر اللّٰه تعالي عن حقيقتها في الكتاب المجيد بقوله: «إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون» «1».

و أما سنداً فلا إشكال في صحة طريق الصدوق إلي محمد بن حكيم. و أما محمد بن حكيم

فالأقوي ثبوت وثاقته؛ نظراً إلي عدم ورود أيّ قدح فيه مع ما له من الاشتهار و المعروفية؛ حيث كانت له كتاب و روايات كثيرة و روي عنه أجلّاءُ الأصحاب. و يدل علي وثاقته ما نقله الكشي بطريق صحيح عن حمّاد، قال: «كان أبو الحسن عليه السلام يأمر محمد بن حكيم أن يجالس أهل المدينة في مسجد رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و أن يكلّمهم و يخاصمهم حتي كلّمهم في صاحب القبر فكان إذا انصرف إليه قال له: ما قلت لهم و ما قالوا لك و يرضيٰ بذلك منه». «2»

وجه الدلالة: أنّه لو لم يكن ثقة عند الامام عليه السلام لم يكن عليه السلام يأمره ببيان أمر المذهب و الاحتجاج مع المخالفين؛ فان الاحتجاج ربما يقتضي نقل حكم و بيان أمر من أحكام المذهب. فالأقوي وثاقة الرجل.

و منها: صحيح موسي بن القاسم البجلي: رواه محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن موسي عن موسي البجلي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا ورد عليه ما ليس في كتاب و لا سنة نبيه، فيرجمه، فتصيب ذلك،

______________________________

(1) سورة يس: الآية 82.

(2) مستدرك الوسائل: ب 11، من كيفية الحكم، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 386

و هي من المعضلات» «1». المعضِلات- بكسر الضاد- أيّ الشدائد و العصوبات.

و لا يخفي أنّه جاءَ في متن السند موسي الحلبي؛ و لكنه غلط و الصحيح البجلي؛ حيث لم يعهد موسي الملقب بالحلبي في الرواة. و أما موسي بن القاسم البجلي فهو من أجلّاء الرواة و صاحب الكتب. و روي محمد بن الحسن الصفار كتبه كما صرح به النجاشي و الشيخ «2».

و

مثله معتبرة عبد الرحيم «3» و ظاهر صدرهما و إن كان في موارد التنازع و الرجوع إلي أمير المؤمنين لرفع النزاع و فصل الخصومة إلّا أنّ تعليله في ذيلها بقوله: «و هي من المعضلات» ظاهرٌ في حجية القرعة و جواز الرجوع إليها في كل معضل، بلا اختصاص بموردهما.

و منها: ما رواه ابن أبي الجمهور الأحسائي في عوالي اللئالي بقوله: و روي في الصحيح عن النبي 9، قال: «في كل أمر مشكل القرعة». «4»

و قال في موضع آخر: «و نقل عن أهل البيت:: «كل أمر مشكل فيه القرعة». «5»

هذه النصوص بعمومها تشمل موارد التنازع و غيرها من موارد الاشتباه في الموضوعات و التردد في الامور بين فعلها و تركها مما لم يرد حكمه في الكتاب و السنة. و من هنا يمكن دخول الاستخارة بالرقاع و السبحة في هذه العمومات، لكن يستحب صلاة الاستخارة و الدعاء بالمأثور. و من هنا جاءَ

______________________________

(1) بصائر الدرجات: ص 410، ح 7.

(2) راجع معجم رجال الخوئي: ج 20، ص 78.

(3) بصائر الدرجات: ص 409، ح 4.

(4) عوالي اللئالي: ج 2، ص 285، ح 25.

(5) المصدر: ص 112، ح 308.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 387

في بعض النصوص تعبير الاستخارة بالمساهمة.

و دعوي انصراف عمومات القرعة إلي خصوص إخراج سهم المحق المتنازع فيه؛ نظراً إلي بعض النصوص، «1» ممّا لا وجه له.

و ذلك لعدم مفهوم لتلك النصوص و لعدم سبب آخر للانصراف من غلبةٍ في الاستعمال أو الوجود، كما هو واضحٌ.

الاستشهاد بالأولوية و الاتحاد في الكيفية و كلمات الفحول

بل لا مناص من الالتزام بذلك؛ حيث إنّه يثبت بالأولوية و الفحوي، بعد إثبات القرعة لاثبات الحقوق المتنازع فيها و الأحكام الشرعية من النجاسة في مثل الغنم الموطوءة و جواز

التصرف في المال الخارج بالقرعة. وجه الأولوية أنّ الاستخارة لا تتضمّن إثبات حكم شرعي وضعي و لا تكليفي و لا إثبات حقٍّ.

و أولي من ذلك كلّه قوله تعالي: «فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ»، في قصّة يونس عليه السلام؛ حيث إنّ القرعة إذا كانت دليلًا مجوّزاً لإلقاء مثل يونس عليه السلام في البحر مع ما فيه من خوف الهلاك يشمل مورد الاستخارة بالفحوي القطعي. و مضمون هذه الآية قد أمضاه الشارع في الجملة بشهادة النصوص الصحيحة الواردة في استشهاد الأئمة عليهم السلام بهذه الآية للاحتجاج علي اعتبار القرعة و وجوب الأخذ بها. و من هنا استند إليها صاحب الجواهر لمشروعية الاستخارة بالمساهمة.

و يشهد لذلك كلام صاحب الجواهر؛ حيث يظهر منه شمول نصوص

______________________________

(1) كصحيح أبي بصير و جميل/ الوسائل: ب 13، من أبواب كيفية الحكم، ح 5 و 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 388

القرعة لموارد الاستخارة.

فانه قال: «و تارة تكون بالقرعة و المساهمة كما اتفق ليونس، فانه روي أنّه لما وعد قومه بالعذاب، خرج من بينهم قبل أن يأمره اللّٰه تعالي. فركب في السفينة فوقفت، فقالوا هذا عبد آبق فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فرمي بنفسه في الماء فالتقمه الحوت» «1».

و مما يؤيد ذلك اتحاد كيفية العمل في القرعة و الاستخارة بالمساهمة من جعل السهام و الرقاع- المكتوب عليها الفعل و الترك- في ظرف أو صندوق أو بندق مستور و إخراجه بعد التشويش و الخلط.

و من هنا صرّح جماعة من فحول المحدّثين و الفقهاء بأنّ القرعة من طرق التعرُّف علي ما فيه الخيرة فجوّزوا الاستخارة بالقرعة. كما صرح به المحدث الكاشاني «2» و المحدث البحراني «3».

بل قال المحدث المجلسي بعد ذكر معتبرة ابن سيّابة: «و

يمكن تأييده بأخبار القرعة، فانّه ورد أنّها لكلّ أمر مشكل. و ورد أنّه ما من قوم فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه إلّا خرج لهم الحق، لا سيّما إذا اختلفت الآراء في الأمر الذي يقرعون فيه» «4».

و فقد عقد في الوسائل «5» في أبواب الاستخارة باباً بعنوان «استحباب مشاورة اللّٰه عزّ و جلّ بالمساهمة و القرعة» ثمّ قال في ذيل الرواية الدالة علي

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 165.

(2) الوافي: ج 5، ص 1409 و 1413.

(3) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 526.

(4) بحار الأنوار: ج 88، ص 234.

(5) الوسائل: ب 11، من أبواب صلاة الاستخارة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 389

ذلك: «أقول: و يأتي ما يدل علي القرعة في القضاء».

و قال في المفتاح: «و قد يظهر من المختلف و غيره أنّ الرقاع و البنادق قرعة أو نوع منها. و في الوسائل باب استحباب مشاورة اللّٰه عزّ و جلّ بالمساهمة و القرعة فيه حديث، و عدّ قبل ذلك الاستخارة بالرقاع في باب علي حدة» «1».

تحقيق نصوص الاستخارة بالقرعة و المساهمة

كل ما سبق كان بحسب دلالة عمومات القرعة. و قد وردت روايات خاصّة دلّت علي مشروعية الاستخارة بالمساهمة و القرعة.

فمن هذه النصوص ما رواه سيد بن طاوس بقوله: «أخبرني شيخي الفقيه محمد بن نما و الشيخ أسعد بن عبد القاهر الاصفهاني باسنادهما، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن عبد الرحمن ابن سيابة قال: خرجت إلي مكة و معي متاع كثير فكسد علينا، فقال بعض أصحابنا: ابعث به إلي اليمن و بعض أصحابنا ابعث به إلي مصر فذكرت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السلام فقال عليه السلام لي:

«ساهم بين مصر و اليمن، ثمّ فوِّض أمرك إلي اللّٰه. فأيُّ

البلدين خرج اسمه في السهم، فابعث إليه متاعك.

فقلت: كيف أساهم؟ قال عليه السلام: اكتب في رقعة: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم إنّه لا إله إلّا أنت عالم الغيب و الشهادة أنت العالم و أنا المتعلم. فانظر في أيّ الأمرين خير لي حتي أتوكل عليك فيه، فأعمل به.

ثمّ اكتب مصراً إن شاء اللّٰه، ثمّ اكتب في رقعة اخري مثل ذلك ثمّ اكتب اليمن إن شاء اللّٰه. ثمّ اكتب في رقعة اخري مثل ذلك. ثمّ اكتب: يُحبس إن شاء اللّٰه و لا يبعث به إلي

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 274.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 390

بلدة منهما.

ثمّ اجمع الرقاع، فادفعها إلي من يسترها عنك. ثمّ أدخل يدك فخذ رقعة من الثلاث رقاع. فايّها وقعت في يدك، فتوكّل علي اللّٰه، فاعمل بما فيها، إن شاء اللّٰه تعالي» «1».

هذه الرواية يوجد الإشكال في رجال سندها، من ناحيتين:

إحداهما: الرجال الواقعون في أسناد ابن نما و أسعد بن عبد القاهر إلي الحسن بن محبوب؛ حيث لم يذكر ابن طاوس رجال أسنادهما حتي يُعلم حالهم، إلّا أنّ نعتمد علي أسنادهما؛ نظراً إلي اعتماد ابن طاوس علي طريق ابن نما و أسعد، و إلي جلالة قدر ابن نما.

ثانيتهما: من جهة عبد الرحمن بن سيابة، فالأقوي اعتبار رواياته؛ لما ورد في بعض النصوص من إعطاء أبي عبد اللّه عليه السلام إليه أموالًا ليقسّمه في عيالات زيد بن علي، و لنقل الأجلّاء و أصحاب الاجماع عنه، كابن أبي عمير و نحوه.

و إن وقع الرجل نفسه في سند الرواية المزبورة، مع عدم حجية نقل أصحاب الاجماع علي وثاقة من رووا عنه، إلّا أنّ ذلك مع كثرة روايات الرجل و عدم ورود قدح فيه،

يكشف الجميع من حيث المجموع عن الاعتماد علي رواياته.

و من هنا قال المحدّث المجلسي: «و سنده لا يقصر عن عمل المشهور في الرقاع، فانّ ابن سيابة عندي من الممدوحين الذين اعتمد الأصحاب علي أخبارهم» «2».

فلا يبعد جواز الاعتماد علي سند هذه الرواية، لا لإثبات وثاقة رجال أسناد ابن نما و أسعد بالتوثيق الخاص أو العام، بل لحصول الوثوق بروايتهم لأجل

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 234- 233.

(2) بحار الانوار: ج 88، ص 234.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 391

ما قلناه من جلالتهما و مشاهدة ابن طاوس أسنادهما و اعتماده عليها، بل ظاهر كلام المجلسي كون اعتبار أسنادهما مفروغاً عنه؛ لدلالة اقتصاره علي نفي شائبة الضعف عن ابن سيّابة علي أنّه لم يري شائبة الضعف أسناد ابن نما و أسعد.

هذا من جهة السند.

و أما من جهة الدلالة، فواضحة؛ لأنّه و إن لم يُصرَّح فيها بلفظ الاستخارة و لا مادّتها، بل أمر فيها الامام عليه السلام بالمساهمة، إلّا أنّ تحيُّر السائل في اختيار أيّ الأمرين و إراءة الامام إيّاه الطريق إلي ما هو خيرٌ له عند اللّٰه، لا يلائم إلّا الاستخارة، و لا سيّما أنّ كيفية المساهمة التي بيَّنها الامام عليه السلام في جواب السائل إنّما تطابق الاستخارة بالرقاع، كما ورد في خبر هارون. فلا إشكال في دلالتها علي المطلوب.

و قد سبق أيضاً تحقيق هذه الرواية سنداً و دلالة في الاستخارة بالرقاع.

و من هذه النصوص ما رواه ابن طاوس بقوله: «وجدت رواية عن عمرو بن أبي المقدام عن أحدهما عليه السلام في المساهمة: تكتب بسم اللّٰه الرحمن الرحيم اللهم فاطرَ السموات و الارض عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم، أنت تحكم بين عبادك فيما

كانوا فيه يختلفون، أسألك بحق محمد و آل محمد أن تصلّي علي محمد و آل محمد و أن تُخرِج لي خيرة في ديني و دنياي و عاقبة أمري و آجله إنّك علي كلّ شي ءٍ قدير، ما شاء اللّٰه لا حول و لا قوة إلّا باللّٰه صلي اللّٰه علي محمد و آله. ثمّ تكتب ما تريد في رقعتين و يكون الثالث غفلًا، ثمّ تجيل السهام فأيّهما خرج عملت عليه و لا تخالف، فمن خالف لم يصنع له، و إن خرج الغفل رميت به» «1».

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 234.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 392

و إنّ للمحدث المجلسي بياناً نافعاً في ذيل هذا الحديث، إليك نص كلامه، قال:

«قال في القاموس: الغفل بالضمّ من لا يرجي خيره و لا يخشي شرّه، و ما لا علامة فيه من القداح و الطرق و غيرهما، و ما لا سمة عليه من الدواب و من لا نصيل له و لا عزم عليه من القداح، انتهي. «لم يصنع له» أي لم يُقدَّر له ما هو خير له. ثمّ اعلم أنّ الكتابة علي رقعتين؛ لعلّها فيما إذا كان الأمر مردّداً بين شقَّين أو بين الفعل و الترك. و إذا كان بين أكثر من شقّين، فيزيد الرقاع بعدد الزيادة، و مع خروج غفل يرميها و يخرج اخري» «1».

و لا يخفي أنّ مقتضي عمومات القرعة و شمولها لموارد الاستخارة، عدم اختصاصها بالكيفية المذكورة في الخبرين المزبورين الخاصّين، و أنّ الطريق المذكور فيهما من باب التمثيل؛ نظراً إلي أنّ مقتضي عمومات القرعة تحقُّقها بأيّ طريق معتاد.

و لكن الأقوي الاقتصار في كيفية الاستخارة علي الطريق المأثور. و ذلك لأنّها بكيفيتها المأثورة داخل في

عنوان الاستخارة. و إنّها لما كانت مستندة إلي الشارع و بحساب الشريعة، يجب الاقتصار علي الطريق المأثور و لا يجوز التعدي عنه.

و حاصل الكلام: أنّه لا يمكن إنكار دلالة نصوص القرعة و المساهمة عموماً و خصوصاً علي مشروعية الاستخارة بالمساهمة. و اتضح بذلك أنّ عمومات القرعة إنّما تصلح لمشروعية خصوص الاستخارة بالقرعة و

______________________________

(1) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 393

المساهمة، دون ساير أنحاء الاستخارة؛ نظراً إلي خروجها عن عنوان القرعة.

أ فهل تري صدق عنوان القرعة علي الاستخارة بالمصحف؟! و كذا الاستخارة بالسبحة. نعم لا يبعد دخول الاستخارة بالبنادق و الرقاع فيها؛ نظراً إلي اتحادهما في كيفية العمل.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 394

مدرك الاستخارة

اشارة

1- تحرير آراء الفقهاء.

2- مقتضي التحقيق في مدرك الاستخارة.

إنّ الاستخارة بمعناها الأعم؛ أيّ بمعني الدعاء و الصلاة و التوسل إلي اللّٰه تعالي لطلب الخِيرة و ما فيه الخير و الصلاح عند اللّٰه- من دون استطلاعٍ و لا طلب تعرّف علي الواقع المستور في علمه تعالي باحدي العلامات و الطرق المذكورة،- لا ريب في مشروعيتها، بل استحبابها مؤكّدٌ في جميع الامور المهمة الخطيرة و غيرها؛ نظراً إلي النصوص و اتفاق الفقهاء عليها من دون مخالف في البين. فلا كلام في ذلك.

و إنّما الكلام في مشروعية الاستخارة بمعناها الأخص؛ أي طلب التعرف علي ما هو خيرٌ له في الواقع المكتوم في علم اللّٰه، و الاستطلاع علي خيرة اللّٰه المكنونة في غيبه؛ بإحدي العلامات و الطرق المأثورة، بعد الصلاة و الدعاء و التوسل إلي ساحته تعالي.

و هذه الطرق و العلامات- كما عرفت آنفاً- هي الأخذ بالرقاع بعد خلطها و تشويشها في شي ءٍ مستور. أو الأخذ بالسُّبحة أو الحَصي بعدّها

اثنين اثنين أو أكثر، أو بافتتاح المصحف و غيرها من الطرق المذكورة آنفاً. و إنّما المتداول الرائج من الاستخارة بين العلماء و المؤمنين، بل المرتكز في أذهان المتشرعة، هو الاستخارة بهذا المعني.

و عمدة الدليل علي مشروعيته هي النصوص الواردة في آحاد أنحائها. و قد ذكرناها في بيان أقسام الاستخارة. و الكلام هاهنا في حجية هذه النصوص و

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 395

دليليتها علي مشروعية الاستخارة بهذا المعني. و قبل الخوض في البحث ينبغي نقل آراء الفقهاء و تنقيح كلماتهم.

تحرير آراء الفقهاء

تنقيح كلمات المشايخ الثلاثة

قد روي الكليني و الشيخ بعض روايات الاستخارة بهذا المعني. و قد صرّح الكليني بأنّ الروايات التي نقلوها و دوّنوها في كتبهم الأربعة، من الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام و السنن القائمة التي عليها العمل، كما قال الكليني «1».

و قال الشيخ الطوسي قدس سره في مقدمة التهذيب: «و أذكر مسألة مسألة، فأستدلُّ عليها؛ إما من ظاهر القرآن أو من صريحه أو فحواه أو دليله أو معناه، و إما من السنة المقطوع بها من الأخبار المتواترة، أو الأخبار التي تقترن إليها القرائن التي تدل علي صحتها، و إما من إجماع المسلمين إن كان فيها أو إجماع الفرقة المحقّة. ثمّ أذكر بعد ذلك ما ورد من أحاديث أصحابنا المشهورة في ذلك» «2».

و يفهم من كلامهما أنّ فتاواهما قد استقرّت علي الروايات التي روياها، كما يستفاد حجية هذه النصوص عندهما.

و إنّهما قد رَوَيا روايات دالّة علي مشروعية الاستخارة بهذا المعني، كما روي الكليني بسنده عن هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام رواية في

______________________________

(1) أصول الكافي: ج 1، ص 8.

(2) تهذيب الاحكام: ج 1، ص 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية،

ج 3، ص: 396

الاستخارة بالرقاع «1». و كذا روي في ذلك بطريق آخر «2».

و قد روي الشيخ الطوسي هاتين الروايتين في التهذيب «3». و روي أيضاً في مصباح المتهجّد «4» رواية هارون بن خارجة و مرفوعة علي بن محمد في الاستخارة بالرقاع.

و أما الصدوق فلم يرو رواية في هذا النوع من الاستخارة.

و ممن روي الاستخارة بهذا المعني عن هارون بن خارجة،، هو يحيي بن سعيد الحلّي في الجامع للشرائع «5».

رأي الشيخ المفيد قدس سره

يظهر من كلام الشيخ المفيد في المقنعة، أنّ رواية الاستخارة بالرقاع شاذّة؛ حيث قال بعد نقل روايتها:

«قال الشيخ: و هذه الرواية شاذّة، ليست كالذي تقدّم، لكنّا أوردناها للرخصة، دون تحقيق العمل بها». «6»

قوله: قال الشيخ، احتمل المحدث المجلسي أنّ هذا الكلام مما ألحقه الشيخ المفيد بعد تصنيف الكتاب في الهامش، فأدرجه المستنسخون في المتن، حيث قال بعد نقل كلام المفيد: «و لعلَّه مما ألحقه أخيراً في الهامش، فأدرجوه في

______________________________

(1) الكافي: ج 3، ص 471، ح 3، من باب صلاة الاستخارة.

(2) المصدر: ح 8.

(3) تهذيب الأحكام: ج 3، ص 182- 181، ح 6 و 7، من باب صلاة الاستخارة.

(4) مصباح المتهجّد: ص 535.

(5) الجامع للشرائع/ طبع مؤسسة سيد الشهداء عليه السلام: ص 114.

(6) المقنعة طبع جماعة المدرسين: ص 219.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 397

المتن» «1».

ثمّ نقل في البحار عن ابن طاوس بقوله: «و قال السيد بن طاوس عندي من المقنعة نسخة عتيقة جليلة كتبت في حياة المفيد رضي اللّٰه عنه، و ليست فيها هذه الزيادة، و لعلها قد كانت من كلام غير المفيد علي حاشية المقنعة، فنقلها بعض الناسخين فصارت في الأصل، ثمّ أوّلها علي تقدير كونها من الشيخ بتأويلات كثيرة» «2».

رأي ابن ادريس و من وافقه

و قد ناقش ابن ادريس في مشروعية هذا النوع من الاستخارة، بعد الاذعان بمشروعية الاستخارة بالمعني الأوّل؛ حيث قال: «فاما الرقاع و البنادق و القرعة، فمن أضعف أخبار الآحاد و شواذّ الأخبار؛ لأنّ رواتها فطحية ملعونون، مثل زرعة و رفاعة و غيرهما، فلا يلتفت إلي ما اختصا بروايته. و المحصّلون من أصحابنا ما يختارون في كتب الفقه، إلّا ما اخترناه. و لا يذكرون البنادق و الرقاع و القرعة، إلّا في

كتب العبادات دون كتب الفقه.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 88، ص 288.

(2) بحار الانوار: ج 88، ص 288.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 398

فشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّٰه لم يذكر في نهايته و مبسوطه و اقتصاده، إلّا ما ذكرناه و اخترناه، و لم يتعرّض للبنادق، و كذا شيخنا المفيد في رسالته إلي ولده لم يتعرّض لشي ءٍ من الرقاع. و الفقيه عبد العزيز بن البرّاج رحمه اللّٰه أورد ما اخترناه الخ» «1».

و قد وافقه المحقق في المعتبر؛ حيث إنّه- بعد الاذعان بمشروعية الاستخارة بالمعني الأوّل و تأكيد استحباب صلاتها و ذكر رواياتها و التصريح باشتهار العمل بمضمونها بين الأصحاب- قال: «أما الرقاع، فيتضمّن افعل و لا تفعل و في خبره الشذوذ، فلا عبرة بها» «2».

رأي العلامة الحلّي و تشنيعه علي ابن إدريس

و ممّن أفتي بمشروعية الاستخارة بالمعني الثاني الأخص، العلامة الحلّي. فانه بعد الاشارة إلي الروايات المروية في الاستخارة بالرقاع، تعرّض لإنكار ابن ادريس و أجاب عنه و شدّد في التشنيع عليه. و لما لا يخلو كلامه في المقام من فوائد جليّة نافعة ننقله هاهنا بنصّه.

قال قدس سره: «نقل الشيخ المفيد عن الصادق عليه السلام في صفة صلاة الاستخارة عدّة روايات، من جملتها المشتملة علي أخذ الرقاع، و كذا الشيخ في المصباح و التهذيب. و أنكر ابن ادريس هذه الصفة، فقال: … ثمّ طوّل في معني الاستخارة. و أدّي بحثه إلي أنّها طلب الخيرة من اللّٰه تعالي بالدعاء.

و هذا الكلام في غاية الرداءة، و أيّ فارق بين ذكره في كتب الفقه و كتب العبادات؟ فان كتب العبادات هي المختصة به، و مع ذلك فقد ذكره المفيد في المقنعة و هي كتاب فقه و فتوي، و ذكره الشيخ في التهذيب

و هو أصل الفقه، و أيّ محصِّل أعظم من هذين؟ و هل استفيد الفقه إلّا منهما؟

و طلب الخيرة بالدعاء لا ينافي ما قلناه؛ فانها مشتملة علي ذلك. و أما نسبة الرواية إلي زرعة و رفاعة فخطأٌ؛ فان المنقول فيه روايتان: إحداهما: رواها

______________________________

(1) السرائر/ طبع جماعة المدرسين: ج 2، ص 314- 313.

(2) المعتبر: ج 2، ص 373.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 399

هارون بن خارجة عن الصادق عليه السلام و الثانية: رواها محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن محمد- رفعه- عنهم عليهم السلام و ليس في طريق الروايتين زرعة و لا رفاعة.

و أما نسبة زرعة و رفاعة إلي الفطحية فخطأ. أما زرعة؛ فانه واقفي و كان ثقةً. و أما رفاعة؛ فانه ثقة صحيح المذهب.

و هذا كله يدلّ علي قلّة معرفته بالروايات و الرجال. فكيف يجوز ممن حاله هذا أن يُقدم علي رد الروايات و الفتاوي، و يستبعد ما نص عليه الأئمة عليهم السلام!؟

و هلّا استبعد القرعة و هي مشروعة إجماعاً في حق الاحكام الشرعية و القضايا بين الناس، و شرعها دائم في حق جميع المكلّفين؟ و أمر الاستخارة سهل يستخرج منه الانسان معرفة ما فيه الخيرة في بعض أفعاله المباحة المشتبهة عليه منافعها و مضارّها الدنيوية» «1».

و كذا روي نصوص هذه الاستخارة في المنتهي «2»، و أفتي به في القواعد أيضاً و نقله في ايضاح الفوائد «3».

رأي المحقق الكركي

و أما المحقق الكركي فقد أفتي بمشروعية الاستخارة بهذا المعني، بل يفهم من ظاهر كلامه استحبابها؛ حيث قال:

«السادس: صلاة الاستخارة، تكتب في ثلاث رقاع: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم خيرة من اللّٰه العزيز الحكيم لفلان بن فلانة افعل، و في ثلاث رقاع بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

خيرة من اللّٰه العزيز الحكيم لفلان بن فلانة لا تفعل. ثمّ يضعها

______________________________

(1) مختلف الشيعة/ طبع مكتب الأعلام الاسلامي: ج 2، ص 357-/ 356.

(2) المنتهي/ الطبع القديم: ج 1، ص 362.

(3) ايضاح الفوائد: ج 1، ص 138.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 400

تحت مصلاه، ثمّ يصلي ركعتين، ثمّ يسجد بعد التسليم و يقول فيها: أستخير اللّٰه برحمته خيرة من عافية مائة مرّة، ثمّ يجلس و يقول: اللهم خر لي في جميع اموري في يسر منك و عافية، ثمّ يشوِّش الرقاع و يُخرج واحدة واحدة. فان خرج ثلاث متواليات افعل، فليفعل. و إن خرج ثلاث متواليات لا تفعل، فليترك. و إن خرجت واحدة افعل و الاخري لا تفعل، فليخرج من الرقاع إلي خمس و يعمل علي الأكثر» «1».

رأي الشهيدين

و قد أفتي الشهيد الأوّل بمشروعية الاستخارة بهذا المعني في البيان «2». و قد فصّل في بيان ذلك في الذكريٰ «3» و ردّ كلام ابن ادريس، و صرّح بأنّ الاستخارة بالرقاع مشتهر بين الأصحاب. فانه بعد ذكر روايات الاستخارة بالرقاع، قال:

«فان الكليني ذكرها في كتابه و الشيخ في التهذيب و غيرهما. و انكار ابن ادريس الاستخارة بالرقاع لا مأخذ له مع اشتهارها بين الأصحاب، و عدم راد لها سواه، و من أخذ مأخذه كالشيخ نجم الدين.

ثمّ قال: و كيف تكون شاذة و قد دوّنها المحدّثون في كتبهم، و المصنّفون في مصنَّفاتهم، و قد صنّف السيد العالم العابد صاحب الكرامات الظاهرة و المآثر الباهرة، رضي الدين أبو الحسن علي بن طاوس الحسني قدس سره كتاباً ضخماً في الاستخارات و اعتمد فيه علي رواية الرقاع، و ذكر من آثارها عجائب

______________________________

(1) جامع المقاصد: ج 2، ص 486.

(2) البيان/ الطبع

الحجري: ص 128- 127.

(3) الذكريٰ/ طبع الحجري: ص 254- 253.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 401

و غرائب، أراه اللّٰه تعالي إياها، و قال: إذا توالي الأمر في الرقاع فهو خير محض، و إن توالي النهي فذلك الأمر شرّ محض، و إن تفرّقت كان الخير و الشر موزِّعاً بحسب تفرّقها علي أزمنة ذلك الأمر بحسب ترتّبها» «1».

ثمّ ذكر روايات ساير أنحاء هذه الاستخارة بقوله: «و منها الاستخارة بالعدد، و لم تكن هذه مشهورة في العصور الماضية قبل زمان السيد الكبير العابد رضي الدين محمد بن محمد الآوي الحسيني المجاور بالمشهد المقدس الغروي. و قد رويناها عنه- إلي أن قال: و منها: الاستخارة بالمصحف الكريم روي اليسع القمي، قال الخ» «2».

و مثله ما جاءَ في كلام الشهيد الثاني فانه أفتي بمشروعية الاستخارة بالرقاع الست و غيرها في شرح اللمعة «3».

و في روض الجنان صرّح باعتضاد أخبار الاستخارة و انجبار ضعفها بعمل الأصحاب؛ حيث قال: «و صلاة الاستخارة للخبر و ضعفه معتضد بعمل الأصحاب» «4» و مقصوده خبر هارون بن خارجة الوارد في الاستخارة بالرقاع، علي ما يظهر من مجموع كلماته في مواضع اخري، كقوله في نفس هذا الكتاب؛ أعني الروض:

«و صلاة الاستخارة و هي أيضاً أنواع أشهرها الاستخارة بالرقاع الست، رواها هارون بن خارجة عن الصادق عليه السلام، قال: إذا أراد أحدكم أمراً فلا يشاور فيه أحداً من الناس حتي يبدأ فيشاور اللّٰه تبارك و تعالي، قال: قلت: جعلت فداك و ما

______________________________

(1) الذكريٰ/ الطبع الحجري: ص 253.

(2) المصدر.

(3) شرح اللمعة/ طبع مطبعة أمير-/ قم/ ج 1، ص 295.

(4) روض الجنان: ص 18.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 402

مشاورة اللّٰه؟ قال عليه

السلام: تبتدأ فتستخير اللّٰه فيه أوّلًا ثمّ تشاور فيه، فانه إذا بدأ باللّٰه أجري له الخيرة علي لسان من يشاء من الخلق» «1» ثمّ نقل ما قاله السيد بن طاوس في وصف الاستخارة بالرقاع و أصابتها الواقع ما نقل عنه الشهيد الأوّل في الذكري، و قد نقلناه آنفاً.

استدلال صاحب الحدائق

قال صاحب الحدائق بعد ذكر طوائف النصوص الواردة في انحاء الاستخارة بمعناها الأخص الشائع: «المستفاد من الأخبار استحباب الاستخارة لكل شي ء و تأكُّدها حتي في المستحبّات» «2».

و إنّه قدس سره بعد ذكر الأقسام العشرة للاستخارة و الاستدلال لها بما ورد فيها من النصوص، قال ما لفظه:

«فهذه عشرة وجوه و مجموعها يصلح مدركاً لمثل هذا الأمر و مسلكاً لهذا الشأن، و إن تطرّق علي بعضها المناقشة» «3».

و أما تلك الوجوه العشرة من أنحاء الاستخارة التي ذكرها صاحب الوسائل و استشهد لآحادها بالنصوص، فهي:

1- طلب الخِيْرَة من اللّٰه؛ بأن يسأل اللّٰه في دعائه أن يجعل له الخير و يوفّقه في الأمر الذي يريده.

2- طلب تيسّر ما فيه الخيرة.

______________________________

(1) المصدر: ص 326.

(2) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 531.

(3) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 533.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 403

3- طلب العزم علي ما فيه الخير.

4- الاستخارة بالدعاء خاصة، بعد ما جَعَل الثلاثة الاولي بالصلاة و الدعاء بقوله: «و هذه الثلاثة المعاني تكون بالصلاة و الدعاء. و ربما تكون بالدّعاء خاصّة» «1».

5- الاستخارة بالرقاع.

6- الاستخارة بالبنادق.

7- الاستخارة بفتح المصحف.

8- الاستخارة بالسُّبحة.

9- الاستخارة بالقرعة.

10- الاستخارة بالأخذ من لسان المشاور.

فانه قدس سره جعل الأقسام الستة الأخيرة كلّها من أنواع الاستخارة بمعني طلب تعرّف ما فيه الخيرة؛ حيث إنّه بعد ذكر الاقسام الأربعة الاولي قال:

«و منها ما ورد بمعني طلب

تعرّف ما فيه الخيرة، و هذا هو المعروف الآن بين الناس، و لكن لا بد هنا من انضمام شي ءٍ آخر إلي الصلاة و الدعاء معاً أو الدعاء وحده، من الرقاع أو البنادق أو فتح المصحف أو أخذ السبحة أو القرعة أو الأخذ من لسان المشاور» «2».

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 525.

(2) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 526.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 404

رأي صاحب الجواهر في مدرك الاستخارة

سلك صاحب الجواهر مسلك التسامح في أدلة السنن في الاستدلال علي مشروعية الاستخارة بالطرق و العلامات المذكورة الشائعة، بعد ما حَكَم باستحباب بأنحائها.

فانّه- بعد ذكر الاستخارة بالقرعة و المساهمة و ذكر نصوصهما- قال:

«و إن كان الأظهر أنّ استحباب الاستخارة بهذا الطريق أو غيره لا ريب في أنّه من السنن التي يتسامح في أدلتها، فلا بأس في نية القربة للمستخير بذلك حينئذٍ، و لا ينافيه اشتمال الدليل علي علامة الخبرة، إذ لا ريب في أنّ للفاعل إيقاع فعله كيف شاء، و مباح له الفعل و الترك، فلا حرج عليه باناطة الفعل و الترك بهذه العلامة لاحتمال إصابتها الواقع، و لا تشريع فيه، و من ذلك تعرف أنّه لا بأس حينئذٍ بالأخذ بجميع ما سمعت من أقسام الاستخارات و إن ضعف سند دليل بعضها» «1».

و بعد ما ذكر ذلك أنكر كلام ابن ادريس و استجود كلام العلامة في التشنيع علي ابن ادريس؛ حيث قال قدس سره: «و لقد أجاد الفاضل في المختلف- بعد أن نقل ما سمعته من السرائر- في قوله: و هذا الكلام في غاية الرداءة، و أي فرق بين ذكره في كتب الفقه و كتب العبادات، فان كتب العبادة هي المختصة به، و مع ذلك فقد ذكره المفيد

في المقنعة و هي كتاب فقه، و الشيخ في التهذيب و هو أصل الفقه، و أي محصل أعظم من هذين، و هل استفيد الفقه إلّا منهما، و أما نسبة الرواية إلي زرعة و رفاعة فخطأ، فان المنقول روايتان ليس فيهما زرعة و لا رفاعة، ثمّ أخذ يشنع عليه بعدم معرفته بالروايات و الرجال، و أن زرعة و

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 166.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 405

رفاعة ليسا من الفطحية، و أن من حاله كذلك كيف يجوز له أن يقدم علي رد الروايات و الفتاوي، و يستبعد ما نص عليه الأئمة عليهم السلام، و هلّا استبعد القرعة و هي مشروعة إجماعاً في حق الاحكام الشرعية و القضاء بين الناس، و شرعها دائم في جميع المكلفين، و أمر الاستخارة سهل يستخرج منه الانسان معرفة ما فيه الخير في بعض أفعاله المباحة المبتنية عليه منافعها و مضارّها الدنيوية» «1».

ثمّ ذكر كلام ابن طاوس و الشهيد في تأييد كلام العلامة و ردّ ابن ادريس، ثمّ نقل عن المفتاح أنّ ابن طاوس ادّعي الاجماع علي الاستخارة بالرقاع. ثمّ قال: «و من هذا كله مضافاً إلي ما سمعته سابقاً من التسامح في أدلة الاستخارة كما أو ما إليه في المختلف، تعرف وجوه النظر فيما سمعته من السرائر» «2». و أيضاً استدلّ ببعض آيات الكتاب الوارد في قصة يونس بقوله: «و تارة: تكون بالقرعة و المساهمة كما اتفق ليونس، فانه روي أنّه لما وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره اللّٰه تعالي فركب في السفينة فوقفت، فقالوا هذا عبد آبق فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فرمي بنفسه في الماء فالتقمه الحوت» «3».

آراءُ ساير الفقهاء

و أما الفقهاء

المتأخّرون عن الشهيد، فاتفقوا علي مشروعية هذا النوع من الاستخارة، كما عرفت ممّا حكاه في المفتاح عن ابن طاوس و كثيرٍ من أعاظم الأصحاب بل نسب بعضهم ذلك إلي الأصحاب.

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 167.

(2) المصدر: ص 168.

(3) المصدر: ص 165.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 406

فتحصّل أنّ هذا النوع من الاستخارة كان معمولًا بين قدماء الأصحاب كما يظهر من كلام العلامة و ابن طاوس و الشهيد الأوّل. و أما المتأخرون، فاتفقوا علي مشروعيته، و لم يُعهد منهم المخالف، بل المخالف لأصل مشروعية الاستخارة بهذا المعني الشائع يُعدّ من الشذوذ.

و قد عرفت آراء سائر الفقهاء من كلماتهم المنقولة سابقاً. فانّ المحدث الكاشاني و المحدث البحراني و المحدث المجلسي و الفاضل الهندي صاحب كشف اللثام و السيد محمد جواد الحسيني العاملي في المفتاح و غيرهم من الفقهاء الفحول، قد صرّحوا بمشروعية هذا النوع من الاستخارة و ذكروا له أقساماً. و قد ذكرنا مواضع الحاجة من كلماتهم في خلال البحث.

مقتضي التحقيق في مدرك الاستخارة

اشارة

عمدة مدرك الاستخارة هي النصوص الواردة في أنحاء الاستخارة، من الاستخارة بالرقاع و البنادق و المصحف و السُّبحة و القرعة.

و إن يظهر من صاحب الجواهر «1» نسبة دعوي الاجماع إلي ابن طاوس؛ حيث نقله عن مفتاح الكرامة في تنقيح آراء الفحول و الاستشهاد بكلماتهم لتأييد العلامة في ردّه ابن ادريس و تشنيعه عليه.

و لكن لا اجماع تعبّدي في البين و إن ذهب إلي مشروعيتها جلُّ الأصحاب.

و إلي الكتاب؛ حيث استند لمشروعية الاستخارة بالقرعة إلي قوله تعالي:

«فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ». كل ذلك سبق آنفاً في نقل كلام صاحب الجواهر.

و عليه فعمدة ما يمكن الاتكال عليها في الاستدلال لمشروعية الاستخارة

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص

168.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 407

هي النصوص.

و يمكن الاستدلال بالنصوص لمشروعية الاستخارة بأنحائها المذكورة، بإحدي الطرق الأربعة الآتية.

1- تظافر النصوص الدالة علي مشروعية آحاد أنحاء الاستخارة بالطرق المذكورة

و صلاحية هذه النصوص بمجموعها لاثبات المشروعية في الجملة.

بيان ذلك: أنّ النصوص الواردة في أنحاءِ الاستخارة المذكورة، و إن كانت بآحادها ضعيفة، إلّا أنّ كثرة ما ورد من النصوص في كلِّ واحدٍ من أنحاءِ هذه الاستخارات و تظافرها يوجب الوثوق النوعي بصدورها في كلّ قسم من هذه الأقسام في الجملة، كما أشار إليه صاحب الحدائق بعد ذكر أنحاء الاستخارة و نصوصها، بقوله: «و هذه عشرة وجوه و مجموعها يصلح مدركاً لمثل هذا الأمر و مسلكاً لهذا الشأن و إن تطرّق علي بعضها المناقشة» «1».

فان النصوص الواردة في كل من الاستخارة بالرقاع و المصحف و السبحة متظافرة و يحصل الوثوق بصدور بعضها في كل نوع، و إن كانت ضعيفة بآحادها كلّاً أو بعضاً. و هذا الوثوق النوعي بصدورها يكفي في الاعتبار و إثبات مشروعية الاستخارة في كلّ قسم من هذه الأقسام.

فانّ تظافر النصوص و كثرتها ممّا يوجب الوثوق النوعي، بل الاطمئنان و القطع بصدورها في الجملة. و إن اختلفت تعابيرها و مواردها بعد اشتراك الكل في معني واحد و مفهوم فارد.

و يظهر هذا المسلك في الحكم باعتبار الروايات و الاحتجاج بها من أعاظم الأصحاب و فحول الفقهاء. منهم العلامة؛ حيث جعل ذلك وجهاً خامساً

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 533.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 408

للاستدلال علي مشروعية بيع المتاع بأضعاف قيمته مشروطاً باقراض أو إجارة و نحو ذلك. قال: «الخامس: تظافر الروايات و تطابقها من غير معارض فيتعين العمل عليه». «1»

و كذا جميع من تأخّر عنه من الفقهاء، إلّا أنّهم

قصدوا من المتظافرة ما يشتمل علي الصحاح و غيرها غالباً.

و لكن استدلّ بعض الفحول بالنصوص المتظافرة مع التصريح بضعف آحادها.

كما يظهر ذلك من المحقق الهمداني في النصوص الدالة علي عدم وجوب الصلاة علي من نسي الاستنجاء، فتذكّر بعدها «2».

و منهم السيد الخوئي؛ حيث صرّح بضعف ما دلّ علي كون المراد بذوي القربي الائمة المعصومين و لكن استدل بها و حكم باعتبارها بمجموعها بدعوي كونها متظافرة. و بذلك ردّ ابن الجنيد المدّعي إرادة مطلق القرابة من الآية؛ حيث قال: «و فيه أنّ الرويات الدالة علي أنّ المراد به الامام عليه السلام كثيرة جدّاً، و إن كانت ضعيفة السند بأجمعها، فهي نصوص مستفيضة متظافرة» «3».

و قال في حرمة الطواف عرياناً: «الروايات الناهية عن الطواف عرياناً و ان كانت باجمعها ضعيفة السند إلا أنّها كثيرة متظافرة لا يمكن ردّها بل عن كشف

اللثام انها تقرب من التواتر من طريقي الخاصة و العامة». «4»

______________________________

(1) مختلف الشيعة: ج 5، ص 301.

(2) مصباح الفقيه: ج 1، ق 1، من الطبعة الحجرية.

(3) كتاب الخمس/ للسيد الخوئي: ص 308.

(4) المعتمد/ كتاب الحج/ ج 4/ ص 331.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 409

و قال في حرمة الانتفاع بالميتة: «الروايات الدالة علي حرمة الانتفاع بالميتة فان أكثرها ضعيفة السند إلا أنّها متظافرة». «1»

و نكتفي بذكر هذه الموارد من باب التمثيل؛ حذراً من الاطناب و التطويل، و إلّا فموارد تعبير فحول المحققين عن النصوص الكثيرة- الضعيفة آحادها- بالمتظافرة و الاستدلال بها، كثيرة، يجدها المتتبّع في كلام مثل صاحب الحدائق و الجواهر و الشيخ الاعظم و المحقق الهمداني و السيد الخوئي و غيرهم.

2- انجبار ضعف سند هذه النصوص بقاعدة التسامح في أدلّة السنن،

كما يظهر ذلك من كلام صاحب الجواهر؛ حيث نفي الريب عن جريان

هذه القاعدة في نصوص المقام بقوله: «و إن كان الأظهر أنّ استحباب الاستخارة بهذا الطريق أو غيره، لا ريب في أنّه من السنن التي يتسامح في أدلتها، فلا بأس في نية القربة للمستخير بذلك حينئذٍ، و لا ينافيه اشتمال الدليل علي علامة الخبرة، إذ لا ريب في أنّ للفاعل إيقاع فعله كيف شاء، و مباح له الفعل و الترك، فلا حرج عليه باناطة الفعل و الترك بهذه العلامة لاحتمال إصابتها الواقع، و لا تشريع فيه، و من ذلك تعرف أنّه لا بأس حينئذٍ بالأخذ بجميع ما سمعت من أقسام الاستخارات و إن ضعف سند دليل بعضها» «2».

و ممّن صرّح بهذا الوجه و استدل به و اتّكل عليه صاحب العروة؛ حيث قال: «بل أنكر بعض ما عداها مما يشتمل علي التفؤّل و المشاورة بالرقاع و الحصي و السبحة و البندقة و غيرها، لضعف غالب أخبارها، و إن كان العمل بها

______________________________

(1) مصباح الفقاهة/ ج 1/ ص 64.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 166.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 410

للتسامح في مثلها لا بأس به أيضاً» «1».

و ينبغي قبل الورود في تقريب هذا الاستدلال إشارة إجمالية إلي هذه القاعدة، و قد بحثنا عنها مفصّلًا في كتابنا «مقياس الرواية».

المقصود من هذه القاعدة أنّه إذا ورد خبر ضعيف عن النبي صلي الله عليه و آله أو أحد المعصومين عليهم السلام فدلّ علي استحباب فعل يثبت بهذه القاعدة استحباب ذلك الفعل.

و السرّ في ذلك: دلالة بعض الروايات المعتبرة علي ثبوت الاستحباب أو الأجر و الثواب للعمل بكلّ رواية وُعد فيها بالثواب و لو كانت غير صادرة عن أهل البيت عليهم السلام واقعاً. و عليه فاستحباب العمل الوارد فيه

الرواية لا يحتاج في إثباته إلي تمامية سند الحديث الدال عليه أو الوثوق بصدوره، بل يثبت بنفس تلك الرواية الضعيفة بمعونة ما دلّ من النصوص المعتبرة علي ثبوت الأجر و الثواب علي العمل الموعود به في تلك الرواية، و لو لم تكن صادرة عنهم عليهم السلام واقعاً.

و قد وقع البحث في أنّ الثابت بهذه الأخبار هل هو حجية الرواية الضعيفة الدالة علي الاستحباب، أو ثبوت حكم الاستحباب، من دون جبر ضعف الرواية و إثبات حجيتها، أو لا يثبت شي ءٌ منهما، بل إنّما يثبت مجرّد الأجر و الثواب.

و المشهور بين الفقهاء جبر ضعف سند الرواية الواردة في السنن و المستحبات و إثبات حجيتها بهذه القاعدة كما يستفاد ذلك من كلام الشهيد الثاني؛ حيث قال: «و جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص و المواعظ و فضائل الأعمال … و هو حسن، حيث لا يبلغ الضعف حدَّ الوضع و

______________________________

(1) العروة الوثقي المحشّي: ج 2، مقدمة كتاب الحج في آداب السفر، ص 411.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 411

الاختلاق؛ لما اشتهر بين العلماء المحققين من التساهل بأدلّة السنن، و ليس في المواعظ و السنن غير محض الخير … » «1».

و قد صرّح السيد الحكيم «2» و السيد الخوئي «3» باشتهار هذا المبنا بين الأصحاب. و قد بحثنا عن نصوص هذه القاعدة و تنقيح آراء فحول الفقهاء في مفادها في كتابنا «مقياس الرواية» «4». و اخترنا هناك قصور نصوص هذه القاعدة عن إثبات حجية الروايات الواردة في السنن و كذا عن إثبات استحباب العمل المرغَّب إليه في هذه الروايات، بل غاية ما يثبت بنصوص هذه القاعدة مجرّد ترتب الأجر و الثواب عليه ما لم يبلغ

ضعف الرواية إلي حدّ الوضع و الاختلاق.

و علي أيّ حال فما ذهب إليه في الجواهر في المقام مبنيٌّ علي قاعدة التسامح. و بناءً علي رأي المشهور يمكن دعوي انجبار ضعف أسناد الروايات الواردة في أنحاء الاستخارة و القول باعتبارها. و أما بناءً علي رأي غير المشهور يثبت استحباب الاستخارة أو مجرّد ترتّب الثواب و الأجر عليه. و قد رجّحنا هذا المبنا الأخير في كتابنا «مقياس الرواية».

و علي أيّ حال لا إشكال في ثبوت جواز الاستخارة بإحدي الطرق المزبورة و أصل مشروعيتها.

و إن لا يخلو ذلك من إشكال؛ نظراً إلي خروج ثبوت مجرد الأجر و الثواب عن مفاد نصوص الاستخارة و نطاقها؛ حيث إنّها بصدد إراءة الواقع و رفع

______________________________

(1) الدراية: ص 29.

(2) حقائق الاصول: ج 2، ص 268.

(3) مصباح الاصول: ج 2، ص 319.

(4) مقياس الرواية في علم الدراية: ص 215.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 412

التحيّر و إيجاد العزم، لا مجرد الوعد بالثواب و الأجر حتي يثبت بقاعدة التسامح.

و الجواب: أنّه ورد في بعض نصوص الاستخارة ثبوت الأجر للمستخير إذا دخل في أمر بالاستخارة ثمّ ابتلي، و في بعضها ثبوت الأجر في الاستخارة مطلقاً.

كما في صحيح محمد بن أبي عمير و صفوان عن عبد اللّه بن مسكان قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «من دخل في أمر بغير استخارة ثمّ ابتُلي لم يوجر» «1».

و في خبر محمد بن مضارب- المروي في المحاسن- عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«من دخل في أمر بغير استخارة لم يوجر» «2».

وجه الدلالة: دلالة مفهوم التحديد في هاتين الروايتين علي ثبوت الأجر فيما دُخل فيه بالاستخارة.

و دعوي انصراف الاستخارة في هاتين الروايتين إلي الاستخارة بمجرد الدعاء و الصلاة،

لا وجه لها بعد ورود نصوص متظافرة بلفظ الاستخارة و دلالتها علي مشروعية، بل استحباب الاستخارة بإحدي الطرق المبحوث عنها في المقام لظهور الأمر و الترغيب- الوارد فيها- في الاستحباب.

و عليه فالوعد بثبوت الأجر و الثواب يثبت في جميع أنحاء الاستخارة و يدخل في نطاق نصوص الاستخارة كلّها. و عليه يمكن إثبات مشروعيتها بقاعدة التسامح؛ حيث من الواضح أنّ ثبوت الأجر فرع مشروعية أصل العمل.

و بهذا البيان يتضح وجه ما استقرّ عليه رأي الفقيه الفحل خرّيت صناعة

______________________________

(1) الوسائل: ب 7، من أبواب الصلاة الاستخارة، ح 7.

(2) المصدر: ح 1 و 8.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 413

الفقه صاحب الجواهر، من إثبات مشروعية بل استحباب الاستخارة بقاعدة التسامح.

و بناءً علي ما اخترناه في قاعدة التسامح لا إشكال في إثبات أصل مشروعية الاستخارة بإحدي الطرق المذكورة و جواز العمل بها مسنِداً إلي الشارع.

3- انجبار ضعف أسناد هذه النصوص بعمل مشهور الفقهاء.

و يمكن دعوي ذلك بلحاظ شهادة مثل العلامة و الشهيد الأوّل و ابن طاوس علي عمل أكثر الفقهاء و المحدثين من القدماء و المتأخرين بما ورد من النصوص في الاستخارة بالطرق المأثورة المذكورة، كما جمع أقوالهم في مفتاح الكرامة «1» بل نقل عن ابن طاوس الاجماع علي الاستخارة بالرقاع، كما أشار إليه في الجواهر «2».

و لكن لا يخفي أنّ الجابر لضعف سند الرواية إنّما هو عمل مشهور قدماء الأصحاب بها، دون المتأخرين، فلو أحرزنا ذلك من مطاوي كلمات الفقهاء، يمكن دعوي جبر ضعف أسناد روايات الاستخارة بعمل المشهور. و إثبات ذلك بحاجةٍ إلي فحص تام في كلمات القدماء. و لا يبعد دعوي ذلك؛ نظراً إلي كثرة العاملين بها. و إن كان أكثر العاملين من المتأخرين. إلّا أن من القدماء أيضاً من

أفتي بمضمونها، بل شهد بصدورها عن الصّادقين عليهم السلام كالكليني في الكافي و الشيخ في التهذيب و مصباح المتهجّد و المفيد في المقنعة و عدم ثبوت ما ادّعاه في المفيد و ابن ادريس من الشذوذ في كلامه، كما قال العلامة. و قد أكّد

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 274- 278.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 168.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 414

العلامة باعتبار هذه النصوص و مشروعية الاستخارة بهذا المعني، و صرّح الشهيد الاوّل باشتهارها بين الأصحاب و فتوي مثل العلامة و المحقق الكركي و الشهيدين و المحدث البحراني و الكاشاني و الفاضل الهندي و صاحب مفتاح الكرامة و صاحب الجواهر و غيرهم.

4- عمومات القرعة الشاملة للاستخارة بما يُعدّ عرفاً من مصاديق القرعة بتقريبين:

أحدهما: العموم اللفظي، و الآخر: بالفحوي. و قد سبق بيان هذين التقريبين في البحث عن الاستخارة بالقرعة و المساهمة.

و يمكن استفادة شمول عمومات القرعة للاستخارة بالفحوي من كلام العلامة في تشنيعه علي ابن ادريس بقوله: «و هلّا استبعد القرعة و هي مشروعة إجماعاً في حق الاحكام الشرعية و القضايا بين الناس، و شرعها دائم في حق جميع المكلّفين؟ و أمر الاستخارة سهل يَستخرج منه الانسان معرفة ما فيه الخيرة في بعض أفعاله المباحة المشتبهة عليه منافعها و مضارّها الدنيوية» «1».

و حاصل الكلام: أنّ عمومات القرعة بالتقريبين السابقين تامّة في إثبات مشروعية الاستخارة بطريق القرعة.

و هذا العمومات تكفينا في الخروج عن الحرمة المستفادة من آية تحريم الاستقسام بالأزلام، كما يكفي لذلك ساير نصوص الاستخارة بسائر الطرق المزبورة.

و هذا مراد المحقق الأردبيلي؛ حيث استدل لبطلان تفسير الآية بما يشبه التعرف علي الغيب و الاستطلاع علي حكم اللّٰه بما يلزم من المحذور علي القول

______________________________

(1) مختلف الشيعة/ طبع مكتب الأعلام الاسلامي: ج 2،

ص 357-/ 356.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 415

بهذا التفسير. و ذلك المحذور لزوم حرمة الاستخارة المشهورة، مع دلالة نصوص متظافرة و فتوي الأكثر الاصحاب بجوازها.

فاستدل بلزوم هذا المحذور علي بطلان التفسير المزبور و رجّح بذلك ساير التفاسير من القمار و الشطرنج، و إن قوّاه في ختام كلامه بدلالة ما ورد من النص الدال علي حرمة الاستقسام بالمعني المزبور في خصوص مورد نزوله.

قال قدس سره بعد ذكر التفاسير المزبورة: «و قيل علي الأوّل سبب التحريم أنّه دخول في علم الغيب و ضلال و اعتقاد أنّ ذلك طريق إليه افتراء علي اللّٰه و علي هذا يفهم منه تحريم الاستخارة المشهورة التي قال الأكثر بجوازها بل باستحبابها، و يدلّ عليه الرِّوايات فهو دليل بطلان الأوّل، أو لا يكون سبب التحريم ما ذكره بل مجرّد النصّ المخصوص بذلك الفعل الخاصّ و الوجه الخاصّ أو يكون الاستخارة خارجة عنه بالنص» «1».

و أنت تري أنّ مقصود هذا العَلَم الاستشهاد بنصوص الاستخارة المشهورة المتداولة و بفتاوي الاصحاب لابطال التفسير الأوّل و ما ذكر له من التوجيه؛ لما يستلزمه من محذور حرمة الاستخارة. و إن احتمل في ختام كلامه صحة التفسير المزبور و خروج الاستخارة المشهورة عن كبري المنع المستفاد من الآية- أعني بها كبري منع التعرف علي الغيب- بنصوص الاستخارة من باب التقييد أو التخصيص و علي أيّ حال لم يلتزم هذا العَلَم بدلالة الآية علي حرمة الاستخارة المشهورة و لم يحكم بحرمتها، كما توهّمه

______________________________

(1) زبدة البيان: ص 626.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 416

بعض «1» و تعجَّب من المحقق الأردبيلي بسبب زعمه ذلك.

هذا كله مضافاً إلي قوّة سند بعض ما ورد في الاستخارة ببعض

الطرق المذكورة من النصوص مما يقرب الصحة، بل يمكن الحكم باعتباره، و قد سبق البحث عن ذلك في بيان أنحاء الاستخارات مفصّلًا.

و في الختام نكتةٌ مهمّة لا ينبغي الغفلة عنها، و هي: أنّ طرق الاستدلال المزبورة لا يفيد كلّها اعتبار الاستخارة المزبورة علي منوال واحد. فانّ طريق التظافر يفيد اعتبار ما تظافرت فيه النصوص، كالاستخارة بالرقاع و المصحف.

و طريق التسامح يفيد اعتبار آحاد النصوص الواردة في أنحاء الاستخارات المزبورة.

و طريق التسامح فيد اعتبار آحاد النصوص الواردة في أنحاءِ الاستخارات المزبورة.

و طريق الانجبار يفيد اعتبار ما استقرّ عليه عمل مشهور القدماء كالاستخارة بالرقاع، كما شهد به الشهيد الأوّل.

______________________________

(1) راجع دروس تمهيدية في القواعد الفقهية: ج 2، ص 36.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 417

شرائط الاستخارة

اشارة

1- اشتراط التحيُّر و التردُّد.

2- عدم اشتراط وقت خاص.

3- هل يشترط المباشرة؟.

اشتراط التحيُّر و التردُّد

يستفاد من كثير من نصوص المقام كون تشريع الاستخارة في موارد التحيّر و التردّد في فعل شي ءٍ أو تركه. كما يظهر من نصوص المقام. مثل خبر اليسع القمي؛ حيث سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام بقوله: «اريد الشي ء فأستخير اللّٰه فيه، فلا يوفّق فيه الرّأي أفعلُه أو أدَعُه … » «1» قوله: «أستخير» أي أدعو و أطلب الخير من اللّٰه بالدّعاء، و لكن لا يزول بذلك تحيّري و تردّدي في الأمر، فعلّمه الامام عليه السلام الاستخارة بافتتاح المصحف و الأخذ بأوّل ما يراه من الآية.

و ما ورد فيها الأمر بأخذ ما يخطر بالقلب كما في موثق ابن فضّال، حيث سأل فيه ابن الجهم أبا الحسن عن السفر إلي مصر بطريق البر أو البحر- و كذا في صحيح ابن أسباط- فأجاب عليه السلام في الموثق بقوله: «فاستخر اللّٰه مائة مرّة، ثمّ انظر أيّ شي ءٍ يقع في قلبك فاعمل به» و قال في الصحيح: «تستخير اللّٰه مائة مرّة و مرّة، ثمّ تنظر فان عزم اللّٰه لك … » «2». فانّ ظاهر السؤال فيهما. و كذا قوله عليه السلام: «فانّ عزم اللّٰه» ظاهرٌ في تحيّر السائل و تردّده في الأمر؛ و إلّا لم يكن يطلب العزم من اللّٰه

______________________________

(1) الوسائل: ب 6، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

(2) الوسائل: ب 1، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 4 و 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 418

فيعطيه بالدعاء.

و نظيره قوله عليه السلام: «ثمّ تنظر ما يُلهمك تفعله … » في خبر المنصوري «1» و قوله عليه السلام: «فان احلولي بقلبك بعد الاستخارة بيعها، فبعها … »

في خبر ابن مهزيار «2» و قوله عليه السلام: «و اعزم لي … » في خبر جابر «3».

بل صرّح بذلك في صحيح خلف بن حمّاد؛ حيث جاءَ في سؤاله: «ربما أردت الأمر يفرق مني فريقان: أحدهما يأمرني، و الآخر ينهاني، قال: فقال إذا كنت كذلك فصلّ ركعتين و استخر اللّٰه مائة و مرّة و مرّة، ثمّ انظر أجزم الأمرين لك فافعله فان الخير فيه إن شاء اللّٰه» «4».

بل في مرفوعة علي بن محمد سُئل: «عن الأمر يمضي فيه و لا يجد أحداً يشاوره، فكيف يصنع؟ قال عليه السلام: شاور ربَّك» «5»، ثمّ علّمه كيفية الاستخارة بالرقاع، ثمّ قال عليه السلام في الختام: «هكذا شاور ربّك» «6».

و يمكن استفادة ذلك من لسان الأدعية في أكثر نصوص الاستخارة؛ من طلب التعرّف و الاشارة من اللّٰه علي ما فيه الخير و الانصراف عما كان فيه الشرّ في علم اللّٰه و طلب العزم علي ما فيه الخير.

كما يستفاد ذلك ممّا جاءَ في كلام السائل- في كثير من نصوص المقام- من تردّده في الأمر الذي يريد فعله، و إنّ جواب الامام عليه السلام و كلامه مبنيٌّ علي هذا

______________________________

(1) الوسائل: ب 4، من أبواب الصلاة الاستخارة، ح 3.

(2) المصدر: ب 5، ح 7.

(3) المصدر: ب 1، ح 3.

(4) المصدر: ح 6.

(5) الوسائل: ب 2، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 2.

(6) المصدر: ذيل الرواية المزبورة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 419

الفرض.

و يشكل القول بمشروعية الاستخارة بإحدي الطرق المذكورة في غير موارد التردّد و التحيّر في الأمر وجه ذلك أنّ الاستخارة بمعناها الشائع أمرٌ توقيفيٌ و بحاجة إلي دلالة دليل من الشارع، و إلّا لكان تشريعاً محرّماً. و الدليل الوارد

من الشارع إنّما دلّ علي جوازها عند التحيّر و الترديد في الفعل و الترك، علي النحو المذكور في تنقيح مورد الاستخارة.

و لا يستفاد من شي ءٍ من نصوص المقام- علي كثرتها و تظافرها- مشروعية الاستخارة مع عدم التردد و التحيّر في الفعل و الترك. بل لا يبعد دعوي استفادة نفي مشروعية الاستخارة عند عدم التحيّر من لسان مجموع نصوص المقام بمفهوم التحديد و نحوه.

نعم لا إشكال في جواز الاستخارة بمعني الدعاء و المناجاة و الصلاة و طلب الخير في الأمر الذي يريده مع عدم التحيّر و الترديد في أصل الفعل. و ما يشعر بذلك من النصوص إنّما هو ناظرٌ إلي هذا النوع من الاستخارة، إلّا أنّ الاستخارة بهذا المعني خارجة عن محل الكلام.

عدم اشتراط وقت خاص

و هل يشترط في الاستخارة وقت خاص؟ مقتضي التحقيق عدم دلالة النصوص علي اشتراط وقت خاص، نعم جاء في خبر اليسع القمي الأخذ بما يقع في القلب عند الفريضة، و في صحيح حمّاد «1» بعد صلاة الفجر، و في خبر المنصوري عقيب

______________________________

(1) الوسائل: ب 4، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 420

المكتوبة «1». و في خبر محمد بن خالد القسري في آخر ركعة من صلاة الليل «2».

و لكن في أكثر نصوص الاستخارة، لم يُعيَّن وقت خاص، و لمّا لا مفهوم لما عُيّن فيه الوقت، فلا دلالة له علي النهي عن ساير الأوقات. و من هنا لا ينعقد لسائر النصوص- المشار إلي بعضها آنفاً- ظهور في اشتراط وقت خاص، بل تُحمل هذه النصوص علي الأفضلية.

و من هنا قال في الحدائق: «الأفضل وقوعها في الأوقات الشريفة و الأماكن المنيفة» «3»؛ أي العالية، مقصوده العالية في الشرف و

المنزلة.

و قال في الجواهر: «كما أنّه من المكمّلات ملاحظة شرف المكان علي ما يومئ إليه خبر ابن أسباط و الجهم المتقدمان «4»، بل و الزمان كما يومئ إليه خبر اليسع المتقدم، بل و الحال كما في السجود و في حال الطهارة، و قال في فهرست الوسائل: باب استحبابها أي الاستخارة حتي في العبادات المندوبات و كيفياتها، و في ذلك عشر حديثاً، و أن الأفضل إيقاعها في الأوقات الشريفة و الأماكن الكريمة، خصوصاً عند قبر الحسين عليه السلام و هو جيد، و إن لم تكن النصوص صريحة في جميع ما ذكره، لكن يستفاد منها أن كل ما له مدخلية في استجابة الدعاء و بعد الشيطان عنه من مكان أو زمان أو غيرهما ينبغي ملاحظته؛ لأنّ المقام نوع منه كما يومئ إليه أيضاً- زيادة علي ما سمعت- خبر

______________________________

(1) المصدر: ح 3.

(2) المصدر: ح 2.

(3) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 531.

(4) حيث أمر الامام عليه السلام فيهما باتيان المسجد للاستخارة./ الوسائل: ب 1، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 4 و 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 421

اليسع القمي المتقدم». «1»

و الوجه الصناعي في ذلك، كما أشرنا إليه آنفاً: أنّ نصوص الاستخارة مطلقة من حيث الزمان، و لا يصلح شي ءٌ من نصوص المذكور فيه الوقت لتقييد الاطلاقات؛ لعدم مفهوم لهذه النصوص، بل غاية مدلولها إثبات مشروعية الاستخارة في هذه الاوقات المخصوصة و حمل المطلق علي المقيد في المثبتين إنّما هو مع إحراز اتحاد المطلوب، و الأمر في المقام بالعكس. فلا مناص حينئذٍ من حمل الأوامر المقيّدة علي الأفضلية.

هل يشترط المباشرة؟

وقع الكلام في جواز النيابة في الاستخارة. وجه الكلام أنّ نصوص الاستخارة ظاهرة في مباشرة صاحب الحاجة في

الاستخارة لنفسها؛ لما ورد في جميعها أمر المخاطب السائل بها، بل مطلق الأوامر الواردة في الخطابات التكليفية العبادية ظاهرة في المباشرة. و لم يدلّ واحد من النصوص الواردة في الاستخارة علي جواز النيابة فيها بالخصوص.

كما أشار إلي ذلك في الحدائق بقوله:

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 162- 161.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 422

«المفهوم من ظواهر الأخبار الواردة في الاستخارة أنّ صاحب الحاجة هو المباشر للاستخارة، و لم أقف علي نص صريح أو ظاهر في الاستنابة فيها، إلّا أنّ من عاصرناهم من العلماء كلهم علي العمل بالنيابة» «1».

ثمّ نقل عن شيخه سليمان البحراني في الاستدلال علي جواز النيابة في الاستخارة وجوهاً، ثمّ قال:

«و أقربها إلي الاعتبار وجوه أربعة:

أحدها: ما ذكره من قوله: من القواعد أنّ كل ما يصح مباشرته يصح التوكيل فيه، إلّا في مواضع مخصوصة ذكرها العلماء و اختلفوا في أشياء منها، و ليس هذا الموضع من تلك المواضع.

و ثانيها: ما ذكره من أنّ العلماء في زماننا مطبقون علي استعمال ذلك، و لم نجد أحداً من مشايخنا الذين عاصرناهم يتوقف فيه و نقلوا عن مشايخهم نحو ذلك. و لعله كاف في مثل ذلك.

ثالثها: أنّ الاستخارة مشاورة اللّٰه تعالي، كما ورد به النص عن مولانا الصادق عليه السلام. و لا ريب أنّ المشاورة تصح النيابة فيها، فان من استشار أحداً فقد يستشير بنفسه و قد يكلف من يستشير له، كما في استشارة علي بن مهزيار للجواد عليه السلام.

و رابعها: أنّ مشاورة المؤمن نوع من أنواع الاستخارة. و قد ورد في رواية علي بن مهزيار ما هو صريح في النيابة فيها، و لا فرق بين هذا النوع و غيره» «2».

ثمّ قال: «و مما

خطر علي البال في هذه الحال أنّه لا ريب أنّ الاستخارة بأيّ المعاني المتقدمة ترجع إلي الطلب منه سبحانه، و لا ريب أنّه من المتفق عليه بين ذوي العقول و ساعدت عليه المنقول عن آل الرسول صلي الله عليه و آله هو أنّ من طلب حاجة من سلطان عظيم الشأن فان الانجح في قضائها و الأرجح في حصولها و إمضائها هو أن يوسّط بعض مقرَّبي حضرة ذلك السلطان في التماسها منه، بحيث يكون نائباً عن صاحب الحاجة في سؤالها من ذلك السلطان، و النيابة في

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 532.

(2) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 533- 532.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 423

الاستخارة منه سبحانه من هذا القبيل، و هذا بحمد اللّٰه أوضح برهان علي ذلك و دليل» «1».

و لكن يرد علي الوجه الأوّل: أنّ كبري «كل ما يصح مباشرته يصح التوكيل فيه» غير مسلّمة في التكليفيات، بل مطلق العباديات و ذلك لأنّ إطلاق صيغة الأمر في التكليفيات يقتضي العينية؛ بمعني أنّ مقتضي توجه الخطاب التكليفي إلي كل مكلّف وجوب الاتيان بالواجب علي نفسه، سواءٌ أتي به غيره أم لا. و هذا هو المقصود من أصالة العينية.

و أيضاً مقتضي ذلك وجوب المباشرة عليه و عدم كفاية إتيان الغير عنه نيابة. فانّ خطاب صلّ و صُم تكليف كلّ مكلّف بالصلاة و الصيام بحيث يصدق أنّه صلّي و صام حتي يتحقق به امتثال الأمر. و لا يصدق و لا يتحقق ذلك بفعل النائب كما هو واضح.

نعم في المعاملات من العقود و الايقاعات، حتي مثل النكاح و الطلاق يكن الالتزام بالكبري المزبورة؛ نظراً إلي أنّ الغرض من تشريعها أسباباً لآثارها، يتحقق بفعل النائب و

من هنا إسنادها إلي المنوب عنه عرفاً؛ حيث إنّ النائب بمنزلته.

و يرد علي الوجه الرابع: أنّ الاستخارة و إن كانت مشاورة اللّٰه، كما ورد عن الصادق أنّه قال:

«إذا أراد أحدكم أمراً فلا يشاور فيه أحداً من الناس حتي يبدأ فيشاور اللّٰه تبارك و تعالي، قال: قلت: جعلت فداك و ما مشاورة اللّٰه؟ قال عليه السلام: تبتدأ فتستخير اللّٰه فيه أوّلًا ثمّ

______________________________

(1) المصدر: ص 533.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 424

تشاور فيه، فانه إذا بدأ باللّٰه أجري له الخيرة علي لسان من يشاء من الخلق» «1».

و قوله عليه السلام: «هكذا شاور ربك» في مرفوعة علي بن محمد «2».

و لكن مشاورة الناس ليس من قبيل الاستخارة ما لم يُسبق بمقدماتها، كما هو واضح، اللهم إلّا بمعناها اللغوي، و هو خارج عن المعني الاصطلاحي المقصود من نصوصها.

نعم لا يخلو الوجهان الوسطان من قوّة، لو أغمضنا عن المناقشة في اعتبار الشهرة الفتوائية، لا سيما بين المتأخرين، و عن كون مشاورة اللّٰه من غير سنخ مشاورة الناس القابلة للنيابة، في مثل المقام مما يتسامح في أدلّته. و أما الوجه الذي ذكرها صاحب الحدائق، فهو في الحقيقة تتميمٌ و تكميل للوجه الثالث، كما لا يخفي علي المتأمّل.

هذا و لكن في الجواهر- بعد الاشارة إلي ما أورده في الحدائق- أنكر كون الاستنابة المتعارفة بين المتشرعة في الاستخارة من قبيل الاستنابة في الاستخارة حقيقة، بل من قبيل الاستخارة بالمباشرة. فانه بعد التصريح بأنّ الاستخارة بالمشورة ليست من قبيل النيابة قطعاً، قال: «بل قد يقال: إنّه ليس من النيابة ما لو دعا المستخير لنفسه و سأل من ربه صلاحه و استناب غيره في قبض السبحة أو فتح المصحف أو نحوهما و

إن دعا هو معه، و لعل الاستنابة المتعارفة في أيدينا من هذا القبيل» «3».

______________________________

(1) الوسائل: ب 5، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 2.

(2) المصدر: ب 2، ح 2.

(3) جواهر الكلام: ج 12، ص 176.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 425

و لكن الذي أنكره كونه من النيابة لا ربط له بمحل الكلام و النزاع؛ لأنّ الكلام في أنّ ما تعارف بين المتشرعة من الاستنابة في افتتاح المصحف للاستخارة أو في الاستخارة بالرقاع أو بأخذ السبحة، هل يستفاد جوازه من النصوص أو لا؟. و لا ريب في تحقق النيابة في افتتاح المصحف أو أخذ الرقاع أو السبحة للغير. و أما الاستخارة بمعني الدعاء مقدّمة لذلك فهي خارجة عن محل الكلام. و في المتعارف ربما لا يصدر من المنوب عنه غير النية و طلب الخيرة، من دون دعاءٍ.

و تحصّل من جميع ما نقلناه و بيّناه أنّ مقتضي التحقيق جواز النيابة في الاستخارة. و عمدة الدليل عليه هي الوجوه الثلاثة الأولي المنقولة عن الشيخ سليمان.

و لكن مقتضي التحقيق في الاستدلال أنّ الاستخارة و إن كانت من العبادات؛ لتقوّمها بالدّعاء و التوكل علي اللّٰه و التوسل و تفويض الأمر إليه، إلّا أنّها كالقرعة جعلت طريقاً و وسيلة للتعرف و الاستطلاع علي الخير المكنون في علم اللّٰه و ما تعلّقت به إرادته تعالي من الخِيَرة. فكيف أنّ القرعة بيد الحاكم، بل وقع الكلام في صحة القرعة و جوازها بيد المتنازعين و أرباب الحاجة بعد الاتفاق علي جواز اقتراع الحاكم؟ فكذلك الاستخارة بلا فرق بينها و بين القرعة من هذه الجهة، مع أنّ في القرعة أيضاً وردت الأدعية المأثورة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 426

آداب الاستخارة

اشارة

1-

كراهة التكلُّم و استحباب تركه عند الاستخارة.

2- لزوم الرضا بمؤدّي الاستخارة.

3- استحباب تعلُّم الاستخارة.

كراهة التكلم و استحباب تركه عند الاستخارة

يظهر من النصوص و الفتاوي كراهة التكلّم مع الناس و استحباب تركه في أثناءِ الاستخارة.

أما النصوص:

فمنها: صحيح شهاب بن عبد ربه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان أبي إذا أراد الاستخارة في أمر توضأ و صلي ركعتين، و إن كانت الخادمة لتكلّمه، فيقول: سبحان اللّٰه لا يتكلم حتي يفرغ» «1».

و منها: معتبرة علي بن مهزيار قال: «كتب أبو جعفر الثاني إلي إبراهيم بن شيبة فهمت ما استأمرت فيه من أمر ضيعتك التي تعرض لك السلطان فيها، فاستخر اللّٰه مائة مرّة: خيرة في عافية، فان احلولي بقلبك بعد الاستخارة بيعها، فبعها و استبدل غيرها إن شاء اللّٰه، و لا تتكلّم بين أضعاف الاستخارة حتي تتم المائة إن شاء اللّٰه» «2».

و قد استفاد صاحب الجواهر من خبر اليسع القمي منع التكلّم في أثناء الاستخارة؛ حيث قال: «و يستفاد منها أيضاً القطع في الدعاء علي الوتر، و عدم

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 8.

(2) المصدر: ب 5، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 427

التكلم في أثناء الاستخارة» «1».

و النهي عن التكلّم في معتبرة علي بن مهزيار محمول علي استحباب الترك و كراهة التكلم؛ للاجماع؛ حيث لم يفت كل من تعرّض للاستخارة بالمعني الشائع بحرمة التكلّم، بل صرّحوا بكراهته، بل ينبغي عدّ ذلك من ضرورة الفقه.

هذا، مع أنّ لفظ الاستخارة في هذه المعتبرة ليس بمعني الاستخارات المبحوث عنها في المقام، بل بمعني الدعاء، كما هو واضحٌ. و أما صحيح شهاب فغاية مدلوله استحباب الترك، لعدم اشتماله علي النهي و ترك فعل من الامام عليه السلام لا

يثبت حرمته.

و من آداب الاستخارة التطهير من الحدث الأكبر و الأصغر و من الخبث و رعاية كل ما يشترط في الصلاة و قراءة القرآن و الدعاء. و ذلك لأنّ زمان الاستخارة لحظة اتصال المستخير بعناية ربّ العالمين و خالق السماوات و الأرضين و وقت الخلوة مع إله العالمين و المواجهة معه بالدعاء و التضرع و التوسل إليه. و هذه الحالة حالة عبادة، و لا سيما إذا أراد الاتيان بصلاة الاستخارة قبلها. و ينبغي له في هذه الحالة أن يفرغ قلبه عن شواغل الدنيا و شهوات النفس و وساوسها. و أن يوجِدَ في نفسه و صقع قلبه حالة التوكل علي اللّٰه سبحانه، و تفويض الأمر إليه تعالي، و حالة الخضوع الباطني و الخشوع القلبي لربّه الجليل و الاعتراف بجهله و عجزه في محضر خالقه العليم الحكيم، و حالة التوسل إلي اللّٰه بوسيلة محمد و آل بيته الطاهرين المعصومين (صلوات

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 162.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 428

اللّٰه عليهم أجمعين).

لزوم الرضا بمؤدّي الاستخارة

لا ريب في أنّ المتوكل علي اللّٰه و المفوّض أمره إليه تعالي ينبغي له أن يرضي بقضاء اللّٰه و بما قدّر له مولاه من شئون العبودية و قضاءِ حق المولوية. و لا سيما في أمر فوّض العبد أمره إليه سبحانه و توكّل فيه علي ساحته باختيار نفسه و استدعائه الخيرة من ساحة مولاه الجليل و خالقه الحكيم.

و عليه فلزوم الرضا بمؤدّي الاستخارة مقتضي القاعدة بل مما يحكم به العقل قضاءً لحق العبودية و المولوية. و من لوازم الاعتماد و التوكل علي اللّٰه و تفويض الأمر إليه سبحانه.

و قد دلّ علي ذلك أيضاً بالخصوص بعض نصوص المقام. كما في مرسل عثمان

بن عيسي قال: «قلت من أكرم الخلق علي اللّٰه؟ قال عليه السلام: أكثرهم ذكراً للّٰه و أعملهم بطاعته، قلت: من أبغض الخلق إلي اللّٰه؟ قال عليه السلام: من يتهم اللّٰه، قلت: و أحد يتّهم اللّٰه؟ قال عليه السلام: نعم من استخار اللّٰه فجاءته الخيرة بما يكره فسخط فذلك الذي يتّهم اللّٰه» «1».

و في خبر هارون بن خارجة، قال: «قال أبو عبد اللّه من استخار اللّٰه عزّ و جلّ مرّة واحدة و هو راضٍ بما صنع اللّٰه له خار اللّٰه له حتماً» «2»

و من هذا القبيل ما رواه الحسين بن محمد الطوسي في أماليه بسنده عن علي بن محمد عن آبائه عليهم السلام، قال: قال الصادق عليه السلام: «إذا عرضت لأحدكم حاجة، فليستشر اللّٰه ربّه، فان أشار عليه اتبع، و إن لم يُشِر عليه فتوقف. قال: قلت: يا سيّدي

______________________________

(1) الوسائل: ب 7، من صلاة الاستخارة، ح 3.

(2) المصدر: ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 429

كيف أعلم ذلك؟ قال عليه السلام: يسجد عقيب المكتوبة و يقول: اللهم خر لي مائة مرّة، ثمّ يتوسّل بنا و يصلّي علينا و يستشفع بنا، ثمّ تنظر ما يلهمك تفعله، فهو الذي أشار عليك به» «1».

قوله: «فان أشار عليه اتّبع و إن لم يُشر عليه فتوقف» يدل علي لزوم الرضا بما أفاده الاستخارة و النهي عن مخالفته.

و لكن لا يجب العمل بمؤدّي الاستخارة شرعاً، و ذلك لعدم دليل علي ذلك. و أما الرضا بمؤدّاه فهو أمر قلبي و معناه أن يرضي قلبه بما هو خير له عند اللّٰه تعالي. و لا يلازم ذلك وجوب العمل شرعاً بحيث يعاقب علي تركه. فانّ ذلك بحاجة إلي الدليل، و الوجه الأوّل

قاصر عن إثبات ذلك. و أما الروايتان، فمضافاً إلي قصورهما دلالةً عن إثبات ذلك، لا يخفي ضعف سندهما بالارسال.

استحباب تعلُّم الاستخارة

و في الختام ينبغي أن أذكر نكتة لطيفة، و هي أنّ القرّاء الفضلاء الكرام بعد دراسة هذه الرسالة و الاحاطة بما نقلناه من نصوص الاستخارة و كلمات فحول الفقهاء و ما سردناه و بيّناه في مطاوي البحث، يعترفون حق الاعتراف بأنّ للاستخارة مقدمات و خصوصيات و شرائط و آداباً و أدعية تحتاج إلي تعلّم. و علي ضوء ما جاءَ في هذه الرسالة يرتفع تعجُّبهم البدوي من احتياج الاستخارة إلي التعلّم و من استقرار سيرة أهل البيت عليهم السلام علي تعلّمها، كما ورد عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): «إنّا كنّا نتعلّم الاستخارة كما نتعلّم السورة من القرآن» «2».

______________________________

(1) المصدر: ب 4، ح 3.

(2) الوسائل: ب 1، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 9 و 10.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 430

و قال الصادق عليه السلام: «و كان أبي يعلّمني الاستخارة، كما يعلّمني السورة من القرآن» «1».

و دعوي اختصاص الاستخارة في هذه النصوص ببعض معانيها و أقسامها- المذكورة في النصوص و الفتاويٰ-، لا وجه لها، بعد استعمال لفظ الاستخارة في النصوص الواردة في الاستخارة المتداولة بأنحائها.

هذا تمام الكلام في الاستخارة علي ما خطر ببالي مع ضيق الفرصة للتحقيق، و أظن مع ذلك أنّ هذه الرسالة من أكمل و أدقّ ما صُنّف في هذا الموضوع إلي زماننا.

و الحمد للّٰه أوّلًا و آخراً و صلواته الوافرة علي محمد و آله الطاهرين سرمداً.

______________________________

(1) المصدر: ب 7، ح 9.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 431

يبحث هذا الكتاب عن أهم القواعد المفتاحية الجارية في عامّة أبواب الفقه.

و هي:

1- قاعدة اشتراك الأحكام بين جميع المكلّفين، من أيّة طائفة و ثقافة في جميع الأعصار، و تنفي نظرية الهرمنيوطيقيا بأدلّتها القاطعة.

2- قاعدة الاكراه الباحثة عن تخلية سبيل الانسان المكرَه من خوف الخطر برفع التكليف عنه.

3- قاعدة الأهمية الحاكمة بتقديم أهم التكليفين اللذين تردّد الانسان في امتثالهما.

4- قاعدتا القرعة و الاستخارة الرافعتان للمشاكل الصعبة التي يواجهها الانسان في مختلف مجالات العيش بتعيين الحق و إراءة الواقع، مع تحقيق عميق جامعٍ في الاستخارة لم يُسبق بمثله.

و جدير بالذكر أنّ بعض هذه القواعد اصوليٌّ، و إنّما بحثنا عنه هاهنا؛ جرياً علي عادة الباحثين، و نظراً إلي عدم استيفاء البحث عنه في علم الاصول.

بحثنا في ختام كلّ قاعدة عن تطبيقاتها الفقهية؛ و هي تمارين قائمة بدراسة نماذج من موارد استشهاد أعاظم الفقهاءِ بنصّ القاعدة.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.